“نساؤنا على الأرض”: لم يقلن كل ما لديهن بعد/ ديما شريف
كان من المفترض لهند حسن أن تكون طبيبة، وتتزوّج فور إنهائها دراستها، من طبيب بالطبع، وتنجب الكثير من الأولاد وتعيش بسعادة. على الأقل هذا ما كان يخططه لها أهلها الذين اعتبروا أن حياتهم في مدينة هال الإنكليزية بعيداً عن مسقط رأسهم في العراق، كفيلة بتأمين حياة هادئة لهم ولأولادهم. لكم أن تتخيّلوا خيبة أمل الأهل حين قرّرت هند أن تصبح صحافية وتعود إلى العراق لتنقل ما يحصل هناك لوسائل الإعلام التي عملت معها في العقد الماضي.
قد يصح القول في حالة هند وغيرها، إنّ معاناة الصحافيات في العالم العربي مضاعفة، فهن يعانين من ضغط العائلة التي لا تريد لهنّ هكذا مهنة، ومن ضغط المهنة نفسه، والذي قد يكون في بعض الأحيان أكبر عليهن من زملائهن الذكور، في مجتمع يعتبر أنّ المرأة غير مؤهلة لمهنة تتطلب السفر والمبيت خارج المنزل.
قصة هند ليست فريدة، فهي تشبه قصصاً أخرى نجدها في كتاب “نساؤنا على الأرض” (Our Women on the Ground. Arab Women reporting from the Arab World) من تحرير الباحثة والصحافية اللبنانية البريطانية زهراء حنقير والتي تشير في افتتاحيته إلى أنّ العمل في الصحافة في هذه البقعة من العالم ليس تحدياً للدولة فقط، بل للعائلة والمجتمع والدور المتوقع للمرأة في أحيان عدّة، وهو ما واجهته إلى جانب هند حسن، الصحافية السورية زينة ارحيم في إدلب، فقد تحدّت عائلتها كي لا تلبس الحجاب قبل أن تفرضه عليها التنظيمات المسلحة في المنطقة، فقررت في النهاية الرحيل نهائياً عن وطنها. وكذلك الأمر مع اليمنية أميرة الشريف التي اقتنع والدها بعد جهد كبير بالسماح لها بممارسة التصوير بحرية لكنّها بقيت تعاني من صعوبة التنقل في بلد تقطعت أوصاله بسبب الحرب، وتسبب عملها بسجن زملاء رافقوها في مهمات صحافية، وكانت تُهمتهم أنّهم ليسوا من عائلتها ومن “محارمها”.
لكن قصص الكتاب لا تنحصر في تحدّي العائلة والمجتمع، فنجد قصصاً إنسانية عن نساء قررن الخروج من هذه المهنة بأقل الأضرار الجانبية والعودة إلى حياة طبيعية بعد سلسلة من الخسائر. وهو ما يمكن تلمسه أثناء قراءة النص الذي كتبته الصحافية السابقة في “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”، ندى بكري، في مساهمتها في الكتاب. بكري التي غطت أحداث “السابع من أيار” في لبنان وكل الأحداث الأمنية اللاحقة والحرب في العراق بعد العام 2009، فقدت زوجها الصحافي أنتوني شديد في العام 2012 أثناء تغطيته للثورة السورية (إثر أزمة ربو حادة في الشمال السوري) وقررت ترك الصحافة والعيش مع ابنها بعيداً عن المنطقة العربية والمهنة كلها في منفى وعزلة فرضتهما على نفسها، ولم تعد قادرة على الفكاك منهما، كما تقول.
رواية مشابهة بعض الشيء لما عاشته الفلسطينية الغزاوية، أسماء الغول، التي فشلت زيجتيها بسبب متطلبات عملها الصحافي، وكادت أن تخسر ابنها في إحدى الحروب الإسرائيلية المتعددة على القطاع، وهو ما تخبرنا به في نصها “بين الانفجارات”، فحملت ولديها وهاجرت إلى فرنسا حيث تكتب الأدب وبعض الصحافة، في محاولة منها لتعيش حياة “طبيعية”.
كتاب حنقير الصادر هذا العام عن ”بنغوين” ليس فقط عن نساء صحافيات اعتزلن العمل الصحافي بل هو، وكما يشير عنوانه، عمل خطت نصوصه صحافيات من المنطقة العربية بأنفسهن قضين سنوات في الكتابة والتحقيق عن هذه المنطقة ومآسيها وحروبها وأحزانها. وهذا ما يميّز هذه الأنطولوجيا. فقد اعتدنا لسنوات وعقود مضت على أن ينقل أخبارنا إلى جمهور الصحف والشاشات الأجنبية صحافيون أجانب، رجال في معظهم، لكن نتبيّن أن الصحافيات قادرات على ذلك، ربما بطريقة أفضل كونهن نساء المنطقة وبناتها.
تسع عشرة صحافية كتبن عن تجاربهن في تغطية حروبنا التي يبدو أنّها لا تنتهي، ينتمين إلى أجيال مختلفة: من دونا أبو نصر وجاين عراف ورولا خلف، وهن المتمرسات في هذه المهنة منذ عقود، إلى من بدأت عملها بسبب وخلال الثورات العربية مثل نور ملص وهند حسن وهبة شيباني، وبينهن الصحافيات اللواتي يعملن منذ بداية الألفية الجديدة في فترة التحول الكبير في العالم العربي قبل انفجار الثورات، مثل ناتاشا يزبك ولينا سنجاب ولينا عطا الله وهويدا سعد.
ورغم عدم تقسيم حنقير لنصوص الصحافيات بهذا الشكل (العمر أو بحسب فترات العمل الزمنية) واعتمادها في المقابل على تصنيف للنصوص وفق مضمونها في خمسة أقسام (ذكريات، خطوط النار، مقاومة، منفى، تحوّل) إلا أنّه يبدو واضحاً أنّ هناك تشابهاً ولو غير مباشر في نصوص وفق تقسيم فترات العمل إلى حد ما.
النصوص التي كتبتها صحافيات بدأن عملهن في العقدين الماضيين هي الأكثر حزناً وتأثيراً، بسبب خيبة أمل نقرؤها بين السطور. خيبة من ثورات لم تصل إلى مبتغاها بعد، ودروس لم نتعلمها في بداية الألفية وأمل بمستقبل أفضل، قد لا يأتي. نصّا نتاشا يزبك ولينا سنجاب قد يكونان الأقسى، وربما الأجمل، عن رحلة شخصية لاكتشاف الذات والعائلة والبلد والمنطقة والناس المحيطة بهما.
في المقابل، فإنّ نصوص الصحافيات اللواتي يمكن اعتبارهن مخضرمات، أي دونا أبي نصر وجاين عراف وهانا علام ورولا خلف وزينة كرم، مليئة بمغامرات ومآثر وإنجازات حققنها لكن كُتبت بأسلوب لا يجعل القارئ والقارئة يشعران بأي ادعاء ما. النصوص سلسة ونادراً ما تبدو فيها “الأنا” مزعجة بل تبدو الكاتبات الصحافيات وكأنّهن ينأين عن الزهو بإنجازاتهن (وبعضهن سيرتهن الذاتية مثيرة للإعجاب) ويخبرننا بألف حكاية ورواية، بعضها طريف، وبعضها مأساوي، لكن الجانب الإنساني فيها طاغ.
يشرح نص زينة كرم التغيير في سورية منذ عقدين من وجهة نظر مراسلة عاصرت انتقال السلطة من الأسد الأب إلى الابن، فيما تخبرنا دونا أبو نصر عن مغامراتها كواحدة من أولات الصحافيات الأجنبيات في السعودية والمتاعب هناك التي تتراوح من تغطية الأحداث الأمنية إلى التحايل لشراء سندويش شاورما في مطعم لا مكان فيه للنساء العازبات!
في المقابل، فإن حضور الأنا في نصوص السودانية شمايل النور والليبية هبة شيباني قد يبدو مبالغاً به، وإلى حد أقل (قد يكون الأمر ناجماً عن عدم الخبرة في الكتابة ربما) في نصي المصورتين إيمان هلال (مصر) وأميرة الشريف (اليمن). فإذا كان نصا إيمان وأميرة مرتبكين بعض الشيء فربما بسبب كونهما مصورتين وترتاحان أكثر مع الكاميرا من الكلمات، فإنّ شمايل وهبة تتبعان شعار “أتيت رأيت انتصرت” فتتكرر عبارات “كنت أول من التقى فلان..” و”أنا أول من ناقش هذه القضية…”، بشكل قد يكون منفراً خصوصاً لمن تدرب في مدرسة صحافية لا تحبّذ هذا الأسلوب المباشر جداً في القص، وتفضل الابتعاد عن الذاتية. هل هو نقص الخبرة بين هاتين الصحافيتين وزميلاتهن المخضرمات اللواتي غطين الحروب شرقاً وغرباً منذ بداية تسعينيات القرن الماضي؟ أم يرتبط الأمر بالعامل الزمني وحقيقة أنّ الشيباني والنور عملتا بشكل أساسي في العقد الماضي، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي والانتفاضات العربية والشهرة السريعة؟ الأسلوب الذي قد يجده البعض منفراً لا يجعل النصين أقل قيمة في ما تنقله إلينا عن واقع العمل الصحافي في السودان وليبيا في ظل أنظمة مستبدة.
كتاب حنقير، الذي قدمت له كريتسيان أمانبور وتحدثت عن تغطيتها حرب الخليج مع فريق نسائي، يمنح النساء “اللواتي لسن مسموعات كفاية” الفرصة للقول إنّهن موجودات. وحنقير بإعطائها مساحة لتلك النساء للكتابة عن تجاربهن المتنوعة والتعبير عن أحاسيس حميمة للغاية شعرن بها وهن يواجهن أصعب لحظات حياتهن المهنية والشخصية، إنما هي تمنحهن منصة لإخراج كل ما يعتمل في قلوبهن من قهر ويأس وتحد وحب وشجاعة وبأس وأمل، كي يعلنّ للعالم أنّهن لم يقلن كل ما لديهن بعد.
العربي الجديد