جريمة إكراه اللاجئين السوريين على العودة إلى الجحيم/ تهامة الجندي
لا يعدو تناول القضية السورية بوصفها حربًا على الإرهاب، تسببت في أزمة لجوء على مستوى العالم، أكثر من محاولة لاستغفال العقول، وصرف النظر عن حقيقة المقتلة المستمرة التي تطال شعبًا انتفض ضد دكتاتورية حاكمة، لم يكن استبدادها وفسادها خافيًا على أحد. ولا يعدو الحديث عن حل سياسي مع بقاء نظام الأسد وعودة اللاجئين السوريين، غير هدر للوقت والجهد، والإسهام في سفك المزيد من الدم السوري, فثمة ترابط جدلي وثيق بين بنية النظام القمعية وطبيعة تحالفاته واستطالاته، وبين ازدياد أعداد القتلى والمعتقلين والمهجرين، واتساع نطاق التطرف والعنف وخطاب الكراهية على المستويين السوري والعالمي.
في 127 بلداً
الجميع يعلم أن جذر القضية السورية يتمحوّر حول غياب الحريات العامة وحقوق المواطنة، وانعدام أي شكل من أشكال المحاسبة وطلب العدالة، وأن تشريد 12 مليون سوري بين نازح داخلي ولاجئ، هو النتيجة المباشرة لسياسة الاعتقالات التعسفية والتعذيب والمجازر الجماعية واستهداف المناطق الآهلة بالقنابل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والعنقودية والفسفورية، وغيرها من الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها قوات النظام السوري وقوات حلفائه من الروس والإيرانيين وميليشيات حزب الله وسواها من الميليشيات الشيعية، وهو ما جعل من الوطن السوري بيئة خطرة، وبلد غير صالح للعيش.
يعيش 6.7 مليون لاجئ سوري في 127 بلد، 85 في المئة منهم في دول الجوار، وهناك حوالى ثلاثة ملايين سوري نزحوا باتجاه إدلب بعد استعادة النظام للمناطق الخارجة عن سيطرته، فيما يعيش قسم كبير من النازحين ضمن مناطق النظام في مراكز إيواء، يوصف بعضها بأنها أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية، مثل مركز “معسكر الطلائع” في قرية “رساس” بمحافظة السويداء.
ربما نجا مؤقتًا أولئك الذين انتقلوا إلى المناطق الخارجة عن سلطة النظام، أو إلى دول الجوار واللجوء، من المواجهة المباشرة مع الأجهزة الأمنية وشبيحة النظام وعصابات الخطف والتعفيش، لكنهم لم ينجوا من ابتزاز شبكات الاتجار بالبشر، ومن تضيق المؤيدين لنظام الأسد واعتداءاتهم، ومن حملات التنمر والتشويه وبث خطاب الكراهية ضدهم، مما تتولاه الجيوش الإلكترونية السورية والروسية والإيرانية، وهي تتعقب حسابات الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن بينها حملة تلفيق الشبهات حول منظمة “الخوذ البيضاء” و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
فشل لبنان
العنف اللفظي أو الجسدي الذي عانى منه الكثير من اللاجئين السوريين في مخيمات دول الجوار، وأمام الحدود المغلقة، بالتزامن مع سياسة التجويع والأرض المحروقة في المناطق المحررة، أرغم الآلاف منهم على العودة إلى مناطق سيطرة النظام، غير أن التسويات التي أبرموها مع السلطات السورية، والضمانات الروسية بعدم تعرضهم لأفعال انتقامية، لم تحمِ أحدًا من الإعدامات الميدانية والاغتيالات والاستدعاءات الأمنية والاعتقالات والتعذيب، وسوق الشباب إلى جبهات القتال، ومن نجا من الاعتقال أو القتل، لم ينجُ من سوء المعاملة والإذلال، والكثير منهم وجدوا منازلهم مهدمة أو غير صالحة للسكن، ولم يحصلوا على أي تعويض أو مساعدة من الجهات المختصة.
لبنان نموذج شديد الوضوح على معاناة اللاجئين السوريين، وإخفاق الدولة المضيفة في حمايتهم وتأمين حقوقهم الأساسية. لبنان الذي نأى بنفسه عن التدخل بالشأن السوري، لم يستطع أن يمنع ميليشيات حزب الله من مشاركة نظام الأسد في قتل السوريين وتهجيرهم، ولم يستطع أن يحمي المهجرين إلى الديار اللبنانية من أذى أنصار تيار الممانعة.
ولبنان بمساحته الصغيرة وعدد سكانه القليل وأزماته السياسية والاقتصادية المستعصية، لا يستطيع تحمل أعباء إقامة 938,531 لاجئًا سوريًا من المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وحوالى 550 ألف لاجئ سوري من غير المسجلين فيها، إضافة إلى 31 ألف لاجئ فلسطيني من سوريا مسجلين لدى وكالة (الأونروا).
منذ قرابة عامين ينشغل المسؤولون اللبنانيون بالبت في ترتيبات عودة اللاجئين السوريين، على اعتبار أن الحرب على الإرهاب في سوريا شارفت على نهايتها، وأن الحياة الطبيعية عادت إلى مجاريها، والحكومة السورية ترحب بعودة مواطنيها الذين تسببوا بأزمة اقتصادية خانقة في لبنان، وفي مارس/آذار 2019 أعلن الأمن العام أن 172,046 لاجئًا عادوا إلى سوريا منذ ديسمبر/كانون الأول 2017، نتيجة لتخفيف القيود الإدارية، وتنظيم عمليات العودة، لكن تقرير منظمة العفو الدولية في الثاني عشر من الشهر الماضي، كشف أن عودة هؤلاء لم تكن طوعية ولا آمنة كما يقتضي قانون اللجوء، بقدر ما كانت عودة قسرية، فرضها تكرار الاعتداءات عليهم وإغلاق أبواب رزقهم، تزامنًا مع تصريحات عنصرية أطلقها مسؤولون لبنانيون في مقدمهم وزير الخارجية جبران باسيل.
المسلسل المروّع
تحدث التقرير عن قرار المجلس الأعلى للدفاع في لبنان، وهو هيئة عسكرية يرأسها رئيس الجمهورية، قرار إجبار اللاجئين السوريين على هدم “الأبنية الإسمنتية شبه الدائمة” التي شيّدوها في مخيمات غير رسمية ببلدة عرسال الشمالية إلى ارتفاع لا يتجاوز 1.5 متر. وإجبارهم على الهدم كان بدافع تجنب ظهور الجنود اللبنانيين في الصور وهم يقومون بأيديهم بعملية الهدم. وتناول التقرير حادثة إخلاء مخيم دير الأحمر، الذي كان يضم 600 لاجئ، يوم الخامس من يونيو/حزيران، بعد اندلاع الحريق فيه، وتباطؤ رجال الإطفاء في الوصول إليه، وهجوم مجموعة من رجال القرية على ساكنيه، وإضرامهم النار في ثلاث من خيمه واستخدام جرافة لهدم خيمتين أخرتين، من دون أن يتدخل أي من قوات حفظ الأمن الموجودة في المخيم لوقف الهجوم.
لم تمضَ ساعات على صدور تقرير “الأمنستي” حتى تناقل الإعلام خبر مقتل اللاجئ السوري الشاب زكريا خليل الطه برصاصة في رأسه، أثناء عمله في إحدى مقاهي مدينة صيدا لتأخره في إحضار القهوة لزبونيّن مخموريّن، أحدهما فلسطيني والآخر لبناني. وفي اليوم العالمي للاجئين قام الأمن اللبناني بتسليم ثلاثة مجندين منشقين إلى السلطات السورية، مع أن الجميع يعلم ان مصيرهم سيكون الاعتقال والتعذيب ربما حتى الموت، وهذه ليست الحادثة الأولى من نوعها، فقد سبق ذلك تسليم العديد من الناشطين السوريين بعد اختطافهم أو اعتقالهم.
كلفة أخلاقية
أربع اعتداءات خلال أقل من شهر، كفيلة وحدها بترويع أي كان، ولطالما حاول الكثير من المثقفين والمبدعين والإعلاميين ومن الناشطين في هيئات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، أن يكونوا بمثابة صمام أمان إزاء خطاب الكراهية والانتهاكات بحق اللاجئين السوريين، غير أن اللبنانيين المتضامين مع قضيتهم، ليسوا بمنأى عن حملات التشهير والمضايقة والتهديد، حالهم في ذلك حال جميع الداعمين لحق الشعب السوري في الحرية أينما وجدوا، و”حين تصبح اللهجة عنيفة، تصبح الجريمة قريبة”، قال الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، مطلع الشهر الجاري إثر اغتيال رئيس مجلس مدينة كاسل، فالتر لوبكه، الذي كان من أنصار اللاجئين، وأسهم في تأسيس مراكز لاستقبالهم عام 2015.
“من غير الأخلاقي أن تتمنى توقف الحكومة السورية عن استخدام البراميل المتفجرة حينما تكون لديك القدرة على إيقافها”. قالت النائبة البريطانية جو كوكس قبل اغتيالها عام 2016، وكم كانت محقة، فتكلفة بقاء الدكتاتوريات أكبر بكثير من ثمن رحيلها، لأنها لن تتوانى عن فعل أي شيء لاستدراج الآخرين إلى ملعب جرائمها، على نحو يدخل الجميع في دوامة مفرغة من العنف، يصعب بعدها الكشف عن الحقيقة واستبصار الحل وتحقيق العدالة، وإلا كيف نفسر محاولات إعادة تأهيل نظام الأسد وإكراه اللاجئين السوريين على العودة إلى جحيمه؟
المدن