هابرماس في عيد ميلاده التسعين: ماذا تبقى من اللغة النقدية؟/ محمد سامي الكيال
احتفلت الأوساط الثقافية الأوروبية، في شهر يونيو/حزيران من العام الحالي 2019، بعيد الميلاد التسعين للفيلسوف الألماني يورغين هابرماس. ولهذه المناسبة أهمية خاصة، فهابرماس ليس مفكراً عادياً، بل المُنظّر الأساسي للعقلانية الأوروبية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومفاهيمه عن دولة القانون والحيز العام والفعل التواصلي أصبحت أحد المراجع الأساسية لفهم الأنظمة الديمقراطية – الليبرالية المعاصرة، ونقدها في الآن ذاته. قد يتهمه البعض بأنه «فيلسوف السلطة»، ولكن هذه التهمة، لو صحّت، تحسب له لا عليه، فهو قد سعى، في مجتمعات خرجت لتوها من أبشع أنواع الشمولية، إلى تقييد السيادة الحديثة بأطر العقلانية الدستورية، والتفاوض الاجتماعي، وتبادل الحجج في المجال العام. مع هابرماس لم يعد العقل والحقيقة الاجتماعية متعاليين أو سابقين على البشر وحياتهم وتاريخهم، أو موقفاً ذاتياً مغلقاً، يمكن لأفراد أو مجموعات معينة احتكاره، باسم الدين أو العلم الأخلاق، بل نتيجة لفعل تواصلي ينبع من «عالم الحياة»، أي الإمكانية القائمة في حياة البشر العادية ولغتهم على التفاهم وصياغة المعايير المشتركة، أو نقدها والتمرد عليها. ما يمكّنهم دوماً من إعادة إنتاج وتأويل ثقافتهم، وعدم الوقوع في أسر التقليد.
إلا أن عيد ميلاد هابرماس يأتي في ظرف لا تبدو فيه العقلانية التواصلية والديمقراطية الليبرالية الغربية في أحسن أحوالها. من جديد تسود المواقف الذاتية المتطرفة، ودعاوى احتكار الحقيقة والأخلاق. وبدلاً من الحجج التي يتداولها الفاعلون الاجتماعيون، ذوو العقل والمصلحة، بدأنا نسمع عن «العواطف» و«الحساسيات»، التي يتوجب أخذها كما هي بدون نقاش. فهل تجاوز الزمن فعلاً نموذج هابرماس عن الحيز العام؟ وما الذي يمكن لفلسفة أحد أهم المدافعين عن مشروع الحداثة قوله في زمن «ما بعد الديمقراطية»؟
تحولات بورجوازية
بالنسبة لعدد من نقّاد هابرماس، أصبح نموذجه عن الحيز العام البورجوازي، المحصور بالحدود الوطنية، قديماً. ونحن الآن نعيش في عصر جديد، تبرز فيه فئات اجتماعية أخرى، كانت «مهمشة» في ما سبق، تتفاعل في إطار معولم متجاوز للوطنية. ما يطرح أشكالاً جديدة للتواصل تتجاوز العقلانية البورجوازية التقليدية. قد لا يجانب هذا الطرح الصواب تماماً، فالعالم البورجوازي يشهد تحولات مهمة منذ عقود، لا بد أن تنعكس على عقلانيته وأشكال تواصله.
في الثقافة العربية ارتبط تعبير «بورجوازية» عادة بتصور ماركسي يشير إلى الطبقة الاستغلالية، المالكة لوسائل الإنتاج في الرأسمالية، إلا أن كلمة Bürgertum تحمل مزيداً من الدلالات، فهي تشير إلى مواطني الفضاء المديني، المتمتعين بقدر من الاستقلالية المادية والاجتماعية، ما يجنبهم التبعية الاجتماعية للقوى التقليدية (الإقطاعيين والكهنة والنبلاء)، ويمكّنهم من التطور المستقل وحفظ مصالحهم الخاصة. والتمايز في الآن ذاته عن الفئات الأفقر، من الشتات المديني فاقد الملكية، ولكن المحتفظ بحريته وقوه عمله، الذي أُطلق عليه منذ العصر الروماني اسم «البروليتاريا». في فترة ما بعد الحرب العالمية، تمت محاولة إدماج البروليتاريا في العالم البرجوازي، عن طريق تحويلها إلى طبقة وسطى، قادرة من عملها على نيل الاستقلال المادي، وحيازة شيء من الملكية (مثل المساكن العمالية، والسيارات الشعبية منخفضة الثمن). وكان هذا جوهر مشروع «دولة الرفاه» و«الديمقراطية الاجتماعية». ضمن هذا الشرط وضع هابرماس تصوراته عن حيز عام يسوده المنطق البورجوازي. وكان من الطبيعي، في عصر قام على التفاوض الجماعي بين النقابات العمالية والدولة وأرباب العمل، أن يرى في تبادل الحجج أساساً لإدارة الخلاف الاجتماعي، وفي «الفعل الكلامي»، المتضمن في اللغة العادية نفسها، أساساً لعقلانية «بين ذاتية».
إلا أن هابرماس ركز على التعارض الدائم بين عقلانية النظام الرأسمالي الأداتية، القائمة على الاستغلال و«التشييء»، والعقلانية التواصلية النابعة من «عالم الحياة»، القادرة على نقد الميل الاختزالي للنظام، وتحويله كل شيء، بما في ذلك البشر والعواطف والثقافات، إلى أدوات لتحقيق منافع ضيقة. وهذا ما يجعل نظريته نقدية: يحاول النظام دوماً التغلغل في حياة البشر وتشويه أسس تواصلهم، وقدرتهم العقلانية على بناء المعايير والجدل حولها، إلا أن الحيز العام المتحرر، الذي يتمتع أفراده بحقوق وحريات دستورية، يحتفظ بإمكانية كامنة للنقد، والتمرد على التشوهات الأداتية للحداثة.
عالم البرجوازية هذا تغيّر اليوم، فالمجتمعات الصناعية، القائمة على التداول الديمقراطي بين مختلف الفئات والطبقات، اضمحلت. ولم يعد من الضروري، مع نزع التصنيع، والانتقال لاقتصاد «الإبداع والخدمات»، إدماج البروليتاريا في بنية المجتمع البورجوازي. وبالتالي لم تعد حججها مهمة، أو «عالم حياتها» ضرورياً. نعود اليوم لأشكال من الحقيقة المتعالية فوق الاجتماعية، النابعة من الهوية والأخلاق، أو من فهم دوغمائي للعلم، تتوافق مع هيمنة ونمط حياة فئات بورجوازية جديدة، من ساكني المدن الكبرى المعولمة. مع إقصاء فئات واسعة من السكان، بوصفهم جهلة وعنصريين، و«تمكين» فئات بورجوازية جديدة «ملونة»، تدّعي، بدون أي حيثية تمثيلية، التعبير عن «المهمشين». في هذا الظرف انشغل تلامذة هابرماس من «الجيل الثالث» من مدرسة فرانكفورت، بنظريات «الاعتراف» الثقافي، القائمة على مبدأ الهوية. في حين مال هابرماس نفسه إلى مغازلة الدين، بوصفه الملجأ الأخير ضد «العقلانية الأداتية».
في عام 1976 صرخ جون ليدون، مغني فرقة «مسدسات الجنس» Sex pistols البريطانية، التي يتحدّر أعضاؤها من الطبقة العاملة: «أنا نقيضٌ للمسيح، أنا أناركي». أغنية «الأناركية في المملكة المتحدة» كانت شديدة التأثير على الثقافة الشعبية آنذاك، وإحدى علامات موسيقى «البانك». لم تكن لدى ليدون اهتمامات لاهوتية، ولا عداء خاص للدين المسيحي، بل كان يقصد أنه يمثل حالة تمرد قصوى على المجتمع البورجوازي وقيمه، بمؤسساته التعليمية والثقافية والسياسية. تزامن هذا مع حالة الجمود التي عرفتها الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا. وبوادر التحول نحو النيوليبرالية. كان الحيز العام آنذاك قادراً على تحمل أكثر أشكال التعبير تمرداً، ورغم كل الهجوم الذي تعرضت له الفرقة من المحافظين، تحولت إلى رمز شبابي. بلغة هابرماسية يمكن القول إن هذه الأغنية كانت فعلاً تواصلياً، غير عقلاني، ولكنه يشير إلى احتجاج فئات معينة على الإجماع السائد، وصرخة من «عالم الحياة» ضد النظام. لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ودفعها إلى إيجاد تعبيراتها العقلانية، بدلاً من إقصائها.
اليوم أصبح التمرد سلعة ينتجها النظام نفسه، من خلال شخصيات و«ناشطين» مصنوعين على يد خبراء العلاقات العامة ووسائل الإعلام، يبدون «طهارة» سياسية واجتماعية واضحة، على النمط البروتستانتي، تجعلهم يلعبون دور التجسيد الحي للمسيح، وهم بالأصح تجسيدٌ للإجماع الإقصائي للبورجوازية المعولمة المعاصرة. هالة التمجيد والقداسة حول الناشطة البيئة الشابة غريتا تونبرغ، وما يبدو أنه حكمة أزلية ينطق بها روبيرت هابيك، زعيم حزب الخضر الألماني، خير مثال على ذلك، خاصة بعدما أعلن الأخير أنه «علماني مسيحي». إنه نمط «التمرد» المناسب للعقلانية الأداتية، والمدمج في مؤسساتها، ما يجعل رهان هابرماس على القيم الدينية وشبه الدينية، لمواجهة الأداتية، رهاناً خاسراً بالتأكيد.
أين الرجال البيض؟
ولكن ماذا عن جون ليدون؟ يبدو أن هذا المتمرد العتيق ما زال حتى يومنا هذا نقيضاً للمسيح، فقد أعلن في مقابلة تلفزيونية، بُعيدَ استفتاء «بريكست» في بريطانيا، أنه، وهو المغني اليساري الفخور بأصوله العمالية، مؤيد لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وأن انتخاب ترامب صفعة مستحقة للنخبة السياسية. هل هذا تعبيرٌ عن غضب «الرجال البيض العجائز»؟
أسطورة «الرجل الأبيض» هذه غير قادرة على التفسير بالتأكيد، فإذا بحثنا عن الرجال البيض الحقيقيين، أي أصحاب النفوذ والمال، من مديري الشركات الكبرى والمؤسسات الثقافية السائدة، فسنجدهم، للمفارقة، أكثر من ينتقد «الرجل الأبيض»، وأشد الناس حرصاً على «التنوع» و«التمكين». إنها القدرة البورجوازية الجديدة على تحويل «عقدة الذنب البيضاء» نفسها إلى أداة للربح والإقصاء، وفرض شمولية أخلاقية وثقافية جديدة، تستبدل الحجة العقلانية بـ«الشعور بالإساءة»، والحيز العام بـ«المساحات الآمنة»، وقدرة اللغة على التواصل بـ«الخبرات الذاتية» غير القابلة للترجمة. والإطار الفيستفالي للديمقراطية (نسبة لصلح فيستفالن عام 1648، الذي أسس لنشوء الدولة الحديثة) بسلطة فوق وطنية، لا سيادة شعبية عليها، تديرها مؤسسات عابرة للحدود، إلا أن القائمين عليها «تقدميون» جداً، ويتسمون بحساسيتهم الأخلاقية. لا يمكن تخيل أيديولوجية أكثر «أداتية» من هذه، لتحقيق مصالح رأسمالية تحررت من أي لجام اجتماعي أو عقلاني. ربما كانت استعادة الحيز العام البورجوازي، على النمط الذي نمذجه هابرماس، أمراً متعذراً، مع تغير الشرط التاريخي. وربما كان تعويل جون ليدون وأبناء طبقته على الشعبوية اليمينية قضيةً خاسرة. ولكن مازال هذان «الرجلان الأبيضان العجوزان» يملكان ما يقولانه للمجتمعات المعاصرة، في الشرق والغرب: كيف كانت الديمقراطية وإلامَ آلت. قد يمكن أيضاً الاسترشاد بهما معاً، لإيجاد السبل لمواجهة الميل المعاصر نحو الشمولية.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي