«كتاب الصورة» للفرنسي جان لوك غودار: الخروج عن الصواب السياسي/ سليم البيك٭
قد يتذكر أحدنا تلك اللقطات في فيلم «ويكِند» 1967 للفرنسي جان لوك غودار، حيث نشاهد سيارة على الطريق العام، تخرج عن الطريق، تسير على الحشائش متخطية خط السيارات الطويل العالق، فتخرج الصورةُ عن الكادر، متعمداً بذلك -غودار- أن يُخرج الصورة عن مكانها وليس السيارة فقط عن مسارها. وهذا ترميز لعموم الشغل «الغوداري» في السينما، إذ لطالما كان خارج الإطار، خارج المسار العام، خارج المألوف، أسلوباً وموضوعاً، وغودار الاسم الأبرز في «الموجة الجديدة» الفرنسية التي كانت حركة ثورية في مسار السينما العام في العالم.
تلك الثورية التي أخرج بها غودار تلك اللقطات، والكثير غيرها في أفلام عديدة، نلحظها، من بداية مسيرته في فيلم «حتى آخر نفس» (1960) باستحداث «الموجة الجديدة» إلى اليوم. وفيلمه الأخير – موضوع هذه الأسطر- شارك في مهرجان كان العام الماضي، ولم (ولن) ينزل إلى الصالات السينمائية، بل تعرضه حالياً قناة «آرتي» على شاشتها وموقعها الإلكتروني.
الفيلم الذي استحدث مهرجان كان جائزة خاصة كي يمنحها له، هي «السعفة الذهبية الخاصة» التي تتضمن تكريماً لعموم الشغل الغوداري، إضافة لكونها جائزة خاصة لهذا الفيلم، قد يكون الأخير للمخرج المسن وفي رصيده عشرات الأفلام بين طويل وقصير وتجريبي ووثائقي.
فيلمه هذا، «كتاب الصورة»، ليس روائياً، لكنه ليس وثائقياً بالمعنى التقليدي، هو أقرب ليكون تحقيقاً سينمائياً فكرياً تجريبياً، آتيا كامتداد لأفلامه الأخيرة شكلاً ومضموناً، كـ«وداعاً أيتها اللغة» (2014) و «فيلم اشتراكية» (2010)، شكلاً من حيث التجريبية ومضموناً من حيث البعد السياسي في الفيلم، سياسي بالمعنى المباشر (فلسطين – مثلاً- حاضرة دائماً) وبالمعنى الفني التمردي على السائد. وهذه أفلام، الأخير منها تحديداً، يمكن أن تحيلنا إلى الفيلم التجريبي (شديد الشبه بـ «كتاب الصورة»)، «آخِرُ إنكلترا» (1987)، للبريطاني ديريك جارمان، حيث أبوكالوبتية تتخفى في ثنايا العالم الذي يتم تصويره تجريبياً (صوتاً وصورة) في الفيلم، أو في الفيلمين.
الفيلم الذي أتى بألوان وفلترات متباينة بشكل يمكن اعتباره متطرفاً، بانقطاعات للصوت، بتفاوت بين الصور والصورة، الذي أتى بدون سيناريو ولا شخصيات ولا تتابع سردي بين المَشاهد، أتى بشغل مونتاج تجريبي/ثوري، غودار نفسه لم يفعله من قبل، إلا، تجاوزاً، في مشروعه الفيلمي الطويل، الذي امتد على عقدَي الثمانينيات والتسعينيات «تاريخ/تواريخ السينما»، حيث اشتغل، في فيلمه الأخير، على مونتاج لصور ورسومات ولوحات وفيديوها أصلية ومؤرشفة، بأسلوب كولاجي، مع دمج بصوت، هو موسيقى وضجيج، وكذلك تعليقات صوتية لغودار (فويس أوفر)، ينطبق ذلك على الفيلمين، أما السابق منهما، «تاريخ/تواريخ السينما» فقد أتى في 8 حلقات (3 ساعات ونصف الساعة)، وفي مجلد أصدرته دار «غاليمار» الفرنسية.
في «كتاب الصورة» قدم غودار «مقالاً/دراسةً» استهله عن السينما والعالم، ماراً بحروب واضطهادات في العالم أجمع، بفلسطين الذي يذكرها مراراً في عموم أفلامه السياسية، انتهاءً في البلدان العربية التي شهدت ثورات، تونس تحديداً، متخللاً كل ذلك مشاهد من أفلام كلاسيكية وحديثة، منها عربية كـ «باب الحديد» (1958) ليوسف شاهين.
لم تأتِ الصور والنصوص في الفيلم كإحالات من أفلام إلى مَشاهد واقعية، كأن الواقع هو السابق، بل أتت كإحالات من مَشاهد واقعية (أرشيفية وإخبارية) وراهنة إلى أفلام كلاسيكية قد تكون مَشاهدها مطبوعة في ذاكرة العالم، وذلك ضمن شغل المونتاج الجوهري في الفيلم، إذ ارتقى غودار في فيلمه هذا بجمالية وأساسية العمل المونتاجي.
أتى شغله هذا بمنطق سيرغي أيزنشتاين، الذي نظر في المونتاج وصارت أفلامه دروساً تُعلم في كيف يقدم المونتاج رسالة صانع الفيلم (فيلم غودار هذا هو كذلك درسٌ في تعليم استخدامات المونتاج)، كيف يقول صانع الفيلم بمونتاجه، برص الصور في تتابع فيه تناقضٌ أو تهكمٌ أو ربطٌ سببي، فتوصل، معاً وبهذا التقطيع وتواتره وترتيبه، رسالةً ما أمكن للصور، دون ذلك الرص والمونتاج، إيصاله.
كانت في الفيلم – مثلاً- مَشاهد عدة، من بينها للإيطالي باولو بازوليني، من فيلم «سالو، أو 120 يوم في سدوم» (1975) حيث العبودية الجنسية، ملحوقة بلقطات حية من واقعنا الراهن والعبودية الرأسمالية، أتت استتباعاً لمشاهد بازوليني، كأن الواقع شديد الارتباط بخيال السينما، وليس العكس، كأن الواقع انعكاس للسينما وليس العكس، كأن العالم والمنطق انقلب لسبب وحيد هو وحشية هذا الواقع الذي لم تكن خيالات السينمائيين بعيدة عنه.
الفيلم الذي اعتمد في بنيته على ما يمكن اعتباره «أخطاء»، مونتاجاً وتصويراً، في الصوت والألوان والإطارات، كان، أخيراً، شديد الارتباط بالواقع الذي بدا، لذلك، مجموعة من الأخطاء التي نعيشها في زمننا الراهن، زمن التوحش بين تطرفين: البدائية من جهة، والرأسمالية من جهة ثانية. الثورية في تناول كل ذلك كان رد غودار، لا فقط بالتحية التي كانها الفيلم للثورات العربية، بشكلها الأولي التلقائي لا بما تحولت إليه من حروب أهلية، بل بالشكل التجريبي الذي صنع عليه فيلمَه، بل بالشكل المتطرف في تجريبيته كأنه – غودار- أراد، بدون مساومة، التخلص من حالة «الصواب السياسي» التي تعيشها السينما، كنتاج وحالة فنيتين، فما أظهره غودار هو أن الواقع انعكاس للسينما (وليس العكس)، الواقع الراهن انعكاس لكلاسيك السينما، وفي هذه الأخيرة من الوحشية ما امتدت إليه مخيلةُ الإنسان، وحشية نعيشها اليوم، لا نتخيلها، بل نعايشها. الرد على كل ذلك كان في الواقع ثورات شعوب تخرج عن الإطار المرسوم لها، تماماً كما خرج مرة غودار في فيلمه بسيارة عن المسار العام، مُخرجاً الصورة عن إطارها، وكان في تجريب ثوري لم تصله السينما من قبل (قد نستثني إنغمار بيرغمان وتحديداً في فيلمه «بيرسونا»، عام 1967)، تجريبٌ نشاهده اليوم في «كتاب الصورة» (Le Livre d’image)، فمَن الأجدر من جان لوك غودار ليقوم بذلك؟
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا
القدس العربي