السياسوية: المثقف السياسي والسياسي المثقف/ حسام أبو حامد
حين دخل الشعبي على الحجاج، قال له: “كم عطاءَك؟”، قال: “ألفين”، قال: “ويحك! كم عطاؤك؟”، قال: “ألفان”، قال: “فلم لحنت فيما لا يلحن مثلك؟”، قال: “لحن الأمير فلحنت، وأعرب الأمير فأعربت. ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه”، فأجزل له العطاء.
يذهب رولان بارت إلى أن الفاشية ليست دائماً في “الحيلولة دون الكلام”، وإنما تتجسد أيضاً في “الإرغام عليه”، وفي الحالة العربية، فاقت فاشية السياسة فاشية اللسان، ولا تزال السلطة (وفق بارت أيضاً): “جرثومة عالقة بجهازٍ يخترق المجتمعَ ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده”. فمنذ الأزل، تُرسَم السلطة عبر اللغة التي تنطوي على “علاقة استلاب قاهرة”، وليس النطق والخطاب تبليغاً، كما يقال عادة، بل اللغة “إخضاع وتوجيه معمّمان”، وحين تتكرّر قواعدها المتوارثة جيلا بعد جيل، تترسخ بين أفراد المجتمع، وتمارس عليهم سلطتها الداخلية.
ربما كان العرب، في مساراتهم التاريخية، حالةً نموذجية لفاعلية السلطة بأشكالها المتعدّدة في الفضاء الاجتماعي، والممتدّة في الزمان التاريخي. فرضت اللغة سلطتها، منذ أن استَكمل الشعرُ الصراعَ الوجودي على الماء والكلأ بين قبائل شبه الجزيرة العربية، فكان مديحا وهجاء، على لسان الشعراء المعتمدين من مؤسسة القبيلة، يمنح الحياة معناها العميق؛ وصولاً إلى القرآن الذي خاطب الناس بلغة دلالية بلسان “عربي مبين”. وإن كان صحيحا أن كل المجتمعات لها نصوصها المقدسة، إلا أنها لا تطرح نفسها كنموذج أعلى للكمال والجمال اللغوي “أي لا تطرح نفسها كنصوص – بتعريف بارت- وإنما كأعمال، على العكس من القرآن الذي لا يطرح نفسه في واقع الثقافة العربية كنص مكتوب فحسب، وانما كنص مطلق، مكتوب وشفهي معا، مطبوع وحياتي في آن” (صبري حافظ، “التناص وإشاريات العمل الأدبي”). رسم القرآن عالم العرب الجديد عبر دلالاتٍ لغوية جديدة، وشكّل سلطة معرفية لغوية جديدة.
كان احتكار سلطة اللغة احتكاراً للوعي العام، ودار الصراع الأيديولوجي السياسي في فضاء النص وعلى دلالاته. وسعت السلطة السياسية، طوال عصر التدوين إلى تثبيت الذاكرة الجمعية، وفق توجهاتها الأيديولوجية، وكان على المعارضة، في صراعها مع السلطة أن تخوض صراعا على اللغة، وتنتج خطابها الخاص عبر آلية التأويل، في مواجهة المدافعين عن سلطة النص، المُكرَّسة برفضهم تقسيم النص إلى باطن وظاهر، بدعوى فصم عراه اللغوية، وبالتالي المسّ بسلطته.
في الفترتين الحديثة والمعاصرة، ومع دخول العامة في المجال السياسي، وبدعوى الالتزام، وجد المثقف نفسه أكثر فأكثر متورطاً في السياسي فكراً وممارسةً، مدفوعاً بحسن النوايا وبالرغبة في التأثير في الرأي العام والتغيير الاجتماعي، ومتمترساً خلف الشعارات الكبرى لمختلف الأحزاب والتيارات السياسية. وربما كان للانتماء إلى خط سياسي تنظيمي وحزبي معين دور كبير في رواج عدد من الأسماء الثقافية وتصديرها إلى شريحة واسعة خارج دائرة الثقافة النخبوية. لكن هذا التداخل بين المشروعين الثقافي والسياسي كان على حساب الأول، إذ أصبح الثقافي رهناً بالسياسي لا يتحرك إلا من خلاله وبتوجيه منه، مما أدى إلى سيطرة حالة من السياسوية التي لا ترى في أي نشاط إنساني بما فيه الفكري والثقافي إلا بعداً وحيداً هو السياسي نظرياً وعملياً، مما أدى إلى بروز أزمة مزدوجة على الصعيدين المعرفي والسياسي. تمثلت هذه الأزمة سياسياً بحالة من الرومانسية أدت إلى العجز عن ممارسة السياسة كفن للممكن، وبتلك الدوغمائية التي أوقعت التنظير السياسي في الأيديولوجيا، من حيث هي وعي زائف، عجزت عن التأثير الفعلي في واقع الأشياء.
معرفياً، تمثّلت الأزمة بفكر لم يعد قادراً على إدراك العام في الخاص، وعجز عن امتلاك البعد الفلسفي اللازم لتكوين المفاهيم الضرورية للقبض على الواقع نظرياً. وكانت النتيجة أشباه من المثقفين وأشباه من السياسيين ساهموا في فشل ذريع سياسياً وثقافياً. من خلال فكرة الالتزام نيطت بالمثقف، إلى جانب وظيفته المعرفية، وظيفة اجتماعية، وكان من المفترض أن يكون السياسي مجرّد أداة يُمارِسُ من خلالها المثقف تلك الوظيفة الاجتماعية. لكن انجرار المثقف إلى تلك الحالة السياسوية أدى إلى عجزه حتى الآن عن ممارسة الوظيفة المعرفية الاستشرافية، وأصبح دوره مقتصراً على البحث في تداعيات الأزمات المتكررة على المجتمعات العربية، وتقديم قراءة ارتجاعية للحدث. لقد أدى تغييب الدور المعرفي الحقيقي لمصلحة السياسي إلى الاخفاق في تلك الوظيفة الاجتماعية.
ويبدو أن الاضطراب في الوضعية الاجتماعية العربية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، انعكس قلقاً في الأدوات البحثية المعرفية والمنهجية التي تناولت تلك الوضعية، ولم تكن المؤسسات الثقافية والبحثية العربية، غالبا، امتداداً جدلياً للمؤسسات الإنتاجية، توظف العلم قوةً إنتاجيةً مباشرةً، بل بقيت إطاراً شكلياً، خدم، من خلالها، مثقفون انساقوا وراء الشعارات الأيديولوجية مصالح النخب الحاكمة. وفي غياب تاريخية المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدّم، كان الفشل في تحقيق الرهان المعرفي المنهجي والسياسي، والإخفاق في إحلال سلطة المعرفة والقيم مكان سلطة الاستبداد.
مع انطلاق الانتفاضات العربية استمرت أزمتنا الثقافية، مع استمرار الحالة السياسوية، في ظل انقسام حاد في المجتمعات بين معارضة وموالاة، وفي ظل تأثر أطراف هذه القسمة بالاستقطاب الحاد إقليميا ودوليا، طائفيا وسياسيا. وكان على المثقف تحمل المسؤولية، والقيام بدوره في تغيير الواقع الاجتماعي، والسياسي، لكن سلطة الاستبداد كانت بالمرصاد؛ تُكشّر عن أنيابها دون مواربة، بل كثيرا ما تسامحت مع من حمل ضدها سلاحا ناريا، بل وظفته لتبرير عنفها، في مقابل التعامل بمنتهى الوحشية مع من حمل في وجهها سلاح الفِكَر، إدراكا منها أن الفكرة هي “العضو الفعال في الحياة السياسية”، كما ذهب مالك بن نبي.
التأسيس لثقافة تهزّ عروش الاستبداد
أما من وقف من معتزلة هذا الزمان، فردا ومؤسسة، متحررا من السياسوية، مثقفا السياسة بعد تاريخ من تسييس الثقافة، ورافعا القيم في وجه البراغما المجردة التي استحالت انتهازية ونفعية تغذت منها أنظمة الاستبداد، فكان عليه السير عكس تيار جارف، يطاله ما يطاله من تجريم وتكفير وتخوين واتهام بالعمالة، على غرار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والقائمين عليه من مفكّرين وباحثين، وغيرهم من مثقفين ومؤسسات بحثية واعدة، قدمت للثقافة العربية، في غضون أقل من عقد، ما احتاجت إليه طوال عقود، من تأسيس لثقافة نقدية هزت عروش الاستبداد هنا وهناك، وربطت الأمة بتاريخها ولغتها، وانطلقت متطلعة إلى مستقبلها انطلاقا من الفِكْر؛ صياغة مفهومية، ومناهج بحثية للقبض على واقعها نظريا، طمعا في التحكّم بمسار تطورها. وما يدعونا إلى التفاؤل أن معتزلة (التيار العقلي المستنير في التاريخ العربي) هذا الزمان هؤلاء على استعداد لدفع ثمن مواقفهم متنازلين عن أي مكاسب سياسية.
***
انتهت بالأمس في “ضفة ثالثة” السلسلة الحوارية “الثقافة العربية المعاصرة وثنائية المثقف والسياسي”، التي توالت أجزاؤها الأربعة منذ منتصف الشهر الماضي، وأعدّها الناقد المغربي، أشرف الحساني، وأسهم فيها عدد من المثقفين العرب على اختلاف أجناسهم الكتابية واهتماماتهم البحثية، فبدت ورشة عمل حول الإشكالية المذكورة التي فرضت نفسها بوصفها إحدى الإشكاليات الكلاسيكية، والتي لا تزال تكتسب أهميتها في فترتنا المعاصرة. ولم تكن هذه المبادرة الموفقة من باب الضغط على الجرح كما ذهب الحساني، بل استطاعت، إلى حد كبير، مقاربة هذه الثنائية المستعصية على الفهم داخل الثقافة العربية المعاصرة، ونقد أزعوماتها وأغاليطها، وتشخيص بعض من أعطابها، مع اقتراح حلول ناجعة للرُقيّ بها.
ضفة ثالثة