إيميه سيزير في عيده السادس بعد المئة: العالم ما زال أبيض! / أحمد عيساوي
“أتكلّم عن ملايين الناس الذين لُقّنوا الخوف بدراية، عقدة النقص، الاضطراب، الركوع، اليأس، الذلّة”.
بهذه الكلمات يستهلّ إيميه سيزير (26 حزيران/ يونيو 1913 – 17 نيسان/ أبريل 2008)، المولود في باس-بوانت في المارتينيك، كتابه “خطاب في الاستعمار” الذي يقارب فيه العلاقة بين النازية والعنصرية الاستعمارية. ويخلص إلى أنّ الغرب ما زال يتذكّر جرائم النازية بشكل شبه يوميّ، لأنّ الضحايا كانوا أوروبيين بيضاً، ويشبهون إلى حدّ كبير ضحايا أوروبا الاستعمارية في الجنوب.
ولد ايميه سيزير “الزنجي الأصلي” في عائلة ميسورة الحال، وكان والده مديراً لمصلحة الضرائب، وكانت والدته تعمل في الحياكة. كان جدّه لوالده أوّل مدرّس من البشرة السوداء في المارتينيك، وكانت جدّته تجيد القراءة والكتابة على عكس جزء كبير جداً من مجاييليها. في تلك العائلة توفّرت كل الظروف التي دفعت بالصبيّ ايميه إلى الاهتمام بالقراءة ودراسة الأدب والشعر.
فور وصوله إلى باريس عام 1931، تعرّف سيزير في أروقة ليسيه لويس-لو-غران إلى ليوبولد سيدار سنغور، وفي باحة السوربون إلى عثمان ديوب. مع سنغور بدأت علاقة صداقة دامت أكثر من 6 عقود. هنا في باريس حيث الصالونات الأدبية والندوات الفكرية واللقاءات السياسية، بدأ سيزير يكتشف نفسه والآخرين الذين جمعتهم نقاط مشتركة. في صالون بوليت ناردال، الصحافية والأديبة المارتينيكية وأول سيدّة من البشرة السوداء تنجح في تحصيل شهادة من السوربون، تعرّف الشاب الآتي من وراء المحيطات، إلى حركة “نهضة هارلم” التي انطلقت من حيّ في مانهاتن، رافعة شعار الحركة الزنجية الجديد، التي عملت على صقل هوية اجتماعية جديدة للسود، أثّرت في آلاف الأفارقة الفرانكوفونيين في المستعمرات الأفريقية والبحر الكاريبي.
ثلاث سنوات بعد وصوله إلى باريس، أسّس سيزير مع سنغور وليون-غونتران داماس مجلّة “الطالب الأسود” (l’étudiant noir) وكان للثلاثة علاقات متشعّبة مع شعراء وأدباء الحركة السوريالية – أندريه بروتون خصوصاً- التي بدأت تعبّر عن تضامنها مع عالم الجنوب والشعوب الأفريقية.
في تلك المجلّة التي أصبحت كتاب الأفارقة السود المقدّس في فرنسا، وردت كلمة “الزنوجة” (négritude) لأوّل مرة، وعبّر عنها ايميه سيزير في سياق مواجهة مع النظام الكولونيالي الفرنسي، الذي يهدف إلى طمس الهوية الأصلية للشعوب الأفريقية.
نأى سيزير بنفسه سريعاً، وبشكل ذكي، عن الموجة الأدبية الرائجة في الكاريبي والمستعمرات التي عرفت بـ”أدب الجزر”، وركّز اهتمامه في الفترة الأولى على تصويب النقاش الثقافي في باريس حول قيم الحرية والعدالة والمساواة. وخاطب الفرنسيين بلغتهم معرّفاً إيّاهم إلى وعي الأسود لهويته، تلك التي ينظر إليها كصورة أوّلية وليست كمفهوم يُبنى، ودفاعه عن تلك الهوية، محاولاً الدفاع عن كيانه الإنسانيّ.
في أوروبا الثلاثينات التي تغلي على وقع صعود الفاشية والنازية، انتسب سيزير إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1935، حين تم قبوله في المدرسة العليا للأساتذة (ENS)، حيث عمل على إتمام موضوعه البحثي الذي تناول موضوع “الجنوب في القصيدة الأميركية- السوداء في الولايات المتحدة الأميركية”. بعد رسالة الماجيستير، اشتغل سيزير على بحث الدكتوراه الذي استعاد الجذور المؤسسة للأدب الأنتيلي وهو ما عدّ مقدّمة لكتابه “دفتر العودة إلى الوطن الأمّ”. يرى كثر من النقّاد أنّ هذا الإصدار الأدبي هو الخطوة التأسيسسة لما سيعرف لاحقاً بـ”تيار الزنوجة” الأدبي، الذي يحتفي فيه سيزير بالقارة الأفريقية وثورة شعوبها على المستعمرين.
على خط آخر، كان سيزير مشغولاً بتحرير الأدب من “المركزية الأوروبية” ونقله إلى إطار عالمي أخوي، فيه من التضامن مع المسحوقين لمسة عشرات الكتّاب المارتينيكيين والأفارقة. توّج سيزير رسم إطار نافر لتيار “الزنوجة” الأدبي عبر نشره مؤلفاً ضخماً، أطلق عليه اسم “أنطولوجيا الشعر الزنجي والملغاشي”. وعمل بشكل أساسي في وقت لاحق على كتابه “خطاب الاستعمار” الذي استعاده ادوارد سعيد في “أطروحة في الإستعمار”، معتبراً إياه أول مانيفستو لثورات موزمبيق وغينيا-بيساوي ضد المُستعمِر. كما وجّه تحية لباتريس لومومبا في العمل المسرحي الذي كتبه عام 1966، “موسم في الكونغو” في الفترة التي طغى اللون الأدبي الداعم لاستقلال الدول المستعمَرة وحرية شعوبها.
“ليست الزنوجة برجاً أو كاتدرائية
إنها تغطس في اللحم الأحمر للتراب
إنها تقتحم لون السماء الناريّ
إنها تثقب الكآبة المعتمة لصبرها القائم…”.
يجعل صاحب كتاب “تراجيديا الملك كريستوف” من الزنوجة فكرةً قائمةً على ضدّها، اذ لا حياة لها في شكلها الفرداني. لا زنوجة من دون محيط أبيض، ولا نظام قائم لتلك الزنوجة من دون نظام كولونيالي. ولا قيمة إنسانية للزنجي من دون عنصرية تنتقص من تلك القيمة. ولا عجب أن ينقلب سيزير ذات رسالة وجّهها إلى الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي موريس توريز، بعد تقرير خروتشوف الذي به بدأ “الhجتثاث الصامت للستالينية”، على التزاماته الحزبية التي رأى فيها انسياقاً أعمى نحو “شيوعية أسيء استعمالها ولم تأتِ إلا بالكوارث على الشعوب”. (تمكن مراجعة نص الرسالة كاملاً في جريدة لومانيتيه الشيوعية، عدد 18 نيسان/ أبريل 2008).
وجّه سيزير انتقادات واسعة للحزب الشيوعي الفرنسي بعد “سوء تقدير وانعدام الرؤية” في التعاطي مع شعوب أوروبا الشرقية الرافضة للستالينية، ورأى أنّ العنصرية المستشرية في جسم واسع من اليسار الفرنسي، كانت من الأسباب التي دفعته إلى الاستقالة من الحزب والاتجاه إلى تأسيس الحزب التقدمي المارتينيكي الذي انتهج خطاً اشتراكياً ديموقراطياً، يؤمن بقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
كما سيدار سنغور الذي أصبح رئيساً للسنغال، انخرط سيزير في الحياة السياسية الفرنسية وتم انتخابه نائباً فرنسياً عن المارتينيك، لأكثر من أربعة عقود ناضل خلالها لمنع طمس الهوية الأصلية للشعب المارتينيكي وعمل على عدم سيطرة الـBéké (السكان البيض في المارتينيك من سلالة المستعمرين الأوروبيين الأوائل)، على مفاصل المؤسسات الرسمية من دون أن ينتقص من حقوقهم. ورأى في ذلك شكلاً من أشكال الحفاظ على الهوية الحقيقية لسكّان الجزر. إضافة إلى حقيبته البرلمانية، انتخب سيزير عمدة لمدينة فور-دو-فرانس (Fort de France) المارتينيكية منذ عام 1945 وأعيد انتخابه مرات عدة حتى استقال من منصبه عام 2001.
عام 2005، رفض سيزير استقبال رئيس الجمهورية آنذاك نيكولا ساركوزي بسبب قانون 23 شباط/ فبراير 2005، الذي يحتوي على بندٍ يتحدّث عن إيجابيات الاستعمار والآثار النفعية التي تركها لدى الشعوب المستعمَرة، لكنه عاد عن قراره بعد تدخّل باتريك كرم، الذي عرف بدفاعه عن حقوق الإنسان وبصلته القوية بساركوزي، وبعد تعهّد فرنسي رسميّ بإلغاء النص الذي يتناول الاستعمار بشكل إيجابي. في آخر ظهور سياسي لسيزير، أعلن عن دعمه الكامل لمرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين روايال في انتخابات 2007، ورافقها في المهرجان الانتخابي الأخير بين الدورين الأول والثاني.
توفي سيزير عام 2008، عن عمر 95 سنة، إثر مضاعفات قلبية وحضرت مأتمه شخصيات فرنسية سياسية وفكرية كبيرة، كفرانسوا فييو ولوران فابيوس وبيار موروا وليونيل جوسبان وفرانسوا هولاند. وطالبت سيغولين روايال بتوقيع عريضة لنقل جثمانه إلى البانتيون، الأمر الذي حصل فعلياً بعد ثلاث سنوات في نيسان 2011.
درج