الاغتياب والتغييب والغيْب/ ياسين الحاج صالح
هذه المادة جزء من «جريدة سميرة»، القسم الذي تحضر سميرة الخليل في نصوصه حافزاً أو موضوعاً ورمزاً.
الاغتياب في العربية هو ذكر غائب بسوء، بما «يَغمُّه لو سمعه، وإن كان فيه». الكلمة مشتقة من جذر الغياب كما هو ظاهر. وفي القرآن يُشبّه الاغتياب بأن يأكل المرء لحم أخيه الميت. هذا تمثيل بالغ القوة، ينطوي على فكرة أن المساس بالكيان المعنوي لمن يجري اغتيابه يماثل نهش جسده، كيانه الفيزيائي الذي تقوم عليه حياته. وهو ما يسمى اليوم الكانيبالية أو أكل لحم البشر. فأنت حين تقول ما «يغمُّ» غائباً، لا يستطيع الدفاع عن نفسه لأنه غائب، فإنك كمن يأكل جسد من غاب عن الحياة. تحريم أكل اللحم البشري ليس مجرد نهي أخلاقي، ولكنه مُعرِّف للبشرية، لتماثل البشر وتساويهم المبدئي، فكأنما لهم جسد واحد، وكأن من شأن أكل لحم أحدهم أن يكون مثل أكل المرء لنفسه. وهو بالتالي نهي أو تحريم مؤسس للإنسانية التي هي في آنٍ مجموع البشر وشيء قائم في كل واحد منهم. حين يلوك شخص قطعة من كبد قتيل، مثلما يُنسب إلى هند، زوجة أبي سفيان، أنها فعلت في تاريخ الإسلام الباكر، أو مثلما فعل مقاتل ضد الدولة الأسدية اسمه أبو صقار عام 2013 حين لاك قطعة من كبد قتيل من قوات النظام، أو مثلما كان يفعل الأميركي جون جونسون (1824-1900)، يلاحق الهنود الحمر ويأكل أكباد ضحاياه…، الفاعل في كل حال يُخرِج أعداءه، من البشرية، وينفي هوية مشتركة معهم. وهو بذلك يخرج نفسه بصورة أخرى. فأنت لا تستطيع أن تخرج أحداً من الناس من الإنسانية الجامعة، دون أن تخرج نفسك معه، ودون أن تلغي الإنسانية جملة. تشْيِيء غيرك أو حيْونته، خفضه إلى ما دون الإنسانية، يتضمن حتماً رفعاً لفاعل التشييء أو الحيونة إلى ما فوق الإنسانية، إلى الإلهية. موقع الإنسانية يبقى شاغراً في كل حال.
حين يقال في القرآن إن «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»، فإنه يصح القول قياساً أن من أكل بشرياً فكأنما أكل البشرية كلها (وأكل نفسه). وهو ما يبقى صحيحاً إن كان المقصود الأكل الرمزي للبشر عبر الاغتياب. في الاغتياب ما يتجاوز حتى الأكل الرمزي للإنسان إلى تدمير مجتمع الناس عبر نهش سمعة المغتاب أو عِرضه. السُّمعة هي خاصية اجتماعية تحيل إلى الثقة والجدارة إن كانت جيدة، وإلى عكسهما إن كانت سيئة، والعِرْض الذي يُعرِّفه ابن الأثير بأنه موضوع المدح والمذمة من الإنسان، هو بدوره الوجه الاجتماعي للإنسان. المساس بعرض شخص يعني تحطيم رابطته الاجتماعية، وإخراجه من المجتمع. من هذا ما يُسمّى اليوم اغتيال الشخصية عبر نشر إشاعات مسيئة. الاغتياب اغتيال معنوي.
تغييب الغيب
أقترح وفي الذهن هذه الخلفية، ثم الرابطة الاشتقاقية بين الاغتياب والغياب من جهة، ورابطة الجناس بينه وبين الاغتيال، أقترح دلالة إضافية للاغتياب: تغييب الناس بالخطف، اغتيال حضورهم وعلاقتهم بعالمهم واتصالهم به، وتعزيز ذلك بالإنكار، أو بتغيب الحقيقة وتغييب المعلومات عن المغتابين. في بالي بالطبع خطف وتغييب امرأتي سميرة الخليل، ومعها رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، منذ أكثر من خمس سنوات وسبعة أشهر، مشفوعاً بالإنكار من قبل الجناة. وفي بالي أيضاً أن اقتران فعل تغييب الأشخاص بالإنكار أو تغييب الحقيقة عنهم، وبخاصة حين ترتكبه مجموعات دينية سياسية، يدعو إلى إقامة جسر دلالي بين كل من التغييب والاغتياب والغيب.
مزيج التغييب والإنكار يُحيل المُغيَّبين إلى ضرب من عالم الغيب الدنيوي، عالم تتساوى فيه بخصوص مجتمع المغيَّبين الاحتمالات كلها، لكن ليس بحال بخصوص مجتمع المغيِّبين، القائمين بالتغييب والمطّلِعين على ما هو محجوب عن علم مجتمع المغيّبين. أعني بمجتمع المغيَّبين المغيَّبين أنفسهم وأهاليهم وأحبابهم وأصدقائهم والمتضامنين معهم، وبصورة ما «الناس جميعاً»، باستثناء المغيِّبين والموالين لهم. والقضية التي أريد سوقها هنا هي أن المجموعات السياسية الدينية التي تمارس التغييب ليست الجماعات التي يحضر الغيب بقوة واتساع في تكوينها وتفكيرها، بل هي بالعكس تماماً الجماعات التي تُضيِّق الغيب إلى أقصى حد. في هذا التناول، الغيب هو موضوع التفكير وأفقه، نفكر في غائب وفي غياب، ليس غياب المعرفة فقط، ولكن في الغياب كبعد جوهري للعالم والمجتمع والنفس، كإبهام وظلمة والتباس قائم في صلب الإنسان وصلب العالم. الغيب نداء للمعرفة، لكنه دعوة للتواضع كذلك. ليس لأننا لا نستطيع أن نعرف كل شيء، ولكن لأننا ننتج الغيب بينما نعرف، لأن الحاضر المعروف والغائب غير المعروف ينموان معاً. الغيب في كل حال في العالم ومن العالم، وفي الإنسان ومنه، ويدخل في باب المجاز تمثيله كعالم مستقل، عالم الغيب الذي يتقابل مع عالم الشهادة.
أعود إلى القول إن المجموعات السياسية الدينية التي تمارس التغييب هي نفسها التي تضيق التفكير إلى أقصى حد، فتلغي الغيب، ولا يغيب عن علمها شيء مهم. وهذا حال السلفية الجهادية بخاصة، والسلفية عموماً. وهو حال أي جماعات سياسية، دينية أو علمانية، تُعرّف نفسها بتطبيق «علم» ناجز يحيط بكل ما هو أساسي، فلا يخفى عليه شيء. من ذلك الماركسية في عرف لينين الذي قال إنها كلية القدرة لأنها علمية! والمقصود أنه لا يغيب عن علمها شيء. ومثل ذلك الإسلام عند الإسلاميين. فهو «علم» تام، مكتمل، متفوق على غيره ومستغنٍ عن غيره، ختام العلم بقدر ما إنه الدين الخاتم. إنه «الحل»، و«شرع رب العالمين» الذي لا يوضع في مقارنة مع أي تشريع أو حكمة بشرية. كل شيء هنا ظاهر وواضح وحاضر، و«ختم العلم» ميسور هنا من قبل «العلماء»، لأن العلم جسم محدود من أحكام وقراءات وتفاسير. يستطيع القوم القول بكل ثقة وتمكُّن إن الإنسان كذا، والله كذا، وما قاله الله كذا، وما يريده الله كذا، وما لا يريده كذا، ويستطيعون وصف الجنة والنار، ولديهم مرويات يقطعون بصحتها بخصوص المستقبل على الأرض والآخرة في السماء، ولهم أحكام على الناس قلّما تقتضي معرفة بالناس. لا تكاد تكون ثمة مساحة لما هو غائب هنا ومتناء ومتعال، ليس هناك مساحة للمُغيّب وغير المعلوم، وما يوجب التعلّم والتفكير لعلم شيء بشأنه، ولمّا يتشكل الإيمان حول الإقرار بعدم علمه، فيكون بذلك مبدأ للتواضع. الدين هنا يذوب في الشريعة، والشريعة جملة أوامر وإملاءات للتطبيق الحرفي، ممتلئة باليقين والوضوح والقطعية. منها ما هو «ظني»، صحيح، لكنه ظن محلي إن جاز التعبير، يجري في نطاق تفوق قطعي للشريعة وأهلها. ومعلوم أن عقائد اليقين اقترنت في كل وقت بقطعية الأحكام في شؤون البشر، وبحظر وتدمير المجموعات والتيارات التي لا تشارك اليقين الحاكم، وبعدم الثقة في التفكير الشخصي، وبسهولة قتل المخالفين. فمن لا يخفى عن علمهم شيء مخيفون لأنهم يسهل عليهم إخفاء الناس، ومن لا يصمد في وجههم غيب، يسهل أن يكونوا غيّابين ومغتابين. لقد شوهدت أمثلة لذلك في ألمانيا النازية وفي روسيا الستالينية وفي كمبوديا الخمير الحمر، وعند داعش.
ما يغيب من الإسلام الحركي اليوم هو بالضبط الغيب، مساحة غير المعلوم والغامض والملتبس، ما تتحير فيه الألباب، ما يدعو إلى التفكير، وما يدفع إلى تعليق الحكم أو إلى الإيمان كثقة بقوة خيرة نعرف عنها القليل، ولذلك نؤمن بها، الله. ويقترن بضمور مساحة الغيب ضمورُ التجربة الدينية الحية كإيمان يفترض مساحة غيب واسعة، في النفس والمجتمع والعالم، وإن لم يقتض حتماً التسليم بدوام وثبات الغيب. في الإسلام الحركي المعاصر، وبالتناسب مع سياسته ومنهجه التطبيقي، وأكثر مع حربيته، الغيب غائب، والدين شهود محض. فهل يبقى ديناً؟ قبل فشل سياسي متواتر، وكوارث عسكرية مدمرة، وشقاء وشقاق نفسي عنيف، هناك فشل ديني عند الإسلاميين يتعين على ذوي الألباب منهم تقصّي جذوره. أعتقد أن بناء الدين على غرار العلم الحديث، مفهوماً كيقين وضعي مبتذل، أحد هذه الجذور، وأن التفكر في الشريعة كقانون للدولة الترابية الحديثة جذر آخر، ومن الجذور كذلك تصور الله كحاكم سياسي مطلق. عموماً الأصل في هذا الفشل هو «تديين العلماني» مما تناولته في كتاب الإمبرياليون المقهورون.
أكل لحم البشر الشرعي
ممتلئين بشهود لا يترك مساحة لمحاورة النفس ومساءلتها عن الغائب، يسجل الإسلاميون الحركيون تساهلاً مع النفس وافتقاراً إلى التواضع يحاكي ما سجلته أنظمة شمولية في القرن العشرين، واستعلاءاً دينياً يضاهي الاستعلاء العنصري وإن دون استناد إلى العرق. وكلاهما، التساهل مع النفس والاستعلاء على الغير، يسوّغ الجريمة أياً تكن. يلقيان التعزيز بعد ذلك من سردية مظلومية بالغة القوة إلى درجة احتكار المعاناة من الظلم والشعور بالعدل الذاتي مهما كان سجل الأفعال إجرامياً.
ومن هذه الجرائم اغتياب يطال المغيبين وأهالي وأصدقاء المغيبين.
المغيبون أنفسهم هم مساحة التقاطع الوحيدة بين مجتمعين، يقتطع فيه مجتمع المغيِّبين اللحم الحي لمجتمع المغيَّبين. فإذا كان الاغتياب، بمعنى قول السوء عن غائب، هو بمثابة أكل لحم الأخ ميتاً، فإن الاغتياب بمعنى خطف وتغييب بشر أحياء هو بمثابة أكل اللحم البشري الحي. ما يجري افتراسه هنا ليس سمعة الغائب، ليس كيانه المعنوي، وليس «عِرضه»، بل كيانه الفيزيائي والحقوقي والسياسي، واقتطاعه من الجسد الحي لمجتمعه، أكل لحم مجتمعه حياً. قد يمكننا الكلام هنا على كانيبالية دينية إسلامية، يُسهِّل من أمرها غياب مفهوم الأخوة البشرية في فكر الإسلاميين. الأخوة دينية هنا حصراً، ومن لهم جسم واحد بحيث يكون أكل لحم أحدهم بمثابة أكل لحمك بالذات هم المسلمون حصراً. ثم إن هذه الأخوة الدينية تستبعد من لا يشارك تصورات بعينها للدين، تصورات «فِرَقَية» إن استعدنا لغة قديمة، على نحو يجنح بالإسلامية لأن تكون عقيدة شقاق مستمر، داخل المجتمع وداخل جماعات الإسلاميين أنفسهم، وداخل النفس. السلفية تحديداً، في التاريخ واليوم، هي في الجوهر عقيدة شقاق في النفس وفي المجتمع وفي العالم، وهذا بقدر ما هي علم مكتمل وعقيدة يقين لا غيب فيها، في عالم متغير لا يكف عن إنتاج الشهودي والغيبي، ومزج الشهودي بالغيبي. السلفي مثل زهران علوش وسمير الكعكة يستطيع أن يعيش بنفسين في عالمين، نفس خارجية هي نفسه الحقيقية الخيرة دوماً هي عقيدته السلفية، ونفسه الفعلية لكن غير الحقيقية كقاتل وجلاد وسارق، وهو لا يكف عن فصل الواحدة عن الأخرى، محتالاً عليهما معاً وعلى ربّه.
على أرضية عقدية إسلامية، قد يمكن الاستناد إلى تأسيس النهي عن القتل على أنه إبادة للإنسانية، قتل للناس جميعاً، ما لم يكن قصاصاً أو جزاء «فساد في الأرض»، وهذا يمكن أن يفهم كإفساد لبيئة حياة الإنسانية، أقول قد يمكن الاستناد إلى ذلك للدفاع عن جسم واحد للإنسانية. لكن هذا ما يتعين على مسلمين مؤمنين فعله وكسب الصراع ضد آكلي لحم الأحياء والأموات من الإسلاميين، جماعة الولاء والبراء بخاصة، ممن جعلوا أكل لحم الغير واجباً دينياً.
في غياب هذا الجهد، يستفيد مجتمع المُغّيِّبين من تناقض النصوص الدينية التي تنهى عن أكل لحم الأخ المؤمن، لكنها تغتاب هي ذاتها غير المؤمن، فتسوغ اغتياله واغتيابه بالمعنى المقترح هنا، أي تغييبه وأكل لحم مجتمعه. بعبارة أخرى يبدو أكل لحم البشر مباحاً إن كان لحم غير المؤمنين. يأكل الإسلامي لحم جميع البشر رمزياً عبر الحط من شأنهم وقول السوء عنهم، بما يسهل اغتيابهم (بمعني تغييبهم)، واغتيالهم.
قتل جميع الناس
الكانيبالية الدينية السياسية، إذ تنفي البشرية، تخرج المغتابين من أي نظام حقوقي أو سياسي، بما في ذلك «الشريعة الإسلامية» بالذات. ليس اغتياب سميرة ورزان ووائل وناظم «حكماً شرعياً» معلوماً (الأرجح أنه جرى استحصال فتوى غير معلنة من مفتي القتل سمير الكعكة الذي كان يتدرب على رمي الرصاص بالتسديد على أهداف بشرية حية)، ولا يتعلق الأمر بحال بعقاب ديني غير عادل، أو بحرمان جائر من الحقوق، بل هو إخراج من الحقوق ومن الوجود، ومن الصفة البشرية، لا يقارن إلا بالاستعباد والإبادة، وهما شريكان للكانيبالية في إنكار البشرية. ليس ما لدينا هنا اغتياب بشر وتغييبهم فقط، وليس لا مبالاة بمجتمع المغيَّبين فقط، بل استثناء المغتابين ومجتمعهم من البشرية بحيث لا يكون أكلهم الديني السياسي كانيبالية.
لكنه كذلك في واقع الأمر. وما شهدناه في سورية، وقبلها في العراق، على يد تنويعات السلفية الجهادية هو نكوص توحشي إسلامي، يمد جذوره في التقاء الاغتياب الشرعي لجميع غير المسلمين، أي أكل لحمهم شرعاً، مع تديين العلماني والتصرف بمنطق دولة سيدة تحتكر العنف المشروع.
والحال أن التوحش جرى الوصول إليه فعلاً، وجرى وعيه الذاتي في نظرية «إدارة التوحش» التي هي نظرية في قتل جميع الناس، عدا الإسلامي الصحيح. فهو، أعني التوحّش، ليس احتمالاً مضمراً في ما قد تقررّه عقيدة من أفضليتها على غيرها وأفضلية معتنقيها على غيرهم. وما دام الوصول إلى هنا قد تحقق فعلاً، فإنه يدعو إلى النظر في طريق الوصول كله، من النص إلى الكانيبالية، وما يحف بهما من دولة وسياسة ومجتمع. ولعل هذا في سبيله لأن يجري بعد كارثة داعش، فيُساءَل الدين كاحتكار للاغتياب الشرعي أو المقدس، والتكفير بما هو سياسة استئصال وإبادة شرعية.
التألّه
يمكن وفق تأويل آخر للكانيبالية الدينية السياسية الكلام على استثناء النفس من البشرية بالتألّه والسيادة، على ما تقدم التلميح. السيد يقتل دون أن يُسأل، أي دون أن يُحاسَب أمام قانون. والقتل عند السيد هو منهج انتخاب العبيد الصالحين أو الشعب الصحيح. حين يقرر السيد في شأن الاستثناء، على ما عرف كارل شميت السيادة، يستثني نفسه من القانون، أو يعلق القانون باسم القانون، على نحو نعرفه جيداً في سورية الأسد التي قامت على استثناء تأسيسي، وبالتالي دائم، وعلى حق قتل مصون وغير مُساءَل خلال نصف قرن، أثمر مجتمع بشار الأسد المتجانس. في الإسلامية المعاصرة يبدو الله سيداً سياسياً، يقرر من يُقتَل ومن يُترَك حياً مثل السيادة في تعريف فوكو؛ وهذا بقدر ما يبدو الإسلامي إلهاً بشرياً، معصوماً، عالماً بالغيب ومُطّلعاً على الأفئدة، غير مسؤول بعد ذلك، وليس فوق سلطته سلطة. الحاكمية الإلهية (الله-قراطية) لا تعني شيئاً آخر غير تأله الحاكمين، الإسلاميين بطبيعة الحال.
واقتران الاغتياب ككانبيالية وإخراج من البشرية مع التألّه الذي هو إخراج للنفس من البشرية من باب آخر، عُلْوي، يظهر وجهي عملية التوحش أو نزع الإنسانية اللذين لا ينفصلان عن بعضهما. وما يترتب على ذلك منطقياً هو أن حماية الإنسانية توجب إقامة نفي الاغتياب على نفي التأله الذي هو جوهر الإسلامية المعاصرة. أو باختصار على نفي الله الكانيبالي، الكافل الآكل لحم البشر.
الكفر
المغتابون هو الدال الذي يحيل إلى من قاموا بفعل الاغتياب وإلى من جرى اغتيابهم في آن، بما يماثل تعاكس الدلالة لكلمة المُحتلين مثلاً. وما تجوز إقامته على هذه الواقعة الدلالية هو أن المغتابين لا يستطيعون اغتياب المغتابين إلا بأن يغتابوا أنفسهم. وفي هذا ما يكرر بنية التوحش: أنت لا تأكل لحم أحد فتخرجه من الإنسانية إلا بأن تخرج نفسك، ولا تشيئه أو تحيونه إلا بأن تؤله نفسك. التوحش مضمون في الحالين.
فإذا تذكرنا أن الكفر يعني في الأصل التغطية أو الحجب، جاز القول إن الاغتياب (كمركب من تغييب وإنكار) هو كفر مطلق، لكونه يتعدى أكل اللحم البشري إلى تقرير لا تمايز بين الحياة بالموت فيما يخص مجتمع المغيَّبين: لا نعرف إن كان أحبابنا من الأحياء أم الموتى، ولا يحوز عيشنا في برزخ من غمام لا ينتهي أي قيمة في عين الكانيباليين الدينيين السياسيين، الذي يمنحون أنفسهم بالمقابل حياة أبدية لا موت فيها (إلا أن يكون ممراً وجيزاً نحو الخلود في النعيم، يُكافَؤون به على أكل لحوم الخارجين على جسد ديني واحد). تغطية الحياة على هذا النحو كفر بها، وبالموت. وهذا حق مصان لله وحده. فلا يتساوى الموت بالحياة إلا في عين مطلقة مثل عين الله. ليس المغيِّبون الإسلاميون متألهين لكونهم سادة يقررون من يحيا ومن يموت، بل لأنهم يقررون من يجب أن لا يعرفوا الحياة من الموت، والموتى من الأحياء، هذا بينما هم وحدهم يعلمون الغيب في هذا الشأن وفي كل شأن، بما في ذلك ما يكونه الله وما يريده. أتكلم على كفر مطلق لأن التأله هو ما يجدر بالإنسان ألا يغفره، أو ما لا يحق لإنسان غفرانه لأن من شأنه قتل الناس جميعاً عبر محو الفارق، بحيث تكون الحياة والموت سيان.
الكافر هو المتألّه، والمتألِّه هو الإسلامي المطّلع على الله والذي نصّب نفسه دياناً للناس.
الرجاء والإرجاء
الاغتياب بشكليه، أكل البشر أمواتاً بقول السوء عنهم، والثناء على النفس أو مداعبتها لفعل ذلك، أو أكل مجتمعهم الحي بتغييبهم فلا يُعرف إن كانوا أحياء أم أمواتاً، يبدو فاعلية مُعرِّفة للسلفيين من الإسلاميين، ليس شيئاً يقومون به، بل شيئاً يكونونه. أن يتشارك الكانيبالية الدينية السياسية تشكيلان كانا يبيحان دم بعضهما، داعش وجيش الإسلام، ففي ذلك ما يشير إلى تطابق التوحش والتألّه. بل قد يمكن تعريف التوحش بأنه صراع الآلهة. وهذا صراع لا سياسة فيه ولا تسويات. إبادة فقط.
يبدو مجتمع المغيَّبين، في مقابل تشكيلات الإلهيين العالمين بالغيب، هو مجتمع جميع الناس ممن لا يستطيعون إلا الإيمان بالغيب، ببعد غائب عن علم الإنسان، هو في الوقت نفسه مدخل إلى الرجاء. نرجو لأننا لا نعلم كل شيء، لأننا لسنا آلهة. ثم أننا نأمل لأننا نعمل ونعرف أشياء لم نكن نعرفها. الآلهة لا ترجو شيئاً ولا تأمل شيئاً. نحن الذي نرجو أن يتكشّف الغيب عن حياة أحبابنا في مواجهة الآلهة الذين يحجبون العلم عنا. ونحن الذين نأمل. وفي هذا مثلنا عموم المؤمنين، ممن يؤمنون بالغيب فلا يحكمون ولا يتحكمون، ويصونون مبدأ الرجاء في أنفسهم.
وغير الرجاء، الغيب مفتوح على «الإرجاء»، تعليق الحكم على أفعال الناس وعقائدهم. ذو دلالة أن السلفية الجهادية، وهي مذهب في «الفعل المباشر» أو «الخروج»، تكفّر «المرجِئة»، الفرقة الإسلامية القديمة التي «أرجأت» حكم «مرتكب الكبيرة» وتركته لله. يؤسس التكفير الذي قلما يقاوم إغواءه الإسلاميون لما يدرّه من سلطة لعملهم كديّانين للناس جميعاً، يغتابونهم شرعاً. إنقاذ الرجاء، والإرجاء كأساس لمجتمع لا يثابر الناس فيه على إدانة بعضهم وقتل بعضهم، يوجب مساحة تتسع للغيب، وتضيّقاً للقطع واليقين. إنقاذ التفكير أيضاً بقدر ما إن موضوعه هو الغائب وعالمه. في فكرة الغيب عنصر ديمقراطي محتمل هو ما لا تكف عن تغييبه الإسلامية المعاصرة في عمومها، والسلفية بوجه خاص.
الحجاب الكافر
يثير التفكير كذلك الترابط بين الحجاب وأشكاله، وصولاً إلى النقاب الذي «لا يصف ولا يشفّ ولا يلفت النظر»، أي الذي «يَكفُر» بجسد المرأة، وبين الاغتياب ككانيبالية، أكل لحم مجتمع المغيَّبين. أي بين الحجاب الشرعي يأكل وجه المرأة و«يغتاب» جسدها (يرميه بـ«الفتنة» ويجنسه بإفراط)، وبين الدين السلفي الذي أظهر طاقات اغتيابية، أي كانيبالية، مذهلة. الفرق أن الحجاب ظاهر، وأن الشريعة كمتصرف بأجساد النساء وطاقاتهن الجنسية هي اسم لقواعد عامة، فيما الكانيبالية الدينية السياسية محجوبة، لا تظهر دون تأويل. لكن في كل الأمثلة المعروفة يسير أكل وجوه النساء واغتياب قسماتهن الجسدية يداً بيد مع الاغتياب الشرعي لجميع الناس، ومع أكل لحوم البشر موتى وأحياء. ما يقوله السلفيون عبر إسناد أفعالهم لربهم هو أن الله هو آكل وجوه النساء والكافر بأجسادهن ومُلتهِم اللحم البشري، المغتاب الحاضر دوماً. وإذ هو راية دينية سياسية لتيارات متنازعة، فإنه يبدو فوق ذلك إلهاً منقسماً، تأكل أقسامه بعضها.
نفي نفي الغيب
والخلاصة أن ما يوجبه نفي الاغتياب من نفي التأله، وما يقتضيه نفي التأله من نفي نفي الغيب (الله وحده «علّام الغيوب»)، هو ما تنفتح عليه هذه النظرات في الديني السياسي في حياتنا المعاصرة. الاغتياب منطلق أساسي للنظر في الإسلامية المعاصرة، وفي مواجهة الاغتياب بالغيب ما يمكن أن يؤسس لدعوة إلى التواضع وإلى إنسانية متسامحة، غير غيّابة وغير ديّانة، وما ينفتح على الغيب كمساحة للرجاء والإرجاء، أو للأمل وتعليق الحكم.
جريدة سميرة/ ياسين الحاج صالح
سمور،
تذكرين أنكِ نضَّدتِ مقالاتي الأولى بعد ارتباطنا، قبل أن تُعلِّميني الكتابة على الكمبيوتر. فاجأتُ نفسي بسهولة خيانة القلم، وصرت أكتب مباشرة على الشاشة بعد افتراض رومنسي من طرفي عن التعلق بالقلم والورق. كنت أعود إليك كل حين: أين الشدّة؟ أين القوسان المعقوفان؟ لماذا إضاءة الشاشة خافتة؟ معلمتي كانت صبورة على المتعلم المتذمِّر. كنتِ تقرئين المقالات قبل إرسالها للنشر، وتُثنين عليها. بعد حين صرت أكتب دورياً، مرة في الأسبوع على الأقل، ولم أعد أعرض عليك المواد قبل إرسالها. بين حين وآخر نتكلم على مقالة أكتبها أو أرسلتها للتو، فتطلبين أن تَريْ المقالات قبل إرسالها أو وقت إرسالها، وأعد، ولا ألتزم إلا لمرة أو مرتين قبل أن تعود حليمة إلى العادة القديمة. كنت أعلل نفسي أنك سترينها بعد يومين أو ثلاثة في كل حال. لزوجك الذي كان غارقاً في الغالب في أفكاره، كانت الكتابة عملاً يجري في عُزلة وعلى انفراد، فعل كلام موصول مع النفس؛ والإيقاع السريع، اللاهث بالفعل، الذي وجدت نفسي منضبطاً به طوال سنين كان يتركني مستنفر الأعصاب، لا أكاد أفرغ من شيء حتى أبدأ بشيء آخر. مرّ وقت، تذكرين يا سمور، أني كنتُ أكتب مادتين كل أسبوع. أمّنَ لنا هذا دخلاً كريماً، لكن حين أنظر إلى تلك السنوات اليوم، يبدو ذلك الإيقاع مثل دخول طوعي إلى الحبس. مرة قيل شيء بحضور بكر عن وقت خروجي من السجن، فردّ متهكماً: ليش ياسين طلع من السجن؟ كان هذا تلخيصاً مكثفاً لواقع الحال.
خلال سنواتنا كلها معاً، كنتِ شريكة في حياة لا تكاد تفيض عن الكتابة إلا نحو الصداقة. كنتُ جريدة أو أكاد. وكانت الجريدة جريدتك. كانت المشروع الذي أردت له أن يثمر. وغير الجريدة، كان أصدقاؤنا نوعاً من سورية مصغرة، وغير قليل منهم كانوا أزواجاً من حبيبين شابين، أحبوا علاقتنا وحياتنا، وكانوا في بيتهم في بيتنا.
سورية الصغيرة هذه تشتّتت في كل مكان مثل سورية الأكبر. لكن في شتاتها، أهلها يفتقدون الغائبة، ويتفقدون شريكها حين يحدث أن يغيب قليلاً.
لم أقل لك من قبل يا سمور أني انفلتُّ من إيقاع الكتابة الدوري، فلم أعد الجريدةَ التي كنتُها منذ الخروج من دمشق قبل ست سنوات ونيف. ثم لم أعد إلى الكتابة في جرائد منذ نحو عامين.
ولم يكن مر وقت طويل على بداية توقفي كجريدة حتى غبت عني، أنت صاحبة المشروع. كنت لتديرين جريدة ناجحة في سورية أقل فظاعة من سوريتنا، يا سمور. بنشر أقل، وليس بالضرورة بكتابة أقل، أحب أن أوجه لك ما أنشر اليوم من مقالات ورسائل وخواطر. «جريدة سميرة» هو اسم جامع لمواد تنشر في الجمهورية.
تذكرين يا سمور أني أصدرت منفرداً ثلاثة أعداد من نشرة شخصية كان اسمها «قنطرة» بين أواخر 2000 وربيع 2001، وقت كنت أنت تعملين في مكتب جريدة الخليج في دمشق. أظن أنك نضدتِ بعض مواد تلك النشرة التي ساعد في إخراجها وطبعها في حينه صديقان شابان متحابان، تفرّقت سبلهما لاحقاً. هل تذكرين أني قلت في أول إصدار لها إن المقصود بـ«قنطرة» أن تسهم في الوصل بين جيلين، وبين طورين من العمل العام في بلدنا، وإن لم تخني الذاكرة فقد قلت كذلك إنها قنطرة بين شكلين من العمل العام لمحررها. «جريدة سميرة» هي قنطرة إليك، أنت الغائبة البعيدة عني، الأقرب من كل قريب.
إلى القارئ
النصوص التي تنشر في «جريدة سميرة» هي مواد في الجمهورية، تستأنف بعد توقف مؤقت نشراً شبه دوري. أرجو من وضعها تحت عنوان «جريدة سميرة» أن يعطيني حرية في المواضيع وفي الأسلوب، وفي المساحة. لن تكون سميرة الموضوع الحصري لمواد هذه الجريدة، لكن أرجو لحضورها فيها، المباشر وغير المباشر، كحافز وكمخاطب وكموضوع أو غائب، أن يعطي هذه النصوص خصوصية تميزها.
ومن وجه آخر تستجيب نصوص «الجريدة» لحاجتي إلى مخاطبة امرأتي المغيبة بطرق مختلفة. كانت سميرة هي الغائبة التي تناولتها مقالات كتبتُها عنها وعن قضيتها، مع شريكتها رزان وشريكيهما وائل وناظم؛ ثم كانت سميرة هي المتكلمة في كتابها: يوميات الحصار في دوما 2013؛ ثم المخاطبة في رسائلي إليها. في هذه الجريدة، سميرة هي الرمز المُحال إليه، الحاضر دوماً بقدر ما هو غائب.
لسميرة قضية عامة، لا تنفصل بحال عن رزان وائل وناظم. القضية واحدة. لكن سميرة شريكتي، وهي قضيتي الشخصية من حيث أني شريكها الناجي، وهي محور تفكيري في قضايا متنوعة ومعيار حكمي في شأنها. لا أفكر في سميرة ولا أتذكرها، هي معي في كل وقت، وأنا هي في غيابها.
موقع الجمهورية