“الليل السوري الطويل”/ سلام الكواكبي
السوريون المنخرطون -نظريًا أو عمليًا- في دعم الحركات الاحتجاجية التي عرفتها سورية، والتي سرعان ما حوّلها القمع الدموي إلى مقتلة، ينتظرون من كل ما يكتب أن يدعم مواقفهم ويُشيد بثورتهم ويؤسس لدعاية عالمية لصدقيتهم وصدقية قضيتهم العادلة. ولكثرة هذا الانتظار للموقف الداعم، فقد تقاطع شعورهم بالرضا المحدود مع شعور أوسع وأكثر ترددًا بالخيبة. ينتظر صاحب الحق أو من يعدّ نفسه صاحب الحق، أن يقف الجميع في صفه، وأن يذودوا عن مشروعية مطالبه، وينددوا بمن عاداه أو بمن قمعه أو بمن يُمارس بحقه الاستبداد والقهر. انتظار طبيعي لمن تُنتهك حقوقه، ويعتبر أن العالم مُطالب بأن يتضامن معه، ولو على حساب الموضوعية والحيادية.
تعددت الكتب والإصدارات التي تتعرض للمقتلة السورية من وجهة نظر الضحايا، أي الشعب، وفي غالب الأحيان يكاد القارئ، من شدة اندماجه وتقديره لموقف الكاتب الداعم للقضية، أن يُنهي القراءة مترحّمًا على الشهداء وداعيًا بالشفاء العاجل للجرحى وبالحرية للمعتقلين، كما هي العادة في ختام كلام أنصار الثورة الإعلامي. ومن جهة أخرى، تعددت الكتابات والإصدارات أيضًا لمن والى السلطة، وهم غالبًا أشخاص بعيدون من أي قناعة أيديولوجية أو أخلاقية، بل يبحثون عن رضا السلطان ومن يلوذ به ومن يدفع عنه.
الكتب الموضوعية التحليلية نادرة في هذه الغابة من الكتابات المتواجهة والمشتبكة. لكن السفير الفرنسي السابق في دمشق ميشيل دوكلو أنجز أخيرًا كتابًا يمكن اعتباره نموذجًا ناجحًا للموضوعية الإيجابية. فهو أمضى في دمشق ثلاث سنوات بين 2006 و2009، حيث وصل إليها بعد مأساة مقتل الرئيس رفيق حريري. كما أنه كان مُنسّق عودة الحرارة إلى العلاقات السورية الفرنسية مع الرئيس نيكولا ساركوزي، التي تُوّجت بمشاركة بشار الأسد في عرض العيد الوطني، في 14 تموز/ يوليو سنة 2008.
على الرغم من تكرار السفير دوكلو موقفه الداعم لحرية الشعب السوري، وإمكانية تلمّس هذه الرسالة الإنسانية في أكثر من موضع في كتابه الشهادة، فإن موضوعية التحليل من قبل هذا الدبلوماسي العريق تعطي للمضمون ثراءً إضافيًا بعيدًا من الحشو اللغوي والتضامن الفاشل.
تحليل كامل لطبيعة النظام والحلقات الثلاث التي تشكل نواته الأساسية بلغة علمية متجردة. يُضاف إليه وقوف عند ظاهرة الفساد والإفساد المنهجيين، وشرح أسباب تطورهما الهائل في أجهزة الدولة السورية، بالاستناد إلى “صفقات” التعاون التي كان يتابعها بين الإدارات الرسمية السورية والجهات الفرنسية. كما حظيت السيطرة السورية على نظام الحكم اللبناني، عبر وسائل الترهيب والترغيب، على حيّز مهم في استعراضه. وأمام صدمة المناصرين للثورة من مسألة استقبال الرئيس ساركوزي للرئيس الأسد يوم العيد الوطني والاحتفاء به، وضّح السفير السابق أن اللقاء بين رئيسي دولتين ليس بالضرورة عملًا سلبيًا، مهما كان الخلاف بينهما، ومهما كان تقدير الدولة الفرنسية صاحبة القيم الديمقراطية لمستوى الشمولية في البلد الثاني. في المقابل، فالتاريخ يحتفظ أكثر بالرموز، ومنها، وجود الأسد في استعراض العيد الوطني، وهو ما يراه الكتاب خطأً فادحًا.
في معرض التطرق إلى هذه الزيارة، أشار السفير السابق إلى أن ساركوزي كان ينتظر من الأسد مقابلًا مركبًا: استقرار في لبنان وانضمام للاتحاد من أجل المتوسط. وبالطبع، فإن انتظار ساركوزي قد باء بالفشل، لأن النظام السوري لم يتراجع قيد أنملة عن موقفه في لبنان، ورغبته في أن يكون رئيسها دمية بين يديه. كما أوضح الكتاب أن الأمل بإصلاح حقيقي في سورية لم يقتنع به أحد في الخارجيات الأوروبية، لقناعة راسخة بأن أي إصلاح سيكون إعلان نهاية النظام. وفي معرض الرد على ادعاءات الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، بأن سلفه لم يكن يتحاور مع موسكو، شدد السفير دوكلو، وهو الملمّ بالملف الروسي، على أن الإدارة الفرنسية لم تتوقف في زمن فرانسوا هولاند عن الحوار مع الروس، على الرغم من عدم استساغة هولاند لشخص بوتين. إلا أن هذه الحوارات لم تؤد إلى أي نتيجة إيجابية. وهو بالتالي يتوقع لحوارات ماكرون الفشل، على الرغم من كل المظاهر الاحتفالية التي يحيط بها استقبالاته لفلاديمير بوتين.
في توقف لافت، يكتب السفير السابق موضّحًا أوجه الشبه بين المسألة السورية والحرب الأهلية الإسبانية. فعلى الرغم من تحذير بعض المؤرخين من إسقاط النماذج التاريخية على الواقع المعاش، فإن من يطّلع على التجربتين لا يمكن له إلا أن يندهش لأوجه التشابه. ففي إسبانيا، كان الجمهوريون يبحثون عن دعم دول العالم الحر، لمواجهة دمويي الجنرال فرانكو المدعوم من نازيي ألمانيا وفاشيي إيطاليا. رفض الغربيون التدخل، وتركوا فرانكو يمارس أشنع الممارسات بحق شعبه. وبالمقابل، فقد استقطب جوزيف ستالين، المتطرف، الجمهوريين في إسبانيا. وبالتالي، فقد دفع الجمهوريين نحو التطرف. وفي سورية، نظامٌ مدعوم من إيران وروسيا، وحراك وطني ديمقراطي تُرك وحيدًا في مواجهته، ليتلقفه مؤيدو التوجه الديني المتطرف، مما غيّر تمامًا من طبيعة الحراك.
كتاب (الليل السوري الطويل) عمل موضوعي، في خلاصته دعم مثمر لحرية الشعب السوري بالاعتماد على تحليل موضوعي يسمح للقارئ الضبابي بأن يعي حقيقة الأمور في سورية وفي الإقليم، بعيدًا من غوغائية التضامن اللفظي والديباجات الحماسية.
جيرون