الناس

الذكرى السادسة للمذبحة الكيماوية الكبرى في الغوطتين الشرقية والغربية

عودة إلى السنة الشنيعة

تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية

عندما اجتمعنا للقيام بثالث أعمال تنسيقيتنا، التي كان أولها بياناً في ذكرى ثورة 2011 وثانيها نصاً في مديح التفاجؤ وهجاء أصحاب الحتمية التاريخية، كنا نريد أن نكتب بياناً حول العام 2013، عام الاختناق واكتمال الانقلاب على تطلعات وآمال العام 2011. وقد اخترنا أن يكون نشر البيان في ذكرى المذبحة الكيماوية، لأن هذه المذبحة وما تلاها من صفقة العار الأميركية الروسية، تمثّل تكثيفاً للكيفية التي كانت فيها مجمل السياسات الدولية رافعةً للقوى التي لا تزال تسحق الأمل في بلادنا بشكل حثيث.

ولكن خلافاً للذاكرة القوية التي كنا نحملها بخصوص العام 2011، كانت ذاكرتنا حيال العام 2013 مشوشةً إلى حد بعيد؛ تذكرنا فوراً اتساع نفوذ الجماعات الجهادية وظهور داعش، واختطاف عدد من أبرز نشطاء ومناضلي ثورتنا على يد داعش وجيش الإسلام وغيرهما، وتذكرنا المذبحة الكيماوية والصفقة التي أعقبتها، وتذكرنا انقلاب السيسي في مصر ثم بدء مسيرة التراجع عن كل إرث ثورة يناير العظيم فيها، وتذكرنا التعثر في مسارات الديمقراطية الوليدة في ليبيا واليمن، التعثر الذي كان تمهيداً للحروب المتتالية التي بدأت في البلدين عام 2014 ولا تزال مستمرة حتى اليوم.

لكن ما كان عسيراً فعلاً هو ربط هذه الأحداث ببعضها بعضاً وتركيب صورة واضحة عنها، وبعدها الانتقال إلى استخلاص نتائج منها لتكون بمثابة نقطة انطلاق لبرنامج عمل التنسيقية خلال السنوات القادمة. غير أن الأكثر صعوبة كان الخروج بشعور مشترك، لأنه إذا كان الشعور الغامر عند تذكر أحداث العام 2011 هو ذاك المزيج من الفخر والحنين، فإن تذكر العام 2013 يأتي بمشاعر الفخر والحنين والغضب والرثاء والحسرة والاختناق والضياع، يأتي بها كلها معاً على نحو لا يمكن التعامل معه بسهولة. على أي حال، كان ثمة شعورٌ مشتركٌ واحدٌ بالغ الوضوح، لقد دخلنا ذلك العام بآمال كبيرة، وخرجنا منه بآمال محطمة.

لن نكتب بياناً إذن، بل سيكون هذا النص محاولةً لاستذكار وقائع من ذلك العام الرهيب، ومحاولةً لقول شيء بشأنها بعد نحو ست سنوات.

*****

لنتصور من باب تمرين المخيلة أن الحكم الأسدي أطلق في صيف 2013 حملة علاقات عامة منسقة دولياً، خصص لها ميزانية بمئات ملايين الدولارات، بغرض إقناع النخب المؤثرة عالمياً بأنه الحكم الشرعي في سورية، وأنه ليس إلا محارباً لما يستهدفه من إرهاب محلي مدعوم من قوى إقليمية محافظة ومتعصبة. تتطلب حملة كهذه متكلمين، وأفضل متكلمات، يتقنَّ ويتقنون لغات أجنبية، يظهرون ويظهرنَ على أهم الأقنية الفضائية في العالم، ويكتبنَ ويكتبون المقالات في أكبر الصحف، وينتجون أعمالاً فنية متقنة عن تاريخ سورية ومجتمعها قبل «الأزمة»، وهذا طوال شهور صيف 2103 في نيويورك وواشنطن ولندن وباريس وروما وبرلين من العواصم الكبرى في الغرب، وربما في اليابان وأستراليا وكندا وغيرها.

تُرى هل كان يمكن لحملة كهذه أن تثمر شيئاً أفضل من مجرزة كيماوية كبيرة، أُعطي النظام بعدها مباشرة تقريباً رخصة في قتل محكوميه بكل الأسلحة الأخرى، عدا السلاح الكمياوي، بل وبالسلاح الكمياوي ذاته، على ما سيثبت لاحقاً؟ وهذا بعد أن كان الأميركيون والروس قد تسابقوا في الثناء على تعاون النظام في نزع سلاحه المميت (هل نتذكر نزع أسلحة نظام صدام حسين؟ وكم حرص رتشارد بتلر وفريق مفتشيه على إذلاله؟)، ويعد أن كانت اللجنة الدولية لنزع السلاح الكيماوي مُنحت جائزة نوبل للسلام، بعد نحو شهرين فقط من الصفقة المشينة بين الأميركيين والروس في 13 أيلول 2013.

عَنَت الصفقة الكيماوية ثلاثة أشياء:

أولها، إخراج الثائرين السوريين، بيئات اجتماعية وتعبيرات سياسية ومقاتلين، من السياسة ومن كل حساب سياسي، وإباحتهم للقتل دون أصوات إدانة دولية. لقد فهم النظام من الصفقة الكيماوية بحق أن قتله للسوريين ليس المشكلة، بل عدم انضباطه التام بقواعد دولية قررها الأقوياء. فإذا استطاع أن يقتل ويدمر محكوميه دون ضجيج كبير، فعليه الأمان. أنتج ذلك مقداراً كبيراً من اليأس في البيئات الاجتماعية للثورة السورية، وكان هدية ثمينة للعدمية الإسلامية التي لطالما كان اليأس وسحب الثقة من العالم حليفها الموثوق. وبينما كان اللجوء السوري حتى ذلك الوقت بحثاً عن أقرب ملاذ آمن في لبنان والأردن وتركيا، فقد دشنت الصفقة طوراً من اللجوء أبعد مسافة من حيث الملاذ، وأطول مدى من حيث التخطيط.   

وثانيها أن النظام الذي كان حتى ذلك الوقت منبوذاً من القوى الغربية والأمم المتحدة والدول العربية، «أصدقاء الشعب السوري»، أُدخل بعد المذبحة في السياسة، وصار الطرف السوري الأساسي الذي يجري التحادث والتواصل معه في شأن مستقبل سورية. وبما أنه نال تفويضاً متجدداً في إخراج محكوميه من السياسة بالعنف غير المقيّد، فإنه سيصير يوماً بعد يوم أقوى ومعارضوه أضعف، أي أن عملية إعادة تأهليه واقعياً بدأت منذ تلك الصفقة المشؤومة. ولم يكن التدخل الأميركي في أيلول 2014، والتدخل الروسي في أيلول 2015، غير استمرار للصفقة ذاتها، لكن لأغراض أخرى ليس بينها إشراف عن قرب على نزع السلاح المحرم نفسه. الأميركيون ضد العدمية الإسلامية، والروس لمصلحة العدمية الأسدية.    

وعنت الصفقة، في المقام الثالث، قفزة في تدويل الصراع السوري، على نحو يتضمن أن استمرار الصراع واستمرار النظام في القتل صار مندرجاً في تراكيب وتفاهمات وأوضاع دولية لا تنزع الشرعية عن القاتل العام، بل هي أقرب إلى تطبيعه. اللجوء السوري الذي حقق قفزة طرقت أسماع سكان الكوكب كلهم عامي 2014 و2015، بفعل وصول نحو مليون لاجئ إلى أوروبا فيما صار يعرف بأزمة اللاجئين، هو نتاج الكفالة الدولية لبقاء الحكم الأسدي، وانسداد أفق الأمل الذي كان قد انفتح بالثورة.

ومثلما لم يكن قتل السوريين بالسلاح الكيماوي هو المشكلة، بل انتهاك خط أوباما الأحمر، كذلك لم تكن أزمة اللاجئين هي اضطرار ملايين السوريين للفرار من بلدهم بفعل استهداف بيئاتهم وما يتعرضون له من مخاطر مميتة، الأزمة بالأحرى هي وصول اللاجئين إلى أوروبا. لدينا هنا انزعاج دولي واسع من «أزمة اللاجئين»، مع تجاهل تام لتدويل الأوضاع السورية التي لم تكن أزمة اللاجئين غير نتاج لها. وكان حل الأزمة اتفاقاً بين أوروبا وتركيا في شباط 2016 تحرس بموجبه الأخيرة الحدود الأوروبية، وتعوق حركة السوريين ليس باتجاه أوروبا الغربية الميسورة فقط، بل حتى داخل تركيا ذاتها. ويقع هذا في خلفية استخدام اللاجئين السوريين كبش فداء من قبل حكم حزب العدالة والتنمية إثر خسارته الانتخابات البلدية في اسطنبول، كما أنه يفسر صمت الحكومات الأوروبية على تهجير لاجئين سوريين إلى أراض سورية غير آمنة، وهي الحكومات التي لطالما وجدت من الأسباب ما يكفي لانتقاد الحكم التركي بالحق وبالباطل في السنوات الأخيرة.

والخلاصة أن عائد مذبحة بسلاح دمار شامل كان أفضل بكثير من العائد المحتمل لحملة علاقات عامة مكلفة، كان يرجح أن ترتفع ضدها أصوات ناقدة، من غربيين وسوريين وأصدقائهم، فتبطل أثرها أو بعضها. ما حصل هو العكس، ارتفعت الأصوات الناقدة ضد ما بدا أنه تدخل محتمل حينها، وكان ذلك مناسبا جداً للحكومتين الأميركية والبريطانية. في تصريح عجيب في لندن في الأسبوع الأول من أيلول 2013، صرح جون كيري، وزير الخارجية الأميركي بأن الضربة إن وقعت فستكون صغيرة بقدر لا يُصدّق! أيها السيد المجرم بشار، قد نضطر إلى ضربك، لكن لا تقلق، ستكون الضربة صغيرة، ولن تؤثر على بقائك ولا على قدرتك على قتل محكوميك! كان هذا بعد أسبوع واحد من اهتداء الأميركيين بإلهام إسرائيلي إلى أن نزع سلاح النظام الكيماوي أصوبُ حتى من ضربة صغيرة بقدر لا يُصدّق! المشكلة التي عالجتها القوى النافذة في العالم هي ما قد ينالها منه الحد الأدنى من الأذى، ومنها في هذا الشأن إسرائيل التي يتسابق طرفا الصفقة على إيلاء أمنها أولوية عليا، وليس حد الأذى الأعلى الذي أصاب ويصيب محكومين شرق أوسطيين لا شأن لهم. ومسلمون فوق ذلك.

لقد صارت سورية فضاء استثناء عالمي، ضرباً من معسكرِ اعتقال وساحةِ مذبحة، يُباح السكان فيها للتعذيب والقتل والتجويع والاغتصاب والتهجير، مع يقين القتلة بأن لا عواقب محتملة على جرائمهم. إبادةٌ على الهواء. هذا يتجاوز في تقديرنا ما حلم به الحكم الأسدي ذاته في أي وقت. وإذ هو تحقَّقَ علانية وعبر تفاعلات دولية كثيفة معلومة، فإنه يُرسي نموذجاً عالمياً لا بد أن يكرر نفسه هنا أو هناك. الاستثناء السوري يتحول إلى معيار تستند إليه سلفاً حكومات مصر والأردن وإيران وغيرها لتطبيع نفسها. هناك رفض عالمي للرؤية يبلغ حدَّ التباهي بالعمى، لكن لعله لن يمضي وقت طويل قبل أن يضطر كثيرون لفتح أعينهم ورؤية أن نُذُر الكارثة كانت تتجمع «شرق المتوسط»، وهم بين غافلين عمّا يجري وبين سعداء به، ومنهم بخاصة جار السوء النووي في الجنوب.

*****

ولكن قبل أن تأتي الصفقة الكيماوية لتضع الخطوط العريضة الناظمة للتدخل الدولي في المسألة السورية، كان الصراع السوري يفقد سوريته على نحو متسارع منذ أواخر العام 2012 ومطلع العام 2013. وليس فقدان السوريّة الذي نتحدث عنه هنا متعلقاً بالخطاب والشعارات والتحالفات، فهذا كان يحصل تباعاً منذ مطلع العام 2012، بل نتحدث هنا عن انهيار فعلي للإطار الوطني للصراع على الأرض، وتحوله إلى مواجهات عسكرية مفتوحة ومتتالية تبدو المواجهة بين قوى المعارضة والنظام جزءاً منها ومفصلاً من مفاصلها فقط.

دخلنا عام 2013 مع معركة لم تنَل قسطاً كافياً من التحليل والتغطية وقتها، لكن سياقها لا يزال مستمراً حتى اليوم، ويُرخي بظلاله على المسألة السورية كلها. كانت تلك معركة رأس العين بمحافظة الحسكة، بين مسلحين من حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، ومسلحين من جماعات مناوئة لنظام الأسد، منها إسلامية وجهادية.

وفي خلفية تلك المعركة، أن النظام السوري كان قد انسحب من مناطق عديدة ذات غالبية كردية في شمال شرق البلاد منذ صيف 2012، تاركاً إياها تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجناحه العسكري. وقد ضرب  نظام الأسد من خلال تحركه هذا طيوراً كثيرة بحجر واحد، فهو خفّف عن نفسه عبء السيطرة الأمنية على تلك المنطقة القصيّة لصالح تدعيم سيطرته في وسط سوريا وجنوبها، وأوكل مهمة قمع قوى الثورة في المنطقة، وعلى وجه الخصوص قوى الثورة في المجتمع الكردي نفسه،  للقوة الكردية الأفضل تنظيماً وتسليحاً، والتي أعلنت منذ البداية أن عدوها الوحيد هو الحكومة التركية، وأنها على الرغم من خلافاتها مع نظام الأسد، فإنها لا تناصبه العداء ولا تنوي الدخول في الصراع ضده. وفوق هذا كانت خطوة النظام تلك فخاً ذهبت إليه بعض القوى المسلحة المناوئة للنظام بأرجلها، رافعةً مزيجاً من الشعارات الإسلامية والقومية العربية، دون أي ممانعة جدية من بقية قوى الثورة المدنية والعسكرية التي لم تشاركها معركتها؛ ذهبت إليها أساساً بدفع ودعم من تركيا، التي أصبحت المسألة السورية بالنسبة لها منذ ذلك الوقت متعلقة بكيفية منع حزب العمال الكردستاني من تحويل الأراضي السورية المحاذية لها إلى قواعد له.

كانت معركة رأس العين معركة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في الواقع، خاضها مقاتلون سوريون على الأراضي السورية، وتركت جروحاً غائرة في العلاقة بين المكونين العربي والكردي في شمال شرق البلاد، ولا يزال المسار الذي كانت هذه المعركة افتتاحاً فعلياً له مستمراً حتى اليوم، نرى آثاره في سلوك حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يقود اليوم تحالف قوات سوريا الديمقراطية، تجاه معارضيه من الأكراد وتجاه المكون العربي في مناطق سيطرته، كما نرى آثاره في سلوك القوى الحليفة لتركيا في عفرين، وفي التبعية المطلقة لتركيا لدى فصائل كثيرة مناوئة للنظام السوري.

وفي ربيع العام 2013، حدث تطوران متزامنان تقريباً، أولهما الإعلان الرسمي عن مشاركة حزب الله في الحرب إلى جانب النظام انطلاقاً مع معركة القصير قريباً من الحدود اللبنانية السورية في شهر نيسان، وثانيهما إعلان أبي بكر البغدادي عن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام، وضم فرع القاعدة في سوريا إلى فرعها العراقي في شهر أيار. وصحيحٌ أن جماعات قاعدية أبرزها جبهة النصرة كانت تشارك بشكل فعال في الحرب منذ ربيع 2012، وأن حزب الله ومقاتلين عراقيين مدعومين من إيران كانوا يشاركون في الحرب بشكل فعّال أيضاً منذ ربيع 2012، إلا أن الإعلانين كانا يحملان معنى تحطيم الحدود الوطنية السورية بشكل رسمي ودون أي مواربة، وأطلقا مسارات صارت سوريا بنتيجتها ساحة لحروب وصراعات متداخلة ومتنوعة، من بينها الحرب الدولية على تنظيم القاعدة ومشتقاته، والصراع الإيراني الإسرائيلي، والصراع الأميركي الروسي على النفوذ في المنطقة، وصراعات التيارات الجهادية بتنويعاتها.

هكذا تم دفن صراع السوريين مع السلالة الأسدية تحت طبقات وطبقات من الصراعات والحروب، ولم تنجح القوى والتيارات الثائرة على النظام في مقاومة هذه العملية، ولا في صياغة خطاب ثوري مضادٍ لها، بل كان بعض هذه القوى والتيارات مندرجاً تماماً في عملية الدفن تلك، عبر تبني بعض تلك الصراعات واستبطانها وخوضها بحماس، بدءاً من أولئك الذين ذهبوا لقتال حزب العمال الكردستاني في رأس العين تحت شعار «القضاء على القوى الانفصالية» أو شعار «القضاء على الملاحدة»، وصولاً إلى أولئك الذين اعتبروا الخلاف مع داعش أو النصرة خلافاً بين أهل البيت الواحد، مروراً بأولئك الذين راحوا يتمرغون بالخطاب الطائفي وشعارات الصراع مع الشيعة والرافضة، وفي مقابلهم أولئك الذين راحوا ينخرطون في خطاب الحرب على الإرهاب والذعر من قوى الإسلام السياسي، حتى بات الصراع مع السلالة الأسدية بالنسبة لهم صراعاً هامشياً.

نراجع اليوم أنفسنا، تُرى هل دافعنا عن أولوية الصراع مع السلالة الأسدية كما ينبغي؟ هل قاومنا كفاية تمريغ قضيتنا في الخطاب الطائفي والتطبيع مع خطاب القاعدة وأفعالها؟ وليس الغرض من أسئلة كهذه تقريع النفس ولومها، ولا التماهي مع خطاب أولئك الذين ينسبون كارثة البلاد كلها إلى ضعف في خطاب قوى وأفراد من المعارضة ذات التوجهات الديمقراطية. لكننا نسأل هذه الأسئلة كي ننجح في الوقوف أمام أنفسنا بصدق، وكي ننجح في تقديم استعادة منصفة لأحداث ووقائع العام الرهيب، عام 2013.

*****

يقول بعضنا إنهم قاوموا بكل قوتهم تلك الطبقات التي كانت تتراكم فوق صراعنا مع السلالة الأسدية، وإن هذه المقاومة لم تكن مجرد مقاومة هامشية أو فردية، بل كانت جزءاً من مقاومة واسعة النطاق، خاضها مناضلون سوريون متنوعون في طول البلاد وعرضها، ويحمل العام 2013 على وجه الخصوص علامات تلك المقاومة التي يريد كثيرون لها أن تُنسى.

لقد كان عام 2013 عام التغييب القسري بلا منازع، فيه اختطف النظام ومعه قوى إسلامية متنوعة عشرات المناضلين والثوار السوريين، أسماؤهم أكثر من أن تعد أو تحصى، وتنوعت مصائرهم بين من عرفنا باستشهاده لاحقاً وبين ما لا يزال مصيره مجهولاً؛ نذكر منهم  جهاد أسعد محمد وأبو علي فايق المير اللذين اختطفتهما أجهزة النظام الأمنية، ورزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادة ووائل حمادي الذين اختطفهم جيش الإسلام، والأب باولو دالوليو وفراس الحاج صالح واسماعيل الحامض وعبد الوهاب الملا وأبو مريم الذين اختطفهم تنظيم داعش، ولو أردنا ذكر الأسماء كلها لما اتسع المكان هنا.

نذكر هذه الأسماء على وجه الخصوص لأن ثمة شيئاً يجمع أصحابها، وهو الدفاع المستميت عن أولوية صراع السوريين مع السلالة الأسدية، وعن معنى هذا الصراع التحرري، وأيضاً لأن اختطافهم الذي جاء في العام 2013 نفسه على يد جهات متنوعة كان علامة على الاستعصاء الرهيب الذي ستدخله القضية السورية، ولأن سيرة كل واحد منهم علامة على كفاح تحرري بالغ الشجاعة، خاضه أولئك الأبطال وغيرهم ضد طبقات وطبقات من الانحطاط والمذابح. قبل هؤلاء وبعدهم، اعتقل وعذب وقتل النظام عشرات آلاف السوريين، وقبل هؤلاء وبعدهم، بعدهم على وجه الخصوص، اعتقلت وعذبت وقتلت جماعات إسلامية وجهادية مئات السوريين أيضاً، لكن يبقى أن العام 2013 كان العام النوعي في الاستهداف متعدد المصادر للمناضلين المدافعين عن القيم التحررية.

بالمقابل، يعترف بعض أعضاء تنسيقيتنا أنه كان عليهم ألّا يتعففوا عن مُعاركة الخطاب الطائفي وخطاب السلفية الجهادية، فبعضنا تغاضى عنه في لحظات كثيرة، أو على وجه الدقة، أدار وجهه في أحيان كثيرة عن هذا النوع من الخطاب مشمئزاً منه، فبدا وكأنه لا يراه. يدافع رفاقنا هؤلاء عن أنفسهم بالقول إن الأمر بدا لهم معاكساً وقتها، أي أنهم كانوا يفكرون في أن خوض صراع مفتوح فوراً مع الخطاب الطائفي والخطاب الجهادي وأصحابه هو ما يحرف الاتجاه عن الصراع الأساسي مع الأسدية. ولم يكن هذا الاستعصاء مجرد تمرين ذهني أو رياضة نفسية تأملية، بل كان استعصاءً من لحم ودم، يذكره جيداً أولئك الذين شهدوا انتفاضة الثورة السورية ضد داعش أواخر 2013 وأوائل 2014، الانتفاضة التي سرعان ما غرقت هي الأخرى ودُفنت تحت طبقات وطبقات من صراعات الفصائل مع بعضها بعضاً، ثم من الحرب الدولية على الإرهاب ومتطلباتها. لكن يبقى أن اللحظات التي خرجت فيها مظاهرات في حلب وإدلب والرقة ضد داعش والأسد معاً، في وقت كانت فيه آلة الحرب الأسدية تطحن الأخضر واليابس في تلك المناطق، من أكثر اللحظات أسطورية وشجاعةً في تاريخ الثورة السورية المدفونة.

وقد كان للصفح الدولي عن بشار الأسد ونظامه بعد المذبحة الكيماوية، وللمذابح الطائفية التي ارتكبتها ميليشيات موالية للنظام، ومنها المذبحة الرهيبة في البيضا وراس النبع في بانياس التي وقعت في أيار من العام 2013 نفسه، دورٌ بارزٌ في إضعاف القدرة على مقاومة الخطاب الطائفي وخطاب السلفية الجهادية العدمي؛ في إضعاف الديمقراطيين وشلّ قدراتهم، الضعيفة أصلاً، على المواجهة على عدّة جبهات في اللحظة ذاتها.

يعتقد رفاقنا هؤلاء بأثر راجع اليوم أنه كان ينبغي مواجهة الخطاب الطائفي وخطاب السلفية الجهادية بحزم وثبات أكبر، ليس لأن هذا كان يمكن أو لا يمكن أن يغير شيئاً في مسار الأحداث، بل لأن هذه الخطابات مضادةٌ للعدالة والكرامة الإنسانية، وما كان يجب السكوت عنها لحظةً واحدة، وفاءً وقبل أي شيء آخر للحظات 2011 العظيمة، التي كان يجري دفنها على قدم وساق عام 2013.

*****

ولم يكن العام 2013 عام الشروع الفعلي في دفن تطلعات 2011 في سوريا فقط، بل كان ذلك يحدث في العالم العربي كله تقريباً. وكانت مصر في قلب عملية الدفن الحثيثة تلك، بعد أن خرج الملايين إلى الشوارع في حزيران من عام 2013 مطالبين بتنحي الرئيس المصري محمد مرسي عن الحكم، رداً على سياسات أخونة مؤسسات الدولة التي كان ينتهجها، وعلى تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد في فترة حكمه.

وقد تدخل الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي لتنحية مرسي بالقوة، في مشهد بدا أول الأمر مشابهاً لتدخل الجيش وإجباره مبارك على التنحي قبلها بأكثر من عامين بقليل. لكن سرعان ما تبيَّنَ أن الشبه لم يكن إلا ظاهرياً، وأن سياسات أخونة الدولة والتدهور الاقتصادي لم تكن إلّا رأساً لجبل من الجليد، يخفي مخططاً من تحالف العسكر مع ضباع رأس المال المصري، هدفه إعادة العجلة إلى الوراء، وإحكام القبضة على حياة المصريين وآمالهم عبر انقلاب عسكري مُدبّر، وبدعم غير محدود من السعودية والإمارات العربية المتحدة.

ثم جاءت مذبحة رابعة لتكون المفصل الرئيسي في هذا المخطط، عندما استباحت قوات الأمن والجيش المصرية دماء آلاف المعتصمين في يوم الرابع عشر من آب (أغسطس) 2013، وكان هؤلاء قد اعتصموا في ميداني رابعة والنهضة في القاهرة رفضاً للانقلاب العسكري، مطالبين بعودة محمد مرسي إلى الحكم بوصفه الرئيس الشرعي المنتخب. وقد كان معظم هؤلاء المعتصمين من تيار الإخوان المسلمين وأنصاره، تم قتل نحو ألف منهم وجرح الآلاف، واعتقال المئات ثم سوقهم إلى محاكمات باعتبارهم  مسؤولين عن سفك الدماء، دماء شركائهم في الاعتصام.

كانت تلك واقعة خارقة في وحشيتها ونذالتها، وكانت تدشيناً لحقبة جديدة من الإفلات من العقاب وتحكّم العسكر بكل مفاصل الحياة في مصر، قادت إلى ما نراه اليوم من تنصيب السيسي لنفسه كحاكم أبدي، ومن إعدامات انتقامية وقتل تحت التعذيب في السجون، وخنق لكل أشكال الحياة السياسية والمدنية والإعلامية، وتراجع عن كل ما حققته ثورة يناير وإرثها الكفاحي العظيم.

عندما نعاود التفكير اليوم في وقائع تلك الأيام، نجد أنه من الضروري إعلان موقف واضح من مجمل سلوك الإخوان المسلمين في مصر، الذين لم تكن الديمقراطية بالنسبة لهم شيئاً أكثر من وسيلة للقفز إلى الحكم، على ما تشرح أحداث شارع محمد محمود في القاهرة خريف 2011، عندما وقف الإخوان المسلمون إلى جانب المجلس العسكري في إجراءاته لإدارة المرحلة الانتقالية والإشراف بنفسه على الانتخابات، واتهموا المتظاهرين الذين كانت الداخلية المصرية تقتلهم في الشوارع بأنهم مجموعة من البلطجية والعملاء.

نقول هذا اليوم لأنه من الضروري التفكير مجدداً ودائماً في الاستعصاء الذي قاد إلى مذبحة رابعة وما تلاها، الاستعصاء الذي تولدت عنه استحالة موضوعية في بناء جبهة موحدة بالحد الأدنى تتصدى للاستبداد والحكم العسكري في مصر، على نحو لا نزال نشهد نتائجه الكارثية حتى اليوم.

ولدينا نسخٌ أخرى من هذا الاستعصاء في ليبيا واليمن، مع اختلاف الظروف والخلفيات والجهات الدولية والإقليمية الفاعلة. كانت حرب اليمن، التي بدأت مع اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء خريف 2014، ثمرة الفشل الذريع للدولة التي حاول مجلس التعاون الخليجي إقامتها على أنقاض نظام علي عبد الله صالح، الفشل الذي بدأت معالمه تظهر منذ أواخر العام 2013 على شكل استعصاء في الحوار السياسي بين القوى المتنوعة التي تحظى كل واحدة منها بدعم إقليمي، من إيران والسعودية وقطر والإمارات، والذي قاد اليمن إلى أن يكون بلداً ممزقاً يجتاحه الفقر وتفتك بأبنائه الكوليرا. أما حرب ليبيا التي بدأها اللواء خليفة حفتر مدعوماً من مصر والسعودية والإمارات مطلع 2014، فقد كانت ثمرة تمسّك الميليشيات والفصائل التي أسقطت القذافي بسلاحها وسلطتها، ورفضها الانصياع لنتائج الانتخابات، ولجوء كل طرف في ليبيا إلى البحث عن دعم حلفاء خارج الحدود، من بينهم إيطاليا وفرنسا وروسيا وقطر والسعودية والإمارات.

في كلا البلدين، تحضر الآثار الكارثية للصراع الخليجي بين محور السعودية ومحور قطر؛ وفي كلا البلدين تحضر جماعات قاعدية وجهادية وإسلامية متنوعة خرجت أساساً من عباءة الثورات على الأنظمة، ثم أظهرت استعداداً كلبياً للانقضاض على المجتمع والاستيلاء على السلطة؛ وفي كلا البلدين نجد ملامح من شكل الحكم الذي تقترحه السعودية والإمارات وتدعمه في كل بلد عربي تستطيع العبث فيه، حكم السلطة العسكرية التي تستخدم القوة العارية، ولا تقدم خطاباً من أي نوع سوى خطاب الاستقرار المحروس بالجماجم والدماء. والأهم، أننا نشهد في كلا البلدين تشتتاً وضعفاً رهيباً في جبهة القوى المناهضة للاستبداد، وتدخلاً إقليمياً ودولياً مهووساً بمقولات دعم الاستقرار والحرب على الإرهاب.

*****

لو أردنا أن نختزل إرث العام 2013، لقلنا إنه عام استعادة الأنظمة العربية لتماسكها بعد أن كادت ثورات وانتفاضات 2011 تطيح بها، والعام الذي صارت بعده سوريا أمثولة يتم استخدامها صراحة ودون مواربة لتحذير الشعوب العربية من نتائج أي انتفاضات أو ثورات تقوم بها، والعام الذي غرقنا فيه في بحر الإفلات من العقاب وتعميم المذبحة بوصفها أداة رئيسية تكاد تكون وحيدة للحكم في سوريا، وبدرجة أقلّ في مصر.

واليوم إذ نكتب عن إرث هذا العام الرهيب، نرى من خلف أكوام الجثث وبحار الدماء وغبار المعارك كيف أن استراتيجية التهديد بالمذبحة والإبادة لم تنفع في إغلاق أبواب التاريخ التي انفتحت عام 2011 على مصراعيها، وتشهد على ذلك أحداث العام 2019 في الجزائر والسودان، التي سجلت عودة مهيبة إلى ساحات الاحتجاج والثورة، وأنجبت مسارات أقل استعصاءً، تحضر في القلب منها فكرة أن استخدام سوريا كوسيلة للترهيب والتأديب لم ينجح تماماً، وأن هناك ما تستطيع شعوب البلاد العربية فعله لامتلاك مصائرها والسير خطوات على طريق صنع حياة أفضل، وعلى طريق بناء أنظمة سياسية أقل وحشية وأكثر عدالة.

لا تزال المعركة طويلة، ولا نهاية أو آجال زمنية معلومة لها، ولا ضمانات في أنها ستؤول بنا إلى حياة أفضل، خاصة أن مثال سوريا على وجه التحديد يشرح كيف أن المسألة هي مسألة فساد نظام عالمي كامل، وأن المواجهة مع الأنظمة الحاكمة في بلادنا مواجهة ذات طبيعة عالمية، لا يمكن خوضها والانتصار فيها دون الضغط لإحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي الدولي، الذي يقوم على تقديس الدولة وعبادتها، وعلى الإعلاء من شأن مفهوم السيادة الدولتي على حساب حقوق البشر في العيش والحرية.

وبعد، لقد سُحقنا في سوريا، وتم تدمير بلادنا ورهن حياة أهلها لتوازنات وصراعات دولية لا يملكون أي تأثير فيها، لكن كفاح السوريين الشجاع من أجل الحرية والعدالة لا يزال حياً يرزق، وأياً تكن النهايات التي ترسمها القوى النافذة في العالم للحرب السورية، فإنها لن تستطيع أن ترسم مصائرنا بإرادتها المنفردة، ولن تستطيع أن تغير من أصل صراعنا، الذي هو صراع مع حكم السلالة الأسدية الضارية، ولا مجال لإنهائه بغير تفكيك هذا الحكم وفتح صفحة جديدة من تاريخ البلاد.

*****

ما في للأبد! عاشت سوريا، ويسقط بشار الأسد!

موقع الجمهورية

إدارة التضليل وترهيب الشهود/ عروة خليفة

لم يكن السلاح الكيماوي مجرد واحد من أدوات القتل المتنوعة التي استخدمها نظام الأسد، بل كان السلاح الذي تم استخدامه على نطاق واسع لإبادة السكان في المناطق الثائرة، وأداة الترهيب الأساسية التي تسببت بعمليات تهجير واسعة لمئات الآلاف من السوريين؛ يحاول هذا النص تتبّع العملية الموازية لجريمة استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، التي حاولت تضليل الرأي العام العالمي وتشويه الحقيقة، لمساعدة النظام على إنكار استخدام أحد أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه.

استخدم نظام الأسد السلاح الكيماوي ضد المدنيين وفصائل المعارضة 217 مرة منذ 23 كانون الأول (ديسمبر) 2012، حسب ما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، حتى أصبح استخدام هذا السلاح أحد أبرز وجوه الإبادة التي يقوم بها النظام منذ انطلاق الثورة في سوريا وحتى اللحظة.

الاستخدام الأول لهذا السلاح كان في حي البياضة بمدينة حمص، حيث قامت قوات النظام باستهداف الحي بقذائف محملة بغاز السارين بهدف القضاء على مقاتلي المعارضة هناك، وأتبَعَ النظام هذه الهجمة بهجمات عديدة، استهدفت في معظمها المدنيين، وكان الهجوم الذي أوقع العدد الأكبر من الضحايا هو مجزرة الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية، حين استهدفت قوات النظام، وبالتحديد الفرقة الرابعة، بلدات معضمية الشام في الغوطة الغربية وعين ترما وزملكا في الغوطة الشرقية بصواريخ محملة بغاز السارين، أدت خلال ساعات إلى استشهاد 1347 مدني في الغوطتين؛ كان مشهد الموت الجماعي بغاز الأعصاب مهولاً حتى بالمقارنة مع الكوارث والمجازر التي ارتُكبت قبل ذلك في سوريا.

شكّلت تلك المجزرة لحظة تحول كبيرة في بينة آلة القتل التي صنعها النظام لقمع السوريين، إذ كان قد سبقها تصاعدٌ في أعداد الشهداء الذين سقطوا خلال قمع الأمن للمظاهرات، أو خلال الاقتحامات التي نفذتها قوات عسكرية وأمنية لمناطق الاحتجاج، إلى أن وصلت خلال عام 2012 لتشمل عمليات قصف واسعة النطاق استخدمت فيها لاحقاً أنواع مدمرة من الأسلحة مثل صواريخ السكود والبراميل المتفجرة التي ترمى من الطائرات المروحية، لكّن لحظة المجزرة الكيماوية عنت أنّ القتل بهدف القمع والإخضاع قد تحول إلى الإبادة.

لم ينجُ النظام من العقاب بعد هذه المجزرة رغم التهديدات الأميركية والغربية فحسب، بل استمر في استخدام السلاح الكيماوي، بما فيه السارين الذي زعم أنه سلم كامل مخزونه منه بعد الصفقة الشهيرة التي عقدتها موسكو وواشنطن لتجنيب الأسد ضربة عسكرية كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قد هدد بتوجيهها له إذا ما استخدم السلاح الكيماوي.

أصبح سلاح التدمير الشامل هذا أداة رئيسية لترهيب السكان وإبادتهم، وجاء غياب محاسبة النظام، وتراجع النظام الدولي عن تهديداته، ليعني أن الصور الرهيبة التي خرجت من الغوطة في آب (أغسطس) عام 2013 ستتكرر مراراً، كما حدث في خان شيخون في الرابع من نيسان (أبريل) 2017 وفي دوما في السابع من نيسان (أبريل) 2018، من دون أن تشكل الضربات التي وجهتها الولايات المتحدة ضد النظام إثر تلك المجزرتين أيّ رادع لنهج الإبادة الأسدي.

كان غاز السارين (الأعصاب) وغاز الكلور بحالته المركّزة، السلاحين الأكثر استخداماً من قبل النظام، لتحقيق أكبر ضرر ممكن في صفوف المدنيين، وأدى الاستخدام الممنهج لسلاح الإبادة هذا إلى تحقيق أهداف النظام بتهجير السكان وترهيبهم، فقد كان لمجزرة الكيماوي في دوما عام 2018 تأثيرٌ مباشرٌ على مسارعة مناطق خارجة عن سيطرة النظام إلى التسليم عبر اتفاقات تمّت برعاية روسية، تم بموجبها تهجير أعداد كبيرة من مقاتلي الفصائل والمدنيين من مناطق القلمون الشرقي وريف حمص ودرعا إلى الشمال؛ كان جواب الأهالي هناك تلقائياً، لا نريد أن نموت بالكيماوي، كان هذا الكابوس سلاح النظام الأمضى في مواجهته مع المناطق الثائرة عليه.

وبالتوازي مع تطور استراتيجية الإبادة التي اتبعها النظام، مرّ شكل دعايته المضادة حول تلك الأحداث بعدة مراحل، رافقتها طوال الوقت عمليات أمنية استخدمت الترهيب والتهديد بالقتل، وتنفيذ الاغتيالات. أولى ردود أفعال النظام على اتهامه باستخدام السلاح الكيماوي في سوريا، كانت اتباع الإنكار التام لاستخدامه هذا السلاح، ونفيه لوقوع هذه الحوادث، ومنذ بداية العام 2013، اعتمد خطاب النظام الرسمي على رواية أساسية تقول إنه كان هو ضحية السلاح الكيماوي، من خلال اتهام فصائل المعارضة باستخدام هذا السلاح في بلدة خان العسل في شهر آذار (مارس) 2013. وقد تم الاستناد إلى هذه الحادثة، التي استُخدم فيها غاز السارين ضد بلدة تقع تحت سيطرة قوات النظام، باعتبارها دليلاً على براءة النظام من هذه العمليات، ووردت الإشارة لها في مرات عديدة، من بينها كلمة مندوب النظام في الأمم المتحدة بشار الجعفري رداً على الإحاطة التي قدمها الأمين العام للأمم المتحدة حول مجريات التحقيقات في مجزرة الكيماوي بالغوطة الشرقية التي وقعت في شهر آب 2013؛ كما قال رأس النظام بشار الأسد خلال مقابلة له مع صحيفة إكسبرسن السويدية في شهر نيسان (إبريل) 2015 إن الغرب يتحدث عن استخدام الأسلحة الكيماوية دون أن يكون لديه دليل واحد، ثم عاد ليقول إن الدليل الوحيد على استخدام السلاح الكيماوي هو تقرير لجنة التحقيق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية عن استخدام غاز السارين في الغوطة الشرقية في آب 2013، مستطرداً أن اللجنة لم تحدد الفاعل في تلك الحادثة، وأضاف أن النظام هو من دعى الأمم المتحدة للتحقيق في استخدام هذا السلاح بعد حادثة بلدة خان العسل.

حتى تلك اللحظة كان النظام يبني استراتيجيته على الإنكار، واتهام المعارضة حين لا يستطيع الإنكار، وقد اتسمت تلك المرحلة من خطاب النظام بالاضطراب الشديد وإطلاق روايات مفضوحة للغاية، مثل حديث مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان الشهير حول قيام فصائل المعارضة باختطاف أطفال من قرى اللاذقية شمال غرب البلاد، واستخدام السلاح الكيماوي ضدهم في الغوطة الشرقية لاتهام النظام.

كانت تلك الروايات موجهةً بشكل رئيسي للجمهور الموالي للنظام، إذ كان النظام في وضع يعرف فيه أنه يخسر المعركة في مواجهة الحقيقة، ما جعله يحاول إطلاق دعاية مضادة تتضمن تحريض طائفياً صريحاً، من خلال الإشارة إلى أن الأطفال المقتولين مخطوفون مناطق ذات غالبية علوية.

وفي الوقت الذي كانت تلك الدعاية المضادة من النظام تتعرض للسخرية، كان النظام يستمر في إنكار استخدامه للسلاح الكيماوي بالتوازي مع المجازر التي كان يرتكبها باستخدام هذا السلاح بشكل ممنهج، قبل وبعد الصفقة الكيماوية المشينة التي تعهد ضمنها بتسليم كامل مخزونه الكيميائي مقابل تهربه من المحاسبة، ما عنى أن تلك المرحلة لم تكن بحاجة إلى حملة دعاية دولية منظمة، إذ أن النظام قد نجا من المحاسبة بعد مجزرة مروعة ارتكبت في الغوطة، وهو ما أعطاه فترة من الراحة جعلت استراتيجيته في الكذب كافية للاستهلاك الذاتي، فيما كانت سابقة كذب الولايات المتحدة حول أسلحة الدمار الشامل في العراق تخدم رواية النظام أمام جزء من الجمهور العالمي حين كانت واشنطن تؤكد استخدامه لهذا السلاح.

وقد بدأت المرحلة الثانية من تطور استراتيجية التضليل لدى النظام مع نهاية العام 2016 وبداية العام 2017، وهي الفترة التي شهدت دخول رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض، كانت تصريحاته حول سوريا ترتكز على انتقاد سياسات أوباما، ومن بينها التراجع عن ضرب النظام بعد مذبحة الغوطة الكيماوية. وفي سياق محاولاته لإظهار نفسه أكثر حزماً من سلفه، كانت تصريحات دونالد ترامب تحاول التشدد في ملفات المنطقة ومن بينها سوريا، وتركّز على التزامه بالخطوط الحمراء التي نسيها أوباما.

كانت مجزرة خان شيخون التي استخدم فيها النظام غاز السارين ضد المدنيين، ما أوقع عشرات الشهداء في نيسان (أبريل) 2017، الاختبار الأول لتصريحات ترامب، الذي رد بقصف مطار الشعيرات بمحافظة حمص، باعتباره المطار الذي انطلقت منه الطائرة التي قصفت خان شيخون بالسارين. كان ذاك الرد العسكري المحدود هو الأول من قبل الولايات المتحدة ضد النظام السوري منذ بداية الثورة، مما وضع النظام في موقف يحتاج فيه إلى حملة علاقات عامة دولية، تساعده على تجنب ضربات مماثلة مستقبلاً.

وتركزت دعاية النظام المضادة في هذه المرحلة على رواية أساسية، وهي اتهام الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) بالارتباط بالنصرة، وبالتنسيق معها لتحضير ما أسماه النظام «تمثيليات» المجازر الكيماوية في سوريا. وقد قام الإعلام الموالي للنظام بتكرار هذه القصة مراراً عند أي اتهام للنظام باستخدام السلاح الكيماوي، كما قام فنانون موالون له بإنتاج أعمال فنية تُظهر فرق الدفاع المدني بوصفها جهات تقوم بفبركة لتلك الأحداث بالتعاون مع مقاتلين مناوئين للنظام، مثل فيلم «رجل الثورة» الذي أخرجه نجدت أنزور، وإحدى حلقات مسلسل كونتاك الذي أنتجته شركة سامر فوز، وهو من بطولة الممثلة السورية الشهيرة أمل عرفة.

إلا أن التحول الأساسي خلال هذه المرحلة كان في الدعم الروسي الواسع لهذه الرواية، والإدارة الروسية لعملية التضليل على المستوى العالمي، فقد تم استخدام شخصيات معروفة على نطاق واسع لتمرير هذه البروباغاندا، مثل المغني الشهير روجر ووترز، الذي توقف عن الغناء في إحدى حفلاته ليتحدث عن اصطناع تمثيليات للكيماوي في سوريا، متهماً خلال حديثه الخوذ البيضاء باستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين، وتزييف صور حول المجازر.

حملة الكذب تلك كانت استجابة لأوضاع جديدة فرضها رد إدارة ترامب على استخدام النظام للسلاح الكيماوي، كما كانت في الوقت نفسه استغلالاً لأسلوب جديد من التضليل، يعتمد على ترويج الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعية، وهي طريقة سبق واستخدمتها موسكو للتأثير على الانتخابات في أوروبا والولايات المتحدة. وقد كشف تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية رعاية موسكو لمنصّات تدعم نظريات المؤامرة، وتعمل على بثّ أخبار كاذبة تشوه سمعة منظمة الدفاع المدني السوري، التي تقوم بإنقاذ المدنيين الناجين من القصف الوحشي للنظام.

مع الاستمرار في ترويج هذه الرواية، كانت موسكو تحضر لعملية استخباراتية للتأثير على التحقيقات الدولية حول استخدام النظام للسلاح الكيماوي، فقد كشف تحقيق نشرته الجمهورية بتاريخ 22 آذار (مارس) 2019 عن أن موسكو لم تقف عند حملة الدعاية المضادة تلك، بل قامت بتنفيذ عملية استدراج وتجنيد لطبيبين من الغوطة الشرقية منذ بداية تدخّلها في سوريا، لتستخدمهما بشكل مباشر منذ بداية العام 2018 لتهديد الكوادر العاملة في المجال الطبي والمجال الإنساني بشكل عام، ولإخفاء الأدلة حول استخدام الكيماوي وإسكات الشهود الموثوقين مثل الأطباء والعاملين في المجال الإنساني، بالإضافة إلى الصحفيين الذين وثّقوا بشكل مباشر تلك المجازر.

وفي التفاصيل أن إدارة المخابرات العامة المعروفة باسم أمن الدولة، قامت بإخراج كل من الطبيبين سيف خبيّة وعدنان طباجو من الغوطة الشرقية بداية العام 2018، بعد عملية استدراج وتجنيد بدأت منذ العام 2015، ليقوم هذان الطبيبان بالتواصل بشكل مباشر مع الكوادر الطبية بعد كل ضربة كيماوية، مثل الضربات المحدودة على حمورية والشيفونية في شباط (فبراير) 2018، وضربة دوما في 7 نيسان (أبريل) 2018، وتهديدهم بعائلاتهم الموجودة في مناطق النظام، أو تهديدهم بحياتهم بشكل مباشر، لدفعهم إلى إخفاء كل الأدلة وعدم التحدث للإعلام ونفي وقوع الضربات. وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد كبير في الضربات الأولى، إلا أن نشر صور ومقاطع فيديو عن الإصابات في دوما بعد المجزرة نجح في تشجيع تلك الكوادر على تسجيل شهاداتهم للمنظمات الحقوقية ونشرها على الإعلام، لكن من دون الإشارة إلى أسمائهم على عكس المرات السابقة التي كان الأطباء فيها يظهرون بشكل مباشر على وسائل الإعلام لفضح انتهاكات النظام.

استمرت هذه العملية بعد تهجير جزء كبير من سكان الغوطة الشرقية ودوما تحديداً، عبر استدراج عدد من الكوادر الطبية إلى دمشق بحجة تسليم المنشآت الصحية في دوما لهم كي يستمر عملها في خدمة السكان بعد سيطرة النظام على المنطقة، وجرى نقل هؤلاء الأطباء والممرضين إلى فرع الخطيب التابع للإدارة العامة للمخابرات، وتصوير لقاءات معهم للتلفزيون السوري بعد تهديدهم، أنكروا ضمنها استخدام السلاح الكيماوي في دوما، لتقوم موسكو لاحقاً بنقل عدد من هؤلاء الكوادر بالإضافة إلى مدنيين بينهم أطفال بطريقة أشبه بالخطف إلى لاهاي حيث مقر منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، بهدف تعزيز دعايتها المضادة المبنية على إنكار مجزرة دوما، ومن ثمّ اتهام الخوذ البيضاء بتصوير «تمثيليات» عن الكيماوي، أو التعاون مع النصرة لاستخدام هذا السلاح فعلاً ضد المدنيين.

عبر هذه السنوات، انتقلت استراتيجية النظام من النفي التام، إلى اتهام فصائل معارضة، ومن ثم القيام بعمليات استخباراتية لتهديد الشهود وإسكاتهم، بالتوازي مع حملات بروباغندا هندستها ودعمتها موسكو، للتشويش على الحقائق ونشر الأكاذيب على مستوى عالمي، بالإضافة إلى عمليات إخفاء الأدلة في المناطق التي تعرضت لهجمات كيماوية ثم عادت إلى سيطرة قوات النظام، مثل الغوطة الشرقية.

*****

بدأت التحقيقات الدولية في استخدام النظام للسلاح الكيماوي خلال ربيع العام 2013، حين تم التوافق في الأمم المتحدة على تشكيل فريق من المحققين، مهمتهم تحديد إذا ما تم استخدام هذا السلاح في سوريا، دون صلاحية تحديد الأطراف التي استخدمته. وقد قام الفريق بعدة زيارات إلى سوريا، من بينها الزيارة التي حدثت خلالها المجزرة الكيماوية في الغوطة خلال شهر آب 2013، ما دفع مجلس الأمن إلى الطلب من النظام تسهيل مرور أعضاء اللجنة إلى المواقع التي حدثت فيها المجزرة، ونتيجة الضغط الدولي، استطاعت اللجنة الوصول إلى الغوطة الشرقية وسحب عينات، أثبتت التحاليل المخبرية لها، والتحقيقات المرافقة في الأماكن المستهدفة، استخدام غاز السارين المعبأ ضمن رؤوس صواريخ أرض-أرض، إلا أن صلاحيات اللجنة لم تشمل توجيه أي اتهامات للنظام السوري.

عقب الصفقة الكيماوية التي رعتها كل من موسكو وواشنطن، تم تشكيل البعثة المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة في السادس عشر من شهر تشرين الثاني (أكتوبر) 2013، بعد أسابيع من المجزرة في الغوطة، وكانت مهمة هذه اللجنة هي الإشراف على تدمير مخزون النظام من السلاح الكيماوي.

وقد قامت كلّ من اللجنة الدولية للتحقيق في سوريا (IICI) المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والآلية الدولية المحايدة المستقلة (IIIM) المنبثقة عن قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، بجمع الأدلة حول استخدام السلاح الكيماوي في سوريا بشكل منفصل. وأيضاً في العام 2014 تم إنشاء بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (FFM)، بغرض إثبات استخدام المواد الكيميائية السامة في سوريا، ولم تمتلك هذه البعثة أيضاً صلاحية تحديد الفاعلين، إلا أن عملها كان الأساس الذي استندت إليه لاحقاً آلية التحقيق المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة (JIM)، وهي هيئة مستقلة أنشأها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في القرار 2235 بتاريخ 7 آب (أغسطس) 2015، وامتلكت الصلاحيات اللازمة لتحديد الفاعلين بخصوص جرائم الكيماوي. ويبدو أن روسيا قبلت بتمرير هذا القرار نتيجة ضغط غربي لم تستطع مقاومته، ولإبعاد الشبهات عن نفسها بعد أن بات إصرارها المتكرر على رفض منح لجان التحقيق الأممية صلاحية تحديد الجهات المنفذة قرينةً على مسؤوليتها المباشرة عن الهجمات الكيماوية إلى جانب النظام. على أي حال، انتهت صلاحية هذه الآلية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، بعد أن أكدت مسؤولية النظام عن هجوم خان شيخون الذي تم فيه استخدام غاز السارين، وبعد أن رفضت روسيا نتائج عملها وشككت فيها، ثم استخدمت الفيتو ضد اقتراح بتجديد عملها.

وفي شهر حزيران (يوليو) 2018، قررت الأمانة العامة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW)، وهي جهة لا تخضع قراراتها لنظام حق النقض (الفيتو) المتبع في مجلس الأمن، إنشاء فريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT)، الذي يقع على عاتقه تحديد مرتكبي جرائم استخدام السلاح الكيماوي في سوريا في كل الحالات التي تم الإبلاغ عنها سابقاً، وتحديداً الحالات التي لم تُصدر حولها اللجنة المشتركة مع الأمم المتحدة تقريراً. وقد ترافق ذلك مع تجديد صلاحيات البعثة المشتركة للتحقيق في استخدام السلاح الكيماوي في سوريا بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، واستغرق تشكيل فريق التحقيق وتحديد الهوية عاماً كاملاً، حيث أعلنت الأمانة العامة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في شهر تموز (يوليو) من العام الجاري 2019، الانتهاء من تشكيل الفريق ليبدأ عمله المكلف به.

استطاعت فرق التحقيق في كثير من المناسبات إثبات استخدام السلاح الكيماوي في سوريا بشكل قاطع، كما وجهت بعض هذه اللجان الاتهامات للنظام السوري بالوقوف خلف تلك الانتهاكات عندما أتاحت الصلاحيات الممنوحة لها ذلك. بالمقابل، فإن هناك سمة واضحة طبعت عمل لجان التحقيق الدولية التي تشكلت للتحقيق في استخدام السلاح الكيماوي أو كشف الانتهاكات عموماً في سوريا، وهي البطء الشديد، وامتناعها عن مشاركة المعلومات والنتائج مع بعضها بعضاً في معظم الأحيان، ما جعل التحقيق في حادثة واحدة مثلاً يجري على أكثر من مستوى، الأمر الذي أهدر كثيراً من الجهود، ودفع كثيراً من الشهود إلى الشعور باليأس من عمل هذه اللجان، التي تتأخر تقاريرها أشهراً طويلة وربما سنوات، بينما يحتاج السوريون الذين يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات إلى قرارات دولية واضحة وسريعة لوقف المجازر بحقهم.

كذلك فإن آليات التحقيق لم تشمل حتى اللحظة أي برامج أو عمليات لحماية الشهود والناجين من المذابح الكيماوية، ما أتاح لروسيا والنظام إدارة عملية ترهيب منظمة بحق هؤلاء، تمنع كثيرين منهم من الإدلاء بشهاداتهم في العلن، وحتى من الإدلاء بشهاداتهم أمام لجان التحقيق، في ظل التجاهل الدولي لخطورة عملية الترهيب التي تقودها موسكو.

*****

مرّت أمس الذكرى السادسة للمذبحة الكيماوية الكبرى في الغوطتين الشرقية والغربية، لم يحاسب حتى اليوم أحدٌ من مرتكبي هذه الجريمة، فيما يعاني الناجون منها والشهود عليها من أوضاع مأساوية بين التهجير والعيش تحت حكم قاتل أحبّتهم. ورغم توافر كل الأدلة، واتهام لجان التحقيق الدولية لنظام الأسد باستخدام السلاح الكيماوي، إلا أن المحاسبة لا زالت بعيدة جداً بالنسبة لنا، نحن أهالي ورفاق وأبناء بلد الضحايا، نحن الناجون من المذبحة والمفجوعون بها، الذين نعيش في عالم يشبه هذه المذبحة والصفقة الخسيسة التي أعقبتها، ونتجرّع كلّ يوم سمّ الخذلان بانتظار العدالة.

موقع الجمهورية

المسار السياسي الكيماوي/ صادق عبد الرحمن

لو أردنا أن نتحدث عن الأدوار التي لعبها ويلعبها المسار السياسي للحلّ في سوريا، لقلنا إنه البوابة التي يحافظ نظام الأسد من خلالها على حضوره في المجتمع الدولي، والأداة التي ساعدته وتساعده على استعادة مساحات واسعة من الأراضي السورية إلى سيطرته من خلال مسار أستانا واتفاقات خفض التصعيد، والوسيلة التي قادت إلى مزيد من تشتيت المعارضة السياسية والعسكرية وإضعافها، ثم إلحاق الهزيمة بها واستتباعها لقوى إقليمية ودولية.

لكن الأمر لم يكن هكذا منذ البداية، بل كان هذا المسار قد بدأ أصلاً كوسيلة للضغط على النظام بهدف إجباره على الدخول في مفاوضات جدية، أو تغيير أسلوبه في الحكم على الأقل، ثم طرأت تحولات متتابعة قادت المسار السياسي إلى وضعه الراهن، نقترح أن نقطة الانعطاف المحورية فيها كانت في خريف العام 2013، عندما تحول من مجرد مبادرات وبيانات واقتراحات وقرارات عربية ودولية ضعيفة الأثر، إلى مسار فاعل لمصلحة النظام وحلفائه، ولمصلحة أطراف أخرى ليست على وفاق مع النظام، ولكن ليس من بينها قوى المعارضة والثورة السورية ولا المجتمع السوري.

وترجع البدايات الأولى للمحاولات الدولية الساعية لبناء مسار سياسي للحل في سوريا إلى أواخر آب (أغسطس) من عام 2011، عندما قدّمت جامعة الدول العربية مبادرة تضمنت خطة للانتقال السياسي في سوريا، وافق النظام عليها مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه بعد مماطلة، ولم يقم بتنفيذ أيٍّ من بنودها، ما دفع الجامعة العربية إلى تعليق عضويته أواسط الشهر نفسه. ونتيجة فشل جميع الجهود العربية التي استمرت أشهراً قليلة بعدها، انضمت الأمم المتحدة إلى الجامعة العربية منذ شباط (فبرير) 2012، وتم تعيين كوفي أنان مبعوثاً مشتركاً إلى سوريا، ليصبح ملف المسار السياسي السوري بعدها في عهدة الأمم المتحدة، ثم تتالى المبادرات والقرارات والاجتماعات والمؤتمرات ذات الصلة حتى يومنا هذا.

وعلى الرغم من الإصرار الروسي والصيني على عرقلة كل قرار أممي يمكن أن يلزم النظام السوري بتغيير سلوكه حيال معارضيه، أو يمهد لنزع شرعيته التمثيلية في المؤسسات الدولية، إلا أن الضغط الأميركي أثمر موافقة روسية على بيان جنيف 1 في حزيران (يونيو) 2012، الذي يعتبر الوثيقة الأقوى في يد المعارضة السورية وخصوم النظام الإقليميين والدوليين، باعتباره يتضمن إشارة صريحة إلى ضرورة تأسيس «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة»، وأيضاً باعتباره الوثيقة التأسيسية التي تمت الإشارة إليها مراراً وتكراراً في قرارات عديدة صدرت عن مجلس الأمن الدولي.

وقد أصرّ النظام وحلفاؤه على أن هذه العبارة لا تعني بأي حال ضرورة رحيل الأسد أو المساس بموقعه، كما أنهم استغلّوا طويلاً صياغة البيان الضعيفة التي لم تتضمن آليات تنفيذية ولا آجالاً زمنية ملزمة، فلم ينجح هذا البيان ولا الضغوط والاجتماعات والقرارات التي أعقبته في إجبار النظام السوري على تقديم أي تنازل من أي نوع، بل كان النظام يلجأ دوماً إلى تصعيد عنفه ومذابحه مدعوماً من روسيا وإيران، فيما كانت بقية دول العالم تكتفي ببيانات الإدانة والحض على الذهاب إلى حل سياسي.

حتى خريف العام 2013، كان المسار السياسي فاشلاً ومعطلاً وفارغاً من أي مضمون إذن، لكن شرعية النظام الدولية كانت تتآكل تدريجياً بالمقابل، كما أن سيطرته على البلاد كانت تتراجع أيضاً، رغم مقادير العنف الهائلة التي كان يستخدمها، والتي شملت منذ أواسط 2012 مختلف صنوف الأسلحة التقليدية بما فيها صواريخ سكود، بالإضافة إلى ضربات موضعية صغيرة بالأسلحة الكيميائية.

فجر الحادي والعشرين من آب (أغسطس) 2013، ارتكبت قوات النظام السوري المذبحة الكيماوية الأكبر في تاريخ البلاد، عندما قتلت بغاز السارين نحو 1400 شخص في غوطة دمشق الشرقية. وفي الأيام القليلة التالية للمذبحة، بدا أن النظام السوري على وشك أن يتلقى ضربة عسكرية واسعة النطاق من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، تنفيذاً لتعهدات أميركية أساساً، كان قد أطلقها باراك أوباما وقادة غربيون آخرون مراراً، من أن استخدام السلاح الكيميائي خط أحمر سيدفع نظام الأسد ثمن تجاوزه غالياً.

غير أن عرضاً روسياً بوضع سلاح النظام الكيميائي تحت رقابة دولية جاء ليكون بمثابة طوق نجاة للنظام، إذ تلقفته الدول الغربية والأمم المتحدة سريعاً وبحماس شديد، وبدأت مفاعيله تظهر منذ الثاني عشر من أيلول (سبتمبر)، أي بعد نحو عشرين يوماً من المذبحة الرهيبة، عندما أرسلَ النظام السوري أوراقاً تفيد برغبته الانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، وهي الخطوة التي تعني قبوله بتدمير مخزونه من تلك الأسلحة، والتي أشاد بها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، معلناً عن أمله في أن «تتوصل المحادثات الجارية حالياً في جنيف سريعاً إلى حلّ».

في تلك الأثناء، كانت تدور مفاوضات في جنيف بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية الأميركي جون كيري، انتهت يوم الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2013 إلى توقيع «إطار عمل» بين البلدين، بهدف تنظيم عملية القضاء على ترسانة النظام السوري الكيميائية بالشراكة مع المنظمة الدولية لحظر تلك الأسلحة، لتُطوى بذلك صفحة محاسبة النظام على جريمته الكيماوية، ويصبح شريكاً للمجتمع الدولي في عملية طويلة الأمد ومليئة بالتفاصيل البيروقراطية، بدل أن يكون مجرماً تنبغي محاسبته.

في خلفية ذلك الاتفاق، تقبع كثيرٌ من الوقائع المخزية التي لا تزال تحكم مجمل المسار السياسي الدولي في المسألة السورية، من بينها أن هذا الاتفاق جاء أصلاً بإيحاء إسرائيلي، على ما أكدته لاحقاً مذكرات السفير الإسرائيلي في واشنطن آنذاك مايكل أورين، لتكون المذبحة الكيماوية الرهيبة مناسبة لتخليص إسرائيل من سلاح يشكل تهديداً استراتيجياً لأمنها، بدل أن تكون مناسبة لمحاسبة النظام على سجلّه الإجرامي الرهيب، ويتم بذلك تكريس منهج يقوم على أن التدخل الدولي في الحرب السورية يأتي بما يضمن أمن ومصالح دول الإقليم والعالم، بصرف النظر عن مدى الجرائم التي تُرتكب بحق السوريين.

ومن تلك الوقائع المخزية أيضاً أن المذبحة الرهيبة كانت قد ارتُكبت أصلاً بعد يومين فقط من وصول محققين أمميين إلى دمشق، من أجل التحقيق في هجمات كيماوية محدودة وقعت سابقاً في حمص وحلب وريف دمشق. ولم تكن صلاحيات هؤلاء المحققين تشمل تحديد الجهات المسؤولة عن الهجمات، بل كانت تشمل فقط البت في مسألة وقوع الهجمات من عدمه. لم تدفع المذبحة التي وقعت على بعد كيلومترات قليلة من موقع إقامة المحققين في دمشق إلى تغيير صلاحياتهم تلك، حتى أن المحققين زاروا المناطق التي تعرضت للمذبحة في الغوطة بعد أيام قليلة منها، وأصدروا تقريراً بعد نحو أسبوعين، أكدوا فيه وقوع الهجوم، وجاء فيه أن «الجهة التي نفذت الهجوم، خبيرة باستخدام الأسلحة المزودة بغازات سامة، وإن الذين نفذوا الجريمة، اختاروا المناخ والتوقيت الملائمَين، لتنفيذ الهجوم بحيث يوقع أكبر عددٍ من الضحايا»، وهي صياغة يبدو واضحاً أنها تشير إلى مسؤولية النظام، دون أن يكون لدى هؤلاء المحققين صلاحية ذكر النظام صراحة.

تستطيع القوى الغربية أن تدفع تهمة التواطؤ عن نفسها بالقول إن روسيا ما كانت لتوافق على دخول المحققين لو أن صلاحياتهم تشمل تحديد المسؤولين عن الهجمات، لكن هذا الدفاع لا يصمد أمام حقيقة أن القوى الغربية كان بمقدورها أن ترفض إرسال محققين بصلاحيات محدودة كهذه، بدل أن تساهم مع روسيا في إغراق القضية السورية في بحر من الإجراءات البيروقراطية، التي تم إهدار كثير من الوقت والجهد والمال من أجلها، في وقت كانت فيه الأدلة على وقوع الهجمات الكيميائية بالغة الوضوح على نحو لا تحتاج معه إلى جولات التحقيق التي استمرت سنوات؛ أو كان بمقدورها اللجوء سريعاً إلى آليات تحقيق من خارج مجلس الأمن، عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو عبر المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية، على غرار ما حدث لاحقاً بعد نحو خمس سنوات من المذبحة.

لقد أسست هذه الواقعة، التي تشرح بوضوح مدى فساد النظام الدولي وانحطاطه، لمسار طويل من تطبيع الإفلات من العقاب، من خلال ربط مسألة العدالة بالتوافقات الدولية والضرورات البيروقراطية، وهو ما أتاح الفرصة أمام النظام وحلفائه لإخفاء الأدلة وطمسها ونشر كميات هائلة من الأكاذيب والأضاليل، حتى بات عمل لجان التحقيق الدولية فارغاً من أي مضمون، رغم أنها حازت لاحقاً على صلاحية الكشف عن الجهات المنفذة لبعض الهجمات.

وقد تم استكمال طوق نجاة النظام هذا في السابع والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) نفسه، عندما صدر قرار عن مجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 2118، يتبنى الاتفاقَ الأميركي الروسي، ويرحب بانضمام النظام السوري إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، ويدعو في تلك المناسبة إلى «القيام، في أبكر وقت ممكن» بعقد مؤتمر دولي بشأن سوريا من أجل تنفيذ بيان جنيف آنف الذكر، و«يهيب بجميع الأطراف السورية إلى المشاركة بجدية وعلى نحو بنّاء» في هذا المؤتمر.

في ذلك اليوم الأسود، تبنى المجتمع الدولي بالإجماع قراراً يوافق صراحةً على دوس العدالة في سبيل الحفاظ على استقرار العلاقات الدولية، ويرحّب صراحةً بمجرم حرب لأنه وافق على تسليم أحد أسلحة جريمته المتواصلة، ويربط على نحو بالغ الخسّة والدناءة بين الصفح الدولي عن مجرم حرب وبين دعوة ممثلي ضحاياه إلى الدخول في عملية تفاوضية معه، دون أي وعود أو ضمانات بالسعي إلى تحقيق العدالة، ودون أي تعهدات أو إجراءات تحول دون تكرار المذبحة.

بعدها بأشهر قليلة، كانت أول جلسات المفاوضات الفعلية بين النظام والمعارضة السورية، وذلك في مؤتمر جنيف 2 الذي بدأت أعماله أواخر كانون الثاني (يناير) 2014، والذي جاء تنفيذاً لتوصيات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 آنف الذكر. وقد رفضت المعارضة السورية حضور المؤتمر أول الأمر بسبب عدم توافر أي ضمانات بوقف جرائم النظام، ثم عادت لتوافق بعد ضغوطٍ من حلفائها الغربيين والعرب. وفي الخامس عشر من شباط (فبراير) 2014، أعلن الأخضر الإبراهيمي، المبعوث الدولي الذي خلفَ كوفي أنان في منصبه، عن فشل المفاوضات بسبب رفض النظام مناقشة الانتقال السياسي، ثم استقال من منصبه في أيار(مايو) من العام نفسه، فيما كان النظام السوري يواصل شراكته مع المجتمع الدولي في عملية التخلص من سلاحه الكيميائي، ويعيش نتائج الصفقة الأميركية الروسية بوصفها رخصة مفتوحة لارتكاب ما يلزمه من مذابح بالأسلحة التقليدية.

كانت الصفقة الكيماوية الأميركية الروسية هي القابلة التي أشرفت على ولادة ذلك المشهد الهزلي، الذي يعلن فيه مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية صراحةً الجهة المسؤولة عن إفشال التفاوض ويستقيل بعدها من مهمته احتجاجاً، دون أن يترتب على هذا أي إجراءات جدية بحق تلك الجهة. وبعد الإبراهيمي، تم تعيين ستيفان ديمستورا مبعوثاً دولياً جديداً دون تغيير أي من الظروف التي قادت الإبراهيمي إلى الفشل، وكأن المسألة تتعلق بنقص في كفاءة الإبراهيمي لا بالظروف التي كان يعمل في ظلّها.

طيلة أربع سنوات ونصف، أشرف ديمستورا على إدارة عملية سياسية تم استخدامها لتكريس إفلات النظام من العقاب مقابل موافقته اللفظية على مبدأ التفاوض، تماماً كما تم الصفح عن جريمته الكيماوية مقابل الإعلان عن استعداده لتسليم سلاح الجريمة. وقد غادر ديمستورا منصبه أواخر العام 2018، بعد عشرات الجولات والاجتماعات والمؤتمرات في جنيف وأستانا والرياض وسوتشي وغيرها، دون أن يفصح عن أسباب فشل مهمته في جلب السلام إلى سوريا، تاركاً لخَلَفه غير بيدرسون عملية سياسية كاريكاتيرية تم اختزالها إلى لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد، فيما تواصل آلة الحرب الروسية والإيرانية والأسدية مذابحها وأعمالها التدميرية البربرية، ويواصل نظام الأسد احتجاز عشرات آلاف السوريين في سجونه وقتلهم بهدوء.

الإفلاتُ من العقاب، وفرضُ التفاوض على المعارضة دون أي ضمانات أو وقف للقمع والمذابح، وربطُ الصراع السوري كلياً بتقاطع أو تضارب مصالح الدول الإقليمية والعظمى؛ تلك هي القواعد الرئيسية التي فرضتها الصفقة الكيماوية على المسار السياسي السوري، وهي التي قادت لاحقاً إلى تحويل بيان جنيف إلى مجرد لازمة فارغة يتم ذكرها في معرض كل حديث عن المسار السياسي السوري، وإلى إدخال هذا المسار في متاهات أستانا وسوتشي واتفاقات خفض التصعيد، واستتباع قوى المعارضة السياسية والعسكرية كلياً للدول الداعمة لها، وصولاً إلى هذه الأيام التي يبدو فيها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ناطقاً باسم تركيا، التي بات المسار السياسي السوري بالنسبة لها مجرد وسيلة لتأمين «متطلبات أمنها القومي».

ولأن استتباع أطراف الصراع السوري لمصالح الدول الإقليمية والعظمى معلمٌ أساسيٌ من معالم المسار السياسي في سوريا اليوم، لهذا بالضبط، فإن كل ما تقدَّمَ لا يجعل مصير الأسد مضموناً، ذلك أنه كلّما مضى أكثر في انتصاراته العسكرية مدعوماً بروسيا وإيران، كلّما فقد مزيداً من استقلاله وقدرته على التحكم في مصيره. لكن يبقى أن الوقائع الراهنة تفيد بأن بقاء الأسد أو رحيله لن يغير كثيراً من مصير البلاد، إلا إذا تم كسر المسار الذي أطلقته الصفقة الكيماوية عام 2013، المسار الذي تحكمه وقائع الإفلات من العقاب وإخراج حياة السوريين وحقوقهم من كل حسابات السياسة الدولية.

أن تُجاوِر السارين/ ولاء صالح

    «إنه العام الثالث للثورة، أنا في سقبا، أشعر بالخوف في منزلي القريب من المحطة. حاولنا الهروب من هنا، فشلنا كثيراً ولم نستطع، أختبئ الآن تحت السرير، أذهب لأمي وأقبّلها كلما أتتني الشجاعة لأخرج من تحته. أخاف أن يموت أحدنا فجأة، أخاف أن يصيب أحد إخوتي مكروه، لقد ماتت صديقتي منى، لا أصدق، كانت تريد أن تصبح معلمة، كانت تحب الأطفال… يا إلهي…».

كان هذا جزءاً ممّا دوّنتُهُ في دفتري الصغير بعد فاجعة الكيماوي، التي أودت بحياة الآلاف.

مرت ست سنوات وأنا أحاول أن أمحو صورتها من ذاكرتي، يجيء الى أحلامي وجه صديقتي منى كل فترة ليذكرني بما أصابها؛ أحاول أن أقول لها بأنني لن أنساكِ يوماً، ولن أنساكم أبداً. تتزاحم صورتها مع صور من أعرفهم ممّن ماتوا اختناقاً في 21 آب عام 2013 في مجزرة الكيماوي على الغوطة الشرقية، أشعر بثقل كبير، وكأنني أحمل جبلاً على صدري، كلما حاولت استرجاع ما شاهدته وما سمعته.

كشاهدة على تلك المجزرة، لا أمتلك سوى شهادتي لأرويها. كنتُ جزءاً من تلك الحكاية، وحين أدركتُ أن الصمت أداةٌ أخرى من أدوات القتل واستمراره، حاولتُ أن أكسر حاجز الصمت والخوف معاً، ليتفوق الدافع إلى روي الحكاية عندي مهما كان الخوف كبيراً.

في سقبا

انتقلنا للعيش في الغوطة الشرقية عام 2009، ولا أعرف ما الذي جاء بنا من أقاصي الدنيا لنسكن هناك، وفي سقبا على وجه التحديد، التي ستصبح  قلب العالم الثوري في الغوطة ونبضه. وقد كان عدد سكان سقبا بالكاد يتجاوز ستة وثلاثين ألف نسمة قبل الثورة، هي بلدة الصغيرة إذن، لكنها من أكبر مدن المفروشات والموبيليا بجميع أنواعها في سوريا، وهو العمل الذي كان مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من سكانها، بالإضافة إلى الزراعة في أراضيها الخصبة.

كنتُ في البداية أشعر بعدم الانتماء لذاك المكان، أشعر بضيقه وغرابة أطباع أهله واختلافها عن المكان الذي نشأتُ فيه، لكن هذه الأفكار والمشاعر تلاشت بعد بدء الثورة بشهور قليلة. كانت سقبا من المناطق التي انطلقت فيها المظاهرات المناهضة للنظام مبكراً، وقد عشنا أياماً جميلة جداً مع حلم الحرية والعدالة والانتقام من الظالم؛ شعرنا بتلك الحرية على مدى أيام بل أشهر، وكنتُ ممتنة للصدفة التي جعلتني جزءاً من تلك المدينة وبنتاً من بناتها، وشاهدةً على أعظم الثورات، وعلى أكثر الجرائم بشاعة أيضاً.

لقد جمعتني مع أبناء سقبا، وعلى وجه الخصوص مع طالبات ومعلميّ ومعلمات ثانوية سقبا للبنات، رابطةٌ ثوريةٌ جعلت مشاعر الغربة ووحشة المكان تتلاشى سريعاً. كنتُ في السابعة عشرة من عمري عندما خرجنا في مظاهرات كنا ننظمها بشكل جماعي وفي السرّ، ولم يكن خروجنا وقتها مجرد تجمعات أو هتافات لمجرد الخروج، بل كانت لكلّ منا قضيتها الخاصة التي خرجت لأجلها، من نور التي اعتقل النظام والدها، إلى منال التي اكتسبت حساً بالمسؤولية من أخويها اللذين انضمّا للجيش الحر منذ بداية ظهوره أواخر 2011، إلى مختلف أشكال الظلم الواقع علينا جميعاً.

أذكر كيف ولدت الفكرة في رؤوسنا من حصة للتربية القومية، قاطعناها ورفضنا دراسة المنهاج والاستماع للمعلّمة التي عُرفت بتأييدها للنظام. بعض الفتيات بدأنَ يرسمنَ كاريكاتيرات ويُلصقنها على جدران الصفوف، ولم تلاقِ نشاطاتنا تأييداً من مديرة المدرسة حينها، حتى أنها عاقبت كثيرات منا وحاولت منع خروجنا في أي مظاهرة. لا أعلم إن كان موقفها وقتها نابعاً من خوفها علينا أم من رفضها لفكرة الثورة كلّها، لا يمكنني الجزم بذلك، لكن كلّ ما أذكره هو أننا خرجنا في مظاهرات علت فيها أصوات طالبات الثانوية، وأنني كنتُ أشبكُ يدي بيد صديقتي منى ونخرج من المدرسة في المظاهرة وصولاً إلى ساحة الجمعية، ثم نتفرق خوفاً من أهلنا، أو من قذيفة تأتينا فجأة، أو من مداهمة مفاجئة لرجال أمن النظام الذين لم يعودوا قادرين على التحرك بحريّة في البلدة الثائرة، فباتوا يعتمدون المداهمات المفاجئة بدعم من جيش النظام، ثم لم يعودوا يستطيعون تنفيذ مداهمات كهذه بعد انتشار الجيش الحر في سقبا وفي محيطها بشكل أكبر.

وقد صارت الحياة بعدها أكثر قسوة نتيجة القصف المتكرر بالطائرات والهاون، ثم كانت المجزرة التي ارتكبتها طائرة ميغ تابعة للنظام في 18 تشرين الثاني 2012، التي أدت لاستشهاد العشرات من أبناء سقبا وإسقاط أكثر من ثماني أبنية على رؤوس ساكنيها. كان ذلك من أكثر المشاهد التي لا تزال راسخة في ذاكرتي عنفاً، كانت تلك الأيام مليئة بالشناعة والبؤس وخسارة الأرواح، وباللحظات التي تمنح الإنسان شعوراً بأنه مفارقٌ لهذه الدنيا؛ «سيطير رأسي الآن وسينفجر قلبي، ستتطاير أشلائي، وسأتحلّل ولا يبقى مني سوى العظام»؛ تلك كانت أبشع التصورات التي راودتني خلال الأشهر الأخيرة من إقامتي في سقبا، التي خرجت منها ومن الغوطة الشرقية كلها بمعجزة إلهية في شهر تشرين الثاني من العام 2013، أي بعد شهرين من المذبحة الكيماوية، تاركةً فيها بيتنا وأهلنا وأحبابنا الذين لمّهم التراب، وآخرين سيموتون من القصف والجوع والحصار بعدها. لقد تركت ورائي عالماً سيبقى يصارع حتى الرمق الأخير.

كانت المذبحة التي ارتكبتها طائرة الميغ هي المذبحة الأعنف والأكثر وحشية باعتقادي، إذ ما هو الأكثر وحشية من أن تسقط الأبنية فجأة على رؤوس ساكنيها، هكذا كنت أقول لنفسي، حتى جاءت المذبحة الكيماوية لتجعلني أعرف بأن هناك مزيداً من الوحشية التي لا يتصور حدودها عقل.

في الأربعاء المشؤوم

شهدت أيام ما قبل المجزرة تصعيداً في القصف على كافة مناطق الغوطة الشرقية، وخاصة زملكا وجوبر وسقبا وعين ترما. وقالت فصائل المعارضة وقتها إنها كانت تتصدى لمحاولات تقدم واقتحام من قبل النظام تهدف إلى تقطيع أوصال الغوطة. كانت الجبهات مشتعلة، وكانت الأوضاع الإنسانية في سقبا تتدهور سريعاً، جراء انقطاع الكهرباء وشبكات الاتصالات، والنقص الشديد في المواد الغذائية والأدوية وارتفاع الأسعار، وخاصة بعد استهداف النظام المتعمد لأفران الخبز في الغوطة الشرقية، حتى أصبحت ربطة الخبز حلماً بعيداً لكثير من العائلات.

لقد اعتدنا على أشياء كنا نعتقد أنه لا يمكن للإنسان أن يعتاد عليها، ومن اختبأ في ملاجئ الغوطة الشرقية وذاق طعم المرارة والجوع، لن يستغرب أن يجيء يومٌ تأتيه فيه صواريخ محملة بمواد كيميائية.

لم تكن الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحاً حين كنا نحاول النوم، وكان فضاء سقبا يعج بأصوات القذائف والطائرات التي تحوم في السماء، وبأصوات إطلاق الرصاص التي يخترق صداها جدران منزلنا. نسمع صوت والدي وهو يصرخ بصوت مرتفع، نهرع جميعنا للخارج لنراه بهيئة مضطربة وأنفاس تضيق شيئاً فشيئاً، لم تسعفه بلاغته النحوية ولا جمله المتماسكة لشرح ما يحدث، كان كل ما قاله: «ماتوا خنقاً، سنموت جميعاً، المجرم… الـ….»، ثم أكملها: «زملكا تُباد».

لم تكن الصورة مكتملة في وقتها، كنّا نسمع عن أشخاص يموتون بشكل غريب، ونسمع أصوات تحركات معتادة في أيام القصف، تحركات لانتشال الشهداء وإنقاذ من يمكن إنقاذه. مرت ساعات قليلة حتى عرفنا بأن النظام قام بإطلاق صواريخ محملة برؤوس كيميائية على بعض مناطق الغوطة الشرقية، وخاصة زملكا وبعض أطراف عين ترما.

لم نكن قادرين على تحديد ما يجب فعله في موقف كهذا، هل ننتظر الموت الذي بدا لنا محتوماً ولا مفرّ منه، أم نصرخ، أم نهرع للمساعدة. سمعتُ رجلاً عجوزاً يقول إن «سقبا جايها الدور أيضاً، رح نفطس متل الحيوانات، مين سائل عنا؟! بلا أمريكا بلا…».

ظلت كلماته ترن في أذني طويلاً، تقول لي أمي بأني فارقتُ الحياة للحظات حين ازرقَّ لوني ولون شفتيَّ وتجمدت الدماء في عروقي، لكنني عدتُ بعدها إلى الحياة، ولا أعلم حتى الآن سبب تمسّكي الشديد بالحياة رغم سوئها. لم يكن هناك كهرباء ولا تلفاز، كنا معزولين عن العالم، حتى جاء بعض أصدقاء والدي ليحكوا له ما يحصل؛ قال لنا أحدهم بعد أن فاضت الدموع من عينيه: «لبسوا يا عمو… لبسوا». كنّا مرتدين لملابسنا طبعاً، لكنه كان يقصد أن نرتدي ملابسنا التي سنلاقي بها وجه ربنا.

توضأنا، ثم ارتدينا ثيابنا وفوقها ملابس الصلاة.

جلستُ أنا وأفراد عائلتي وبعض الأقارب والجيران وسط ذهول تام وقلّة في الحيلة، كنّا نسمع أصوات العالم المنبعثة من الخارج، أصوات سيارات الإسعاف، أصوات أحاديث الرجال المجتمعين في كل زاوية، وقصصاً مختلفة يحكيها كلٌّ منهم بطريقته.

أذكر جيداً وجه جارتنا التي كانت تسكن في الطابق السفلي، عندما حملت طفلتها على يدها وأحضرت ما تحتاج له من بعض الاطعمة لها ولابنتها، لتصعد إلى سطح المبنى وتراقب العالم من بعيد، وكأن ثقل العالم ووحشته كلها في وجهها، وكأنها فقدت الأمل تماماً؛ قالت لنا: «لن أستطيع تحمّل مشهد ابنتي وهي تنازع وترتجف، إن حصل هذا سألقيها وألقي بنفسي من هذا السطح».

لم ندرك حجم المأساة رغم كل ما سمعناه، إلّا عندما شاهدناها على شاشة الموبايل. كان التصوير مهمة شاقة حينها، حيث لا شبكات اتصالات ولا كهرباء كافية  لشحن الأجهزة باستمرار، وإرسال المقاطع المصورة عن طريق البلوتوث كان يأخذ وقتاً طويلاً جداً.

 كان العم أبو فادي الذي يعمل في مستشفى ميداني في بلدة حمورية من بين الأصدقاء الذين جاءوا إلى منزلنا، لم يذهب إلى زملكا، لكنه قال إنه استقبل مئات حالات الاختناق القادمة من الأماكن المستهدفة. لقد جمعت بين مناطق الغوطة رابطة العذاب والظلم والجوع وفقدان الأحبة، والاعتياد على الموت، وأننا كما نودّع كل يوم بعضنا خشية أن يكون هذا يومنا الأخير. لقد امتلأت المراكز الطبية في عربين وحمورية ودوما وسقبا بآلاف المصابين بغاز السارين، الذين تمّ نقلهم محملين بسيارات من زملكا وعين ترما.

لم يستطيع كثيرون من هؤلاء النجاة، أما الناجون فكان يتوجب متابعة حالتهم بهدف التخفيف من آثار استنشاقهم للسارين القاتل، لكن الحالة المريعة لم تكن تسمح لأحد بمتابعة الحالات الناجية، لأن حجم الكارثة تجاوز حدود استيعاب مراكز الغوطة الطبية. يقول العم أبو فادي: «أقسم بالله متل المسالخ، السيارات عم تعبي الناس من زملكا، ترميهم عنا وتروح حتى تجيب غيرهن».

ولم تكن مراكز الغوطة الطبية مجهزة بشكل يسمح بتلقي مثل هذه الحالات، كان هناك نقصٌ وأحياناً غيابٌ كاملٌ لحقن الأتروبين والمنفسات الضرورية للتعامل مع الإصابات بالسارين، وأكثر ما كان بالإمكان فعله في حالات كثيرة هو تقديم إسعافات أولية لمحاولة تخفيف أثر الغاز المُستنشق، مثل رشّ المصابين بالماء ووضع بصل على أنوفهم. وقد ساعدت هذه الإجراءات في إنقاذ أرواح كثيرة، من بينها حالات ربما كان الموت أكثر رأفة بها، مثل رجل عجوز ماتت عائلته بالكامل مع ستة من أحفاده، وبقي هو على قيد الحياة بعد أن فقد بصره.

استمعنا وقتها لشهادة أحد الذين نجوا بأعجوبة، حين ذهب مع طاقم طبي مؤلف من سائق وأربعة مسعفين إلى أحد المواقع المستهدفة فور استهدافها، فمات ثلاثة منهم جرّاء استنشاق الغاز السام، ونجا اثنان فقط كان هو واحداً منهما. روى لنا عن مئات الأطفال الذين لم يستيقظوا ليلتها من نومهم العميق، عن مسنين تم سحب جثامينهم بعد أن ماتوا وهم راكعون على سجاجيد الصلاة، عن أمهات حملنَ أطفالهنّ وركضنَ للطوابق العليا لاستنشاق الهواء، ولكن الموت قد سبقهم واختطف أرواحهم. روى عن يوم كيوم القيامة، يركض الناس فيه إلى الطرقات المظلمة ثم يسقطون فجأة كأوراق الشجر على الأرصفة وفي الشوارع، عن منقذين لم يستطيعوا حتى إنقاذ أنفسهم.

لم تتسع المقابر في سقبا يومها للشهداء الذين تم نقلهم للإسعاف فيها وفارقوا الحياة، كان عدد الأطفال الذين لم تُعرَف هويتهم أكثر من أولئك الذين دُفنوا بجانب عائلاتهم؛ لقد دُفنَ كثيرون بلا اسم ولا هوية، لا أحد يعرفهم، ولذلك تم منحهم أرقاماً بدل أسمائهم، الطفلة رقم 1، والطفل رقم 3.

بقيت نوافذ المنازل في أغلب أحياء سقبا مقفلة على مدى ليال طويلة، وحملت لنا الأيام بعدها أوقاتاً عصيبة كرهنا فيها كلّ شيء، كرهنا أنفسنا وكرهنا الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه، كل شيء يذكرنا بتفاصيل تلك المجزرة المخيفة، ولكن رغم كل هذا كان التضامن العابر لحدود الدمار والقتل والعجز موجوداً، وعلت الحناجر بالهتاف بعدها بأيام، وخرجت عدة مظاهرات في سقبا تندد بالمجزرة.

كان الخوف طاغياً على كل شيء في الأيام التالية للمذبحة، لم نخف من الموت بقدر خوفنا من أن نتحول إلى جثث مجهولة؛ صار الجميع يفكرون بأصوات عالية؛ ترى أين سأُدفن؟ إلى أي مركز سأُنقل؟ هل سيبقى أحد للإنقاذ أصلاً؟ وقد فكر كثيرون بالخروج من المنطقة كلّها وقتها، لكن هذا كان أمراً بالغ الصعوبة وأقرب للانتحار، بسبب القصف واشتعال المعارك على جبهات الغوطة.

تلبدت قلوبنا بالذعر من المجهول، وبات ما يشغل أيامنا هو التدريب على مقاومة الموت، على مقاومة الغاز المتوحش الذي كنا ننتظره، ونخشى أن يفاجئنا بقدومه، فجميع الشائعات كانت تنذر ببوادر سحق ما تبقى من الغوطة الشرقية بعد أن وصلتنا أخبار تفيد بأفراح واحتفالات من قبل عناصر جيش الأسد ومؤيديه بعد أن سمعوا بإنجازهم في قتل الآلاف. وقد زادت جميع تلك الأنباء من القناعة بأنه يتم التدبير لعملية قصف كيميائي جديدة تستهدف ما تبقى من المناطق، خاصة بعد أن عرفنا أن أحداً لن يعاقب النظام على تجاوزه للخطوط الحمراء التي رسمها أوباما، فغابت جميع المناشدات والآمال التي كنا قد بنيناها في دواخل أنفسنا، وصرنا ندرب نفوسنا جيداً على استقبال أي عقاب ينزله النظام المتوحش بنا.

فتحت كثيرٌ من البيوت في الطوابق العليا أبوابها لسكان الأقبية والطوابق السفلية بعد القصص التي سمعناها، وامتلأت منازلنا بالأقنعة الواقية والبصل والخلّ، وتركيبة لا أذكر مكوناتها بالتحديد، لكنها مزيجٌٌ من الخلّ وبعض المواد المتوافرة في جميع المنازل، وعلّمنا المسعفون كيف يمكننا الحدّ من أثر الغاز السام، وكيف يمكن التعامل مع شخص يصاب بالاختلاجات عبر إسعافات أولية قد تفي بالغرض.

من ناحية أخرى، بتنا أشد تماسكاً وقرباً من بعضنا بعضاً في مواجهة شبح الموت، وبعد الحادثة المشؤومة، لم تعد النساء تنام بقمصان النوم، بل بتنَ ينمنَ بقمطة الحجاب على رؤوسهنّ، مستعدات لمقابلة الله في أي لحظة. أذكر جيداً دعاء الأهالي طلباً من الله أن نموت موتاً رحيماً، الدماء ولا الاختناق، الدماء ولا أن نرى الأطفال بأم أعيننا وهم يختلجون وينتفضون؛ كان يدعون الله أن يموتوا بقذيفة أو صاروخ لا يبقي حياً منهم؛ قد لا يصدق أحد، لكن هذا النوع من الأدعية كان يتكرر كثيراً.

أكتب اليوم عن جرح لا يزال ينزّ في الروح والذاكرة، أطلق زفرات تشبه تنهيداتي في تلك الأيام، وأنا أفكر في كل أولئك الذين ماتوا اختناقاً على مقربة مني. أكتب إلى منى، زميلة الدراسة والمقاعد الخشبية، أكتب كل حرف إكراماً لها ولروحها وأحلامها التي دُفنت معها، أكتب للجرأة التي تعلّمتُها منها، ولجميع ضحايا المجزرة المهولة؛ أكتب كي لا أسمح للنسيان بأن يتسلل إلى ذاكرتي المثقلة بالمآسي، كي لا ننسى المجرم والجرائم التي اقترفها.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى