«العدو» لساتياجيت راي: السينما في خضم السياسة … في شكل موارب/ ابراهيم العريس
ما إن يذكر اسم السينمائي الهندي الراحل قبل ربع قرن من الآن، ساتياجيت راي، حتى تتبادر إلى ذهن المهتمين بالسينما في أبعادها الأكثر جدية وقوة، صورة مخرج مسيّس أنفق جهوده وطاقاته طوال مساره السينمائي المدهش، على تحقيق أفلام سياسية مشاكسة. والحقيقة أن ليس ثمة ما هو أقل صواباً من هذه الصورة، حتى وإن كان يمكننا أن نلاحظ في العدد الأكبر من أفلام هذا البنغالي الهندي المبدع، أبعاداً اجتماعية بل حتى اقتصادية أكيدة. فالحال أن راي كان مقتصداً في الحديث السياسي، ولكن في أفلامه أقل مما في أقواله وكتاباته كما سوف نرى. وذلك الى درجة أن السياسة لا تحضر كثيراً ولا حتى في أفلامه على رغم «اجتماعيّة» هذه الأخيرة.
ونعرف أن ساتياجيت راي قد حقق طوال حياته السينمائية الطويلة، نحو ثلاثين فيلماً… أخفق في بعضها ونجح في بعضها الآخر. وهو في بعض الأحيان حقق أعمالاً فنية خالدة. لكنه في الحالات كلها ظل أميناً لفن السينما ولمجتمعه وأصالته، كما لم يفته أن يظل منفتحاً على العالم وعلى الآخر. وتابع الابتكار الموسيقي والرسم والكتابة، قصصاً ونقداً سينمائياً، حيث إنه عاش فناناً كاملاً… ومات فناناً كاملاً… ليترك أعمالاً ظلت على الدوام هامشية… ولكن في الهامش الذي يصنع الفن الكبير.
ولقد ترك راي الى جانب أفلامه العديدة، كثيراً من النصوص النقدية والتصريحات الصحافية وحتى القصص والتعليقات النقدية على أفلامه وأفلام الآخرين. وهو نفسه حين سئل ذات مرة عن نظرته الى الأثر الذي تركته أفلامه في الحياة الاجتماعية لبلاده أجاب ببساطة ووضوح: «بالنسبة الى دوري الاجتماعي كمخرج سينمائي، يمكنكم تلمسه من خلال الموقف الذي أعبر عنه في فيلم «العدو». ففي هذا الفيلم لدينا شقيقان أصغرهما ينتمي الى جماعة الناكساليت، أما الأكبر فليس ثمة أدنى شك في أنه معجب بأخيه الصغير لشجاعته ومعتقداته. الفيلم لا يحمل أي إبهام في هذا السياق. ومع هذا وجدتني، كمخرج، أكثر اهتماماً بالأخ الأكبر، مني بالأصغر، وذلك ببساطة لأن شخصية الأكبر شخصية متأرجحة. فهذا الشخص، انطلاقاً من هويته السيكولوجية، ومن كونه كائناً بشرياً مملوءاً بالشكوك، بدا لي أكثر إثارة للاهتمام». والحقيقة أن أحداً لم يكن ليتصوّر عند عرض هذا الفيلم في العام 1970، أن ساتياجيت سوف يخصه بتلك اللفتة التي تدنو كثيراً من الإشارة البيوغرافية. فالحال أنه كان من الصعب دائماً استخلاص أي موقف سياسي من المتن السينمائي لمخرج كان يبدو عليه دائماً أن همه اجتماعيّ وأخلاقيّ، حتى وإن كان راي قد اقتبس الفيلم من رواية للكاتب المعروف بوضوح مواقفه السياسية، سوسيل غانغوبادايي. ومهما يكن من أمر فإن «العدو» شكل في سينما راي الجزء الأول من ثلاثية سينمائية تدور من حول مدينة كلكوتا ما خفف من وطأة البعد السياسي للفيلم.
تقع أحداث «العدو» خلال حقبة من الزمن عرفت فيها الهند قدراً كبيراً من القلاقل السياسية التي تلت تقسيم شبه القارة وتدفق ملايين اللاجئين كنتيجة لذلك. ولقد أجبرت تلك الأحداث طالب الطب سيدهارتا على ترك دراسته إثر إبعاد أبيه من وظيفته، غير أن مشكلته تتفاقم إذ يعجز عن الحصول على وظيفة – ويصور لنا راي ذلك العجز في سلسلة من مشاهد تصور سيدهارتا وهو يتقدم الى وظيفة تلو الأخرى ويُرفض إثر أسئلة بالغة العبثية تلقى عليه. وإذا كان الشاب يجد بعض العزاء لدى حبيبته كيا التي تعيش هي الأخرى مشاكل عائلية جمة، فإن كون أخته الصبية قد باتت المعيل الوحيد للعائلة، بعد وفاة الأب في مفتتح الفيلم. والحال أن ساتياجيت راي يصور عبر شخصية سيدهارتا تحديداً، ولكن من خلال بقية الشخصيات التي تدور في فلك حياته، تلك الأوضاع السيئة التي سبق له أن صورها في أفلامه السابقة، والتي سوف يواصل تصويرها في أفلامه اللاحقة والتي سوف تكون نهاياتها، وعلى شاكلة نهاية «العدو» بالتحديد، نهاية بالغة السوداوية.
نعرف أن ساتياجيت راي، بقدر ما كانت مساعيه في أفلامه سينمائية وجمالية، كان حين يدنو من المسائل السياسية وبالتالي الاجتماعية، يتصور فقط أنه إنما يلعب دوراً اجتماعياً داخل بلده فقط، من دون أن يُخيّل إليه أن النجاح الخارجي – وهو فاق دائماً نجاحه الداخلي – لأفلامه سوف ينقل تلك الصور الى العالم. وهو قال حول هذا: «لم أكن لأتصور أبداً أن أياً من أفلامي، وخصوصاً «باتر بانشالاي» – فيلمه الأول المؤلف من ثلاثية باتت من أشهر الأفلام الاجتماعية في العالم السينيفيلي- سيعرض ويشاهد في هذا البلد أو في أي من البلدان الأخرى. ومن هنا، فإن واقع أنها عرضت وشوهدت هو إشارة الى أنك إذا ما كنت قادراً على تصوير مشاعر كونية في أفلامك، وعلاقات كونية وأحاسيس وشخصيات حقيقية، سيكون في إمكانك أن تجتاز بعض الحدود لتصل الى الآخرين، حتى وإن كانوا من غير البنغاليين». وحول هذا الموضوع نفسه، ولكن من منظور آخر، يضيف راي قائلاً: «إن المتفرجين عندنا يحبون أن تكون هناك في الفيلم شخصية مركزية، أو شخصيتان مركزيتان، يمكنهم أن يتماهوا معها أو معهما، كما يحبون أن تكون ثمة حكاية ذات خط سردي مستقيم. في بعض أفلام تعددت المجموعات حيث ثمة المجموعة الرقم واحد والرقم اثنان وثلاثة وهكذا… ثم عودة الى المجموعة الأولى… بدا الأمر ذا تركيبة موسيقية في غاية الجمال، لكن المتفرجين لم يحبوا هذا. وأبدوا ردود فعل شديدة الحمق… حتى المقالات النقدية الصحافية لم تكن مهمة أبداً…».
أما بالنسبة الى السوداوية التي طبعت «العدو» وربما كذلك معظم أفلام راي كما أشرنا، فإن هذا الأخير لا يوافق على حضورها الكلي في أفلامه قائلاً، أن الفيلم السوداوي الوحيد الذي حققه خلال مساره الفني إنما كان «الوسيط» الذي حققه بعد سنوات عديدة من تحقيق «العدو». وهو يضيف في هذا الصدد: «ولم يكن في مستطاعي إلا أن أحققه على ذلك النحو في وقت كنت أحس أن الفساد الحاد، يحيط بي في كل مكان… وكنت أسمع الناس يتكلمون عن الفساد في كلكتا. كان الناس يعرفون، على سبيل المثل، أن إنشاء الطرقات وأنفاق السكة الحديد بالخرسانة المسلحة، كان يُعهد به الى مقاولين يستخدمون الأموال العامة والخرسانة لبناء بيوتهم الخاصة. ومن هنا فإن «الوسيط» هو فيلم عن هذا النوع من الفساد، وهو فيلم يعبر حقاً عن رأيي في أن ليس ثمة حل لهذه المعضلة». أما بالنسبة الى «العدو»، فإن راي لا يراه سوداوياً بل شديد الواقعية «يصف الأمور كما هي، أو بالأحرى كما حدثت في زمن روائي سابق على إنتاج الفيلم».
مهما يكن من أمر فإن ساتياجيت لم ينكر في نهاية الأمر الطابع السياسي المتعمّد لهذا الفيلم، بل إنه أكثر من هذا عرف هو نفسه كيف يموضعه ضمن إطار تلك السينما الكبيرة التي اتسمت دائماً بالبعد السياسي في مراحل متنوعة من تاريخ السينما بقوله: «تسألونني عن مخرجين كرسوا حياتهم وأعمالهم لقضايا سياسية كانوا معنيين بها؟ حسناً… إيزنشتاين قدم عوناً لثورة كانت قد انتصرت واستتب الأمر لها قبل تدخله. حال ايزنشتاين تقول لنا ان المخرج يلعب دوراً إيجابياً… ويمكنه أن يقدم عوناً كبيراً للثورة. ولكن لا يستطيع أن يفعل شيئاً إن لم تكن هناك ثورة انتصرت مسبقاً بالفعل. أما المخرجة ليني ريفنشتال مخرجة هتلر المفضلة، فكانت تساعد على بناء أسطورة هي الأيديولوجيا النازية. وفي ذلك الزمن كان النازيون أقوياء جداً. خلال أولى سنوات الفاشية، حتى المثقفون كانوا مرتبكين وقد اختلطت الأمور عليهم. عندما كان طاغور نفسه يعتقد أول الأمر أن ما يقوم به موسوليني كان أمراً رائعاً، وسيلعب دوراً إيجابياً. وظلت تلك معتقدات طاغور حتى نبهه رومان رولان الى انه مخطئ في نظرته، وأنه لم يدرك أبداً كل ما يترتب على استشراء الفاشية».
والحقيقة أننا مهما قلنا عن ساتياجيت راي (1921 -1992) وعن أفلامه ولا سيما عن مقاربتها الاجتماعية المتواصلة من قضايا بلاده وبخاصة قضايا البنغال بشكل أخرجه من السياق المعتاد والناجح للسينما الهندية التجارية، يبقى علينا أن نشير إلى أن الأقوال السياسية في أحاديثه كانت نادرة، كما لو أنه كان يفضل ان يترك لأفلامه، مؤوّلة من طريق النقاد، ومرتبطة بتفاعل الجمهور، النخبوي دائماً، معها، مهمة استيعاب البعد السياسي الماثل فيها.
الحياة