سوريا وأشغال الإمبريالية الثقافية/ صبحي حديدي
يُعتبر إدير واحيس (قبائلي جزائري الأصل، أغلب الظنّ) أحد أبرز الباحثين، غير السوريين، ممّن تخصصوا في تاريخ سوريا خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وتعمقوا في الشطر الاستعماري، والثورات ضدّ الانتداب الفرنسي على وجه التحديد. له فصول ثمينة حول التجريب الزراعي، والتعليم، والمواطنة، والبعثات التبشيرية الكاثوليكية، والهيمنة على قبائل البدو؛ من زاوية ممارسات السلطات الاستعمارية الفرنسية خلال سنوات الانتداب. نال واحيس الدكتوراه في التاريخ من جامعة إكستر البريطانية، ثمّ تابع دراساته في لندن ــ «سواس»، وهو اليوم يدرّس في جامعة ماربيا، إسبانيا. ومؤخراً صدر كتابه، الهامّ للغاية، «سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي: الإمبريالية الثقافية وأشغال الإمبراطورية»؛ بالإنكليزية، عن I.B.Tauris.
في فصل تمهيدي يناقش واحيس المؤسسات الثقافية والصراع من أجل تعريف الانتداب، ثمّ يخصص ثمانية فصول لاحقة لمناقشة مسائل التنقيب عن الآثار، وضبط التراث الثقافي (المتاحف والسياحة والمعارض)، والمناهج التعليمية، وفرض الرقابة على الصحافة العربية، والتحريف والتمويل لصالح الفرنكوفونية، والبُعد الأممي والصحافة العالمية. وفي خلاصته العامة يشدد واحيس على النزعة الاستشراقية الصارخة التي حكمت مقاربات سلطات الانتداب الفرنسي في القضايا الثقافية، ويتوقف خصوصاً عند تقرير استخباراتي فرنسي شهير كُتب سنة 1925، يقول بالحرف: «السوري شرقي؛ وهو في هذا لا يفهم إلا لغة القوّة، وطلباته تتزايد دائماً حتى يأتي وقت يُجابه فيه بالقوّة. على سوريا أن تفهم أنّ فرنسا باقية هنا، لأنها ليست قوّة انتداب فحسب، بل كذلك أمّة دائنة وتضحياتها التي دعّمت حقوقها العلمانية تعطيها الحقّ في البقاء»!
الكتاب يستحق وقفة مطوّلة مفصّلة، بالطبع، ليس هنا مقامها؛ غير أنّ الإنصاف يقتضي الإشارة إلى موقف مناهض لمشروع الانتداب بأسره، لم يصدر عن أبناء البلد السوريين أو اللبنانيين كما للمرء أن يتوقع، بل اعتنقته واحتضنته صحيفة «لومانيتيه» الفرنسية العريقة. ولقد فتحت صفحاتها لكتّاب من سوريا ولبنان، كما تجاسرت (ليس من دون التعرّض لتهمة «الخيانة الوطنية»، من جانب الاستخبارات الفرنسية والصحافة اليمينية) فنشرت رسالة من سلطان باشا الأطرش، قائد ثورة جبل العرب، يقول فيها: «طوال عقود ناضلنا من أجل حرّيتنا واستقلالنا. كفانا كلمات! بالسيف يتوجب علينا النضال!». كذلك نشرت الصحيفة مقالات من رشيد رضا (وكان يومها أمين «اللجنة السورية ــ الفلسطينية»، وعُرّف كـ»مفكّر إسلامي مصلح»)؛ ونداءات من شكيب أرسلان، وأمين «حزب الشعب» السوري، وسواهم كثر. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الكتّاب والمعلّقين الفرنسيين، الذين تصدّوا لفضح ادعاءات الجنرال غورو (المندوب السامي للانتداب، وصاحب نظرية «الهجوم حتى الإبادة»)؛ سواء حول «ربحية» المشروع الاستعماري الفرنسي في سوريا، أو حول «المهمة التمدينية» الشهيرة التي زعم المستعمرون أنّ التاريخ ألقاها على عاتقهم تجاه شعوب الشرق «المتخلفة».
وهذه مناسبة لفتح قوسين، واستعادة تاريخ الصحيفة التي أسّسها الاشتراكي الفرنسي جان جوريس (1859 ـ 1914) في سنة 1904، وتقلّبت أقدارها مراراً من «أممية الشغيلة»، إلى أكثر من فريق يساري أو اشتراكي؛ وكان في ذروة أمجادها ذلك الملحق الثقافي الأسبوعي الذي أخذ يصدر منذ مطلع الثلاثينيات، بعنوان «الآداب الفرنسية»، تحت إشراف الشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون. وفي سنة 1930، جرّاء الضائقة المالية الخانقة التي كان الحزب الشيوعي الفرنسي يعاني منها (سوف يتضح، فيما بعد، أنّ قيادة الحزب وافقت على استلام معونات مالية من الإتحاد السوفييتي)، تمّ تنظيم أوّل احتفالية باسم الصحيفة، بغرض جمع التبرعات. ولم يكن يخطر في بال المنظّمين، آنذاك، أنّ النشاط سوف ينقلب إلى عيد شعبي فرنسي، بكلّ ما تنطوي عليه الصفة من تنويعات: سياسية ونقابية، ولكن ثقافية أدبية وموسيقية ومسرحية، ومعارض كتب وفنون تشكيلية، وألعاب أطفال، فضلاً عن مئات المنصّات التي تقدّم أصناف الطعام، من مختلف المناطق الفرنسية. الخطوة النوعية في تطوير «عيد لومانيتيه» كانت دعوة الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية وحركات التحرّر الوطني على امتداد العالم، فاتخذت الاحتفائية هيئة المنبر الدولي الرفيع الذي يتيح التعبير عن الرأي والتبشير بالقضايا.
وفي مقابل مواقف «لومانيتيه»، كانت صحيفة «لا كروا»، التي تواصل الصدور حتى الساعة، قد أدانت ما اعتبرته حالة تآخٍ» بين الشيوعيين و«أعداء فرنسا» في سوريا ولبنان؛ وعلى منوال مشابه سارت المطبوعات الناطقة باسم مجموعات الضغط الاستعمارية، خاصة منظمة «الاتحاد الاستعماري الفرنسي» و«المؤسسة الوطنية للتوسع الاقتصادي»، والتي ركزت على حرف انتباه الرأي العام الفرنسي وتصوير الانتداب كمشروع اقتصادي وتجاري عالي الأرباح. ولا تكتمل مظاهر الإمبريالية الثقافية دون تعاضد/ تضارب بين المركزين الاستعماريين في باريس ولندن، إذْ بينما لم تتوقف الصحافة الإنكليزية الموالية للمشروع الاستعماري البريطاني عن نقد المشروع الاستعماري الفرنسي؛ تبنّت بعض الصحف الفرنسية شبه الحكومية («لو ماتان»، على سبيل المثال) احتجاج الوطنيين السوريين والفلسطينيين ضدّ وعد بلفور، بل ونشرت مقالة تتحدّث عن سوريا موحّدة تضمّ فلسطين!
وبصفة إجمالية، ومن زاوية بحثية صرفة بادئ ذي بدء، هذه الدراسة تبرهن على حاجة حيوية لربط المؤسسات الاستعمارية العسكرية والسياسية والاقتصادية، بشقيقاتها المؤسسات الثقافية والتربوية والأركيولوجية والأنثروبولوجية وسواها. وفي هذا بعض ردٍّ لجميل إدوارد سعيد في نقد اقتران الاستشراق بالمشروعين الاستعماريين، الفرنسي والبريطاني، على وجه الخصوص.
القدس العربي