حرب السرديات قادمة/ أوغر أوميت أونغر
ترجمة: علي وانلي
مثل الكثير من أنظمة الإبادة الجماعية التي سبقته، يشارك نظام الأسد الآن رسمياً في إعادة كتابة التاريخ وتزويره بشكل أكاديمي. طرح أوغر أوميت أونغر، الباحث في شؤون الإبادة الجماعية، كيف يمكن مواجهة ذلك عبر مقاربة موثوقة ومضبوطة لدراسة النزاع السوري. [الأصل باللغة الإنكليزية]
«إذا كان الحزب قادراً أن يمدّ يده لأية حادثة في الماضي ثم يقول إنها لم تقع، أليس ذلك شيئاً مخيفاً أكثر من مجرد التعذيب والموت؟».
– جورج أورويل، 1984
في حزيران 2016، بينما كان العالم متلفتاً إلى الهجوم الأخير لنظام الأسد على حلب المحاصرة، وإلى تراجع حظوظ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تأسست منظمة غير حكومية جديدة تدعى «مؤسسة وثيقة وطن» في دمشق من قبل د. بثينة شعبان. كان هدف المنظمة غير الحكومية «التوثيق الشفهي بهدف الحفاظ على الذاكرة الوطنية وتوثيقها» للنزاع السوري، كما صرّحت شعبان في مقابلة. وفقاً لموقعها ذي الواجهة الجذابة، «تسعى مؤسسة وثيقة وطن لحفظ الذاكرة الوطنية المعاصرة التي لها شهادات حية من الضياع أو التشويه أو التزوير» من خلال بناء أرشيف تاريخ شفهي وتوثيق مجموعة من المواضيع ذات الصلة وكتابة تاريخ معاصر للحرب السورية:
تركت الحرب على سورية آثاراً عميقة في المجتمع السوري على كافة المستويات. ويُعدّ توثيق هذه الحرب من خلال شهادات الناس ومعاناتهم تأريخاً للمرحلة بمجهود وطني ومنهج علمي، لكي تكون هذه الوثائق مرجعية تاريخية للباحثين وللأجيال القادمة، فلا نترك للآخرين كتابة تاريخنا من وجهات نظر مصالحهم الخاصة.1
شعبان التي عملت لفترة طويلة مستشارةً في شؤون السياسة الخارجية والإعلام لكل من حافظ وبشار الأسد، حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة وريك، وعملت لعدة سنوات أستاذة في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة دمشق. كما ألفت العديد من الكتب، بما في ذلك مجموعة مقابلات مع نساء سوريات عن حياتهن وعن أدوار النساء في التاريخ والمجتمع السوري.2 كما كانت شخصية بارزة للغاية كوجه حكومي وفكري ودولي لنظام الأسد، حيث أجرت طوال فترة النزاع ما لا يحصى من المقابلات مع وسائل إعلام أجنبية، عبرت فيها عن الخط الحزبي المتمثل في الإنكار وتشتيت المعطيات.3 وبالتالي، ليس مفاجئاً تماماً أن يطلق الرمز الفكري لنظام الأسد حملة أكاذيب تدّعي الرصانة الأكاديمية وتنسجم مع سجل النظام في الرقابة وتبييض الجرائم. والواقع أن سياسة النظام حيال عنفه الخاص كانت وما تزال تتّسم بثلاث تاءات: التشويه والتعمية والتلاعب. فالسكان داخل سوريا أسرى لحكمه ومحرومون من حرية التعبير اللازمة لتقديم مثل تلك الشهادات. بل إن هناك حالة «سوڤييتية» من الصمت والرقابة خلال فترة ما بعد الحرب تنفي بحد ذاتها شرعية مبادرة شعبان. فكيف يمكننا، في مواجهة الكثير من التضليل المتعمد، فهم الصراعات الدائرة حول السرديات التاريخية لسوريا، وما هي الاستراتيجية المناسبة التي يجب اتباعها؟
أولاً وقبل كل شيء، يجب الاعتراف بأن «حروب السرديات» ليست عملية غير اعتيادية أثناء وبعد النزاعات العنيفة، بما في ذلك الحروب والإبادات الجماعية. كما أنها لا تقتصر على الحقبة الراهنة الموسومة بـ«ما بعد الحقيقة»، فالدول تُنكر وتعتّم على جرائمها – بما في ذلك القتل الجماعي – منذ فجر التاريخ. في عام 1915، نشر نظام تركيا الفتاة صور «اللصوصية الأرمنية المسلحة» عبر تجميع سجناء أرمن مرعوبين وتحميلهم كومة من الأسلحة (ربما من المستودعات العثمانية) ليلتقط لهم صوراً ما تزال حتى يومنا هذا تستخدم لإنكار الإبادة الجماعية للأرمن.4 أو خذ مثلاً العمليات الفوتوغرافية الدقيقة المخيفة لستالين، والذي قام بمسح رئيس مخابراته نيكولاي ييجوف من التاريخ قبل زمن طويل على اختراع برمجيات تعديل الصور. ومؤخراً، الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام سوهارتو عام 1965 ضد ما زُعم أنهم نصف مليون شيوعي إندونيسي، أُتبعت فوراً بحملة حرب نفسية عمادها الرقابة والإنكار من جهة، وبجهود جادة لكتابة تاريخ الإبادة من ناحية أخرى.5 وأخيراً مذبحة سربرنيتسا التي جرت في تموز 1995 كانت وما تزال عرضة للإنكاز أو الاستهانة من قبل مختلف السياسيين الصرب، بمن فيهم رؤساء دول ومعاهد مشكوك في أمرها. 6
في الواقع، ليست مبادرة شعبان فريدة من نوعها في تاريخ القتل الجماعي الذي ترعاه دول. فهي اليوم تنضم إلى كوكبة من مثقفي الدولة الإنكاريين الذين يتمثل هدفهم الوحيد في التحييد الأخلاقي وطيّ السجل التاريخي للعنف الذي ارتكبته دولهم. فمن نظرائها أشخاص مثل د. يوسف هلاتشوغو، الذي قضى عقوداً كاملة من حياته مهووساً بشكل أوحد بإنتاج مواد إنكار للإبادة الجماعية للأرمن. لم يقتصر الأمر على كونه مديراً مزمناً للرابطة التأريخية التركية، والتي تمخّضت عنها مطوّلات جمّة من الإنكار والتضليل، بل كان أيضاً عضواً في البرلمان عن حزب الحركة القومية الفاشي صراحةً.7 ومن نظراء شعبان أيضاً بيلجانا بلافيتش، أستاذة علم الأحياء في جامعة سراييفو، والتي عملت في هيئات أكاديمية في لندن وبراغ ونيويورك، قبل أن ينتهي بها المطاف كأحد مفكري ومهندسي التطهير العرقي البوسني-الصربي خلال الحرب البوسنية. وباعتبارها عضواً في الحزب الديمقراطي الصربي، حافظت بلافيتش على علاقات وثيقة مع الجماعات شبه العسكرية الصربية التي أعملت في البوسنة اغتصاباً ونهباً، وحكمت عليها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بالسجن لمدة 11 سنة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.8
لحسن الحظ، في الحالة السورية هناك عدد من المبادرات الممتازة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الأرشيف السوري، ومشروع الذاكرة، ومركز أمم للتوثيق والأبحاث، وأرشيف المطبوعات السورية، بالإضافة لعدة مشاريع تاريخ شفهي أخرى تم إطلاقها في نفس الصدد، مثل التحالف الدولي لمواقع الضمير، ومنظمة بدائل، ومعهد هولندا لتوثيق الحرب.9 من حيث المبدأ، يمكن تقديم حجة قوية للغاية لإنشاء معهد كامل لبحث النزاع السوري. فالمعهد الذي أنتمي إليه بدأ في الأصل كمجرد مبادرة: في آذار 1944، خرج جيريت بولكستين، وزير التعليم والثقافة والعلوم الهولندي، على راديو أورانج ليطلب من السكان الهولنديين الحفاظ على مذكراتهم ورسائلهم المتعلقة بالحرب لغايات التوثيق والبحث بعد الحرب. تم إنشاء معهد هولندا لتوثيق الحرب رسمياً في 8 أيار 1945، بعد ثلاثة أيام من التحرير، وأصبح الصحفي الهولندي-اليهودي لوي دي يونج أول مدير له. ومثل وثيقة وطن التابعة لشعبان إلى حد كبير، تأسس معهد هولندا أيضاً في نهاية الحرب، وأخذ بجمع شهادات عن الحرب والاضطهاد، لكن على عكس المؤسسة المذكورة، يعمل معهد هولندا في إطار أكاديمي بأعلى المعايير، ويواجه الموضوعات المتنازع عليها والمثيرة للجدل، بما في ذلك عنف الدولة الهولندية.
صياغة أجندة بحثية لسوريا
لتفادي عقبات الحروب السردية، من الأهمية بمكان صياغة أجندة أو برنامج بحث للتنازعات والأبحاث المحتملة. يجب أن تتناول هذه الرؤية قضيتين جوهريتين حول صياغة الحقيقة: تقصّي الوقائع وتفسيرها. أولاً، كل حالات «ضباب الحرب» والغموض المصنوع والمتعمّد، والتشكيك في الأحداث الواقعية التي جرت، يستوجب فحصاً مضبوطاً وفصلاً واضحاً بين الواقع والخيال إلى أقصى حد ممكن. ثانياً، كل الأحداث التاريخية رهن بالتفسير الأمين لمجرياتها، والنزاع السوري ليس استثناءً. إن فهماً أفضل لمثل هذا النزاع، والذي غالباً ما يكون مربِكاً أو مشوَّهاً، إلى مجموعة من التفسيرات المشروعة القائمة على أسس قوية لتوضيح أسباب النزاع وتقلباته وعواقبه. يضم القسم التالي مجموعة أجزاء محتملة لأجندة بحث مضبوطة، وهي عبارة عن مقترحات لا قائمة شاملة، ولكن لراهنيتها وتعقيدها يمكن تناولها كدراسات منفصلة:
القضايا الوقائعية: ماذا حدث وكيف حدث؟
● الأعداد: كم عدد الذين ماتوا؟ أولاً وقبل كل شيء، كما في جميع الحروب، يجب توضيح أعداد القتلى والجرحى. ثمة جهات فاعلة رئيسية مثل الأمم المتحدة ومركز توثيق الانتهاكات استسلمت عملياً وأوقفت تقصي عدد الوَفَيات الدقيق نتيجة صعوبات البحث داخل البلاد. لكننا نحتاج إلى معرفة خسائر الأرواح إجمالاً، وعدد المقاتلين الصريحين منهم، وعدد المدنيين الصريحين، وفي أي ظروف لقي كل منهم حتفه.
● البداية: كيف بدأت؟ يقال عادة أن الثورة «بدأت» في درعا، لكن الظروف الدقيقة يكتنفها الغموض، ويعزى ذلك جزئياً إلى تكتّم النظام، ولكن أيضاً لتحولها إلى الأسطورة التأسيسية للثورة. نحتاج إلى مراجعة دقيقة لقصة الأطفال، ودوافعهم، وتعذيبهم، وما قاله وفعله رئيس الأمن المحلي عاطف نجيب على وجه التحديد، والاحتجاجات التي تلت ذلك، وهجوم النظام على درعا وحصارها.
● التصعيد: كيف تصاعدت الأمور؟ يجب فهم عدد من الأحداث الهامة إذا أردنا فهم تصعيد النزاع. على سبيل المثال، في 18 تموز 2012، وقع تفجير في مقر الأمن القومي في دمشق أسفر عن مقتل عدة من كبار مسؤولي الأمن، الأمر الذي ما يزال موضع خلاف جوهرياً: ربما كان الفاعل من المتمردين، وربما كانوا عناصر متشددة داخل النظام، لكن هناك حاجة إلى الشفافية. وبالمثل، يُنظر إلى دخول الجيش السوري الحر إلى حلب في رمضان 2012 كتصعيد كبير، لكن ما الذي حدث بالضبط في الفترة الأولى لثورة حلب؟
● الحضيض: من ارتكب المجازر؟ لقد ازدادت حروب الدعاية مع اشتداد العنف، ونحن بحاجة اليوم إلى حسابات كاملة وتامة للمذابح، مثل ما الذي حدث في حمص (أوائل 2012) والحولة (25 أيار 2012)، والهجمات الكيماوية في الغوطة الشرقية (21 آب 2013). في حين أن هويات الضحايا وظروف هذه المذابح معروفة إلى حد ما، إلا أننا ما زلنا نتحزّر فيما يخص الجناة. إن قوة النظام ومصالح داعميه الراسخة حالت دون إجراء دراسات مركزة بنوايا حسنة حول هذه المذابح.
● السيطرة: من الذي يسيطر على ماذا؟ فكرة أن الصراع كان «فوضوياً» و«لا يمكن التنبؤ به» عبارة مبتذلة كسولة، إذ من الممكن للغاية تحديد مستويات من السيطرة فقط إذا تم طرح الأسئلة الصحيحة وفحص الملفات الصحيحة. ما مدى السيطرة التي امتلكها بشار الأسد على مجريات الأحداث؟ نحتاج أن نفهم، بشكل لا لبس فيه، سلاسل السيطرة الموجودة أو التي تواجدت على مختلف مناطق وصلاحيات الحكم في البلاد.
● التواطؤ: من تواطأ مع داعش؟ اختراق نظام الأسد وتواطؤه مع داعش مرصود في العديد من المنشورات والشهادات. في إحدى المقابلات التي أجريتها، أكد رجل علوي ذو علاقات قوية أنه شاهد عمِيلاً متوسط العمر ذا مظهر سلفي يدخل إلى مكتب مخابرات في طرطوس ويناقش بعلانية وضعه السري كأمير في داعش. لكن يبقى مجهولاً عدد الجواسيس الذين دسّهم النظام في جهاز أمن الخلافة وإلى أي مدى تحكَّم الأول بعمليات الأخير.
التفسير: لماذا حدث، وكيف تطور؟
● الأسباب: لماذا بدأ النزاع؟ لقد تم شرح النزاع السوري بعدد هائل من العوامل والأسباب، من البيئية والجيوسياسية والطائفية والثقافية والتاريخية والسياسية-الاقتصادية والتآمرية وحتى الأخروية. ومع ذلك فإن الفحص المتماسك والمتعدد الأبعاد وغير المقتصر على إصدار الأحكام فيما يتعلق بأسباب النزاع يتطلب مجموعة واسعة من التخصصات الأكاديمية من أجل التفكير في التراتبية السببية، سواء على مستوى الأسباب الأعمق والأطول أجلاً أو المحفزات القصيرة والفورية.
● الدوافع: لماذا تورط السوريون في النزاع؟ تمثيل المشيئة الخاصة بالسوريين مسألة معقدة للغاية. لماذا يتقاتل الناس، مع من، ولماذا معهم؟ لماذا لم يقاتلوا؟ كيف يمكن أن نفسر القرارات الاستراتيجية والتكتيكية للفصائل المقاتلة؟ الدوافع أمر معقد بدوره، وقد يكون مزيجاً من المحفزات الخاصة والسياسية التي لا تني تتغير مع مرور الوقت.
● الطائفية: ماذا كان موقع الطائفية ضمن النزاع؟ إن فكرة أن الطائفية لم تكن سبباً للعنف بل نتيجة له هي من البديهيات الشائعة، لكن ذلك لا يغني عن استكشافها بشكل أفضل. إن البنائية المتطرفة («السوريون ليسوا طائفيين، هذه كلها خيالات مكتسبة») ليست أفضل من الماهوية المطلقة («كل ما يحدث سببه الطائفية العميقة للسوريين») في فهم المشكلة. فالبحث في التطييف يحتاج إلى شرح المفهوم ومناقشة تأثيره على الناس.
● التدخل الأجنبي: ما هو دور التدخل الأجنبي السري والعلني في النزاع؟ قد يصلح هذا السؤال مادةً لروايات التجسس، ولكن لهذا السبب بالتحديد ينبغي إخضاعه للفحص النقدي، سواء فيما يتعلق بجيران سوريا المباشرين أو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو ختاماً العالم أجمع. كيف تطورت حرب الوكالة؟ ماذا كان دور سياسة التدخل الإنساني، وحرب العراق، والعقيدة الأوبامية؟ ما أسباب وأهداف ومدى التدخل الإيراني والروسي؟ هل تواطأت تركيا مع داعش، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟ ولماذا؟ وأسئلة عديد أخرى تبقى مفتوحة.
● المخابرات: كيف أثرت أجهزة المخابرات السرية التابعة للنظام على النزاع؟ هناك فاعلان مؤثران بشكل كبير لا يمكن تقصيهما دائماً طول فترة النزاع: المخابرات وداعش. وبينما كُتبت كتب كثيرة حول داعش، نبقى لا نعرف شيئاً عن ماكينة القتل الجماعي الأسدي. المعضلة أن النفوذ العميق للمخابرات يصاحبه دائماً تكتم أقصى: فقد وجَّهَت دفَّة النزاع وهيكلته كيدٍ خفية، لكن فقط بالتحليل السليم يمكن كشف النقاب عن غموض الأحجية.
● السَّجن: كيف يعمل نظام السجون السورية؟ لا بد أن يكون عدد السوريين الذين أمضوا وقتاً ما في السجن قد وصل إلى مئات الآلاف. لقد شكل السجن هوية النزاع أكثر من أي شكل آخر من أشكال العنف، وبصرف النظر عن بعض المذكرات والرسومات هنا وهناك، لا تكاد توجد دراسات جيدة حول تعقيدات نظام السجون السوري. يرتبط الموضوع بشكل واضح بالموضوع السابق، ولحسن الحظ أن هناك أبحاثاً جارية في الموضوع. (يعد كاتب هذه السطور بالتعاون مع جابر بكر كتاباً تقديمياً عن نظام السجون السوري).
هذه القضايا وغيرها من القضايا الكبيرة الوقائعية والتفسيرية لا تحركها أجندة قانونية أو سياسية أو أخلاقية، بل بأجندة همُّها السجل التاريخي، وبالتالي لا بد أن تحظى بأولوية قصوى لدى الباحثين. لقد عرقل النظام منذ فترة طويلة تقصّي الحقائق فيما يتعلق بقضايا كثيرة، ويمكننا التأكد من أنه سيستمر في القيام بذلك – بدعم من مؤسسة وثيقة وطن وغيرها. لكن إذا تمكن الجناة من التمسك بأسلحتهم، يمكننا نحن أيضاً التمسك بأسلحتنا.
خاتمة: نعرف الحق والحق يحرّرنا
يعتبر النزاع السوري أحد أكثر النزاعات المتنازع عليها في التاريخ. لقد حالت التحيزات الإيديولوجية والجيوسياسية دون رسم صورة كاملة لتفاصيله، لتَنتُج الكثير من السرديات أحادية الجانب. لكن لا تقصي الوقائع ولا تفسيرها يجب أن يكون محصوراً بين الأبيض والأسود. يمكن العثور على تعقيد وتناقضات النزاع في مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك أشكال العنف غير المريحة وغير المفيدة سياسياً. فمثلاً ادعى نظام الأسد أنه يكافح من أجل فلسطين، لكنه قتل فلسطينيين أكثر من إسرائيل بكثير. وفي مناسبات كثيرة طوال فترة النزاع، كان يرسل الجيش إلى مناطق موالية ليس لمحاربة المتمردين بل لمنع شبيحته من ممارسة النهب. ويزعم أنه يكافح الإرهاب، لكنه حتى عام 2011 بقي يعمل جنباً إلى جنب مع نفس مقاتلي القاعدة الذين أرسلهم إلى العراق، والذين بعد بضع سنوات فقط تمكنوا، بوصفهم مقاتلين متمرّسين، من تأسيس جبهة النصرة وعيث الفساد في الأحياء الموالية.
ليس النظام الطرف الوحيد الذي يمتلئ سجلّه بالتضاربات التي تنتظر التفسير. فقد شاركت وحدات حماية الشعب الكردية، التي تزعم الدفاع عن الحقوق الكردية، في قمع الحركات الاجتماعية والسياسية الكردية الأخرى في «روجافا»/الجزيرة السورية. ويزعم داعش أنها يقاتل مع المسلمين السنة ضد نظام «المرتدّين» لكنه ما انفك يبيع النفط لنفس النظام ويُعدم «جواسيس» سنّة بذرائع مفتعلة بالكامل. ومن جهتها كان على الثورة التعامل مع بعض أحداثها المحرجة: فالكثير من ثوار حلب الذين ساندوا القائد الثوري الكاريزماتي عبد القادر صالح صُدموا عندما شاهدوا طبقة ريفية مستاءة تندفع وتدفع لواء التوحيد معها لممارسة نهب واسع النطاق في المناطق الراقية في حلب. وماذا نقول عن تاريخ سوريا المتشابك؟ عن العديد من الزيجات المختلطة والعائلات المتعددة الطوائف (سنية/ شيعية، مسيحية/مسلمة) التي انهارت؟ أم القبائل في شرق سوريا التي عملت أولاً مع النظام، ثم مع داعش، ثم مع قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها أكراد، ثم مرة أخرى مع النظام؟ من الواضح أنه ما من نزاع محصور بين الأبيض والأسود، وأن هذه الأنواع من تدرجات الرمادي هي التي توفر فهماً أعمق لديناميات الأحداث في سوريا. نحتاج إلى تحليل دقيق وصبور لهذه المواقف والعمليات، بعيداً عن التصويرات الأخلاقوية والثنائيات.
تحتاج الكارثة السورية إلى برنامج بحث عريض النطاق يعالج كل هذه القضايا وغيرها، وبذلك نربح جلاء الصورة ونكافح الإنكار والتشويه. ليس فقط من أجل المناصرة ولكن من أجل الحقيقة أيضاً.
د. أوغر أوميت أونغر أستاذ مشارك في قسم التاريخ بجامعة أوترخت الهولندية، وزميل باحث في معهد دراسات الحرب والإبادة الجماعية في أمستردام. يتركز اهتمامه على تاريخ وعلم اجتماع العنف الجماعي، ومن كتبه المنشورة الإبادة الجماعية: منظورات جديدة (منشورات جامعة أمستردام، 2016) والمصادرة والتدمير: استيلاء تركيا الفتاة على الممتلكات الأرمنية (كونتيوم، 2011) وكتابه الحائز على جوائز تكوين تركيا الحديثة: الأمة والدولة في شرق الأناضول 1913-1950 (منشورات جامعة أوكسفورد، 2011). وهو يكتب حالياً كتاباً عن العنف السياسي في سوريا.
1. «مشروع توثيق الحرب على سورية»، 12 حزيران 2018، متاح على الرابط https://bit.ly/2wKiH1w، وأيضاً http://wathiqat-wattan.org/category/oral-history (آخر وصول 8 حزيران 2019).
2. كتاب بثينة شعبان الصادر عن منشورات جامعة إنديانا عام 1991 بعنوان من اليمين واليسار: نساء عربيات يتحدثن عن حياتهن. «المنظور النسوي» الظاهري الذي تتبناه شعبان حيال سوريا يمثل خيطاً ممتداً على طول مسيرتها المهنية، بما في ذلك في مشروع مؤسسة وثيقة وطن المسمى «المرأة في زمن الحرب على سورية»: https://bit.ly/2Zgmi3z (آخر وصول 8 حزيران 2019). المفارقة المريرة هي أنه بينما كانت تنسق هذا المشروع، فإن عدداً لا يحصى من النساء السوريات كن يتعرضن للاغتصاب والتعذيب في السجون السورية. من بين مجموعة/دستة//كم من المعرفة/المعارف المتزايدة فيما يتعلق بالأخيرة، انظر، على سبيل المثال، تقرير المنظمة الأورومتوسطية للحقوق عام 2015 احتجاز النساء في سوريا: سلاح حرب ورعب: https://bit.ly/2F2cy5s (آخر وصول 8 حزيران 2019).
3. Asaad Al-Saleh, “Failing the Masses: Buthaina Shabaan and the Public Intellectual Crisis”, Journal of International Women’s Studies 13:5 (2012), 195-211.
حروب السرديات
4. انظر الصور المختلفة: http://bit.ly/2WJ0EIx (آخر وصول 16 حزيران 2019)
5. Geoffrey B. Robinson, The Killing Season: A History of the Indonesian Massacres, 1965-66 (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2018), 264-91.
6. انظر مثلاً «ملف سربرنيتسا» (بالإنكليزية): http://bit.ly/2ZyOBup (آخر وصول 16 حزيران 2019)
7. انظر سيرته الذاتية (بالتركية): http://bit.ly/2Zt8OkZ (آخر وصول 16 حزيران 2019)
8. Jelena Subotić, “The Cruelty of False Remorse: Biljana Plavšić at The Hague,” Southeastern Europe 36:1(2012), 39-59.
9. Josh Wood, “The race to save Syria’s memories as uprising enters fifth year,” The National (14 March 2015), at: http://bit.ly/2XMMOBg [accessed 23 May 2019]; Daniela Blei, “We Can’t Save Syrians Anymore, But We Can Save the Truth”, Foreign Policy (27 December 2018), at: http://bit.ly/2N0ztEm [accessed 23 May 2019
موقع الجمهورية