الفصول الأربعة التي لم تعد ذاتها/ سمر عبد الله
سحبتني موسيقى شارة البداية إلى دهليز يشبه ذاك الذي يصوّرونه عند الانتقال إلى عالم الموت، دهليزٌ من ضوءٍ وعتمة! وما انتابني حينها من مشاعر وذكريات تحوّلَ إلى حالة لونية، صرتُ أطير مسحوبة إلى داخل اسطوانة مُضاءة، وفي نهايتها مشاهد ورؤى من أيام عشتها قبل عشرين عاماً ربما. كنت أتمنى أن يكون دهليزي مختلفاً قليلاً، أو أن يكون فيه شيءٌ من الفنّ والابتكار بالمقارنة مع ما رأيته مراراً في أفلام ومسلسلات سبق وطبعت في ذاكرتي، لكن الحقيقة صادمةٌ أحياناً!
أتحدّثُ عن الموسيقى التصويرية لشارة مسلسل الفصول الأربعة، ذاك المسلسل الذي تابعه أو سمع عنه كلّ سوريّ على وجه الأرض؛ تمّ عرض الجزء الأول منه في خريف عام 1999، هو مسلسل سوريّ كتابةً وأخراجاً وتمثيلاً، كتبت حلقاته ريم حنا ودلع الرحبي، وأخرجه حاتم علي. يعتبر هذا العمل من كلاسيكيات الدراما السورية، ونقطة تحوّل مفصلية في ما قدمته لاحقاً، إلا أنّ أهم ما يميزه أنه صُنع وبُثّ في مرحلة زمنية وسياسية مفصلية في حياة كلّ عائلة سورية، لأن الذي يفصل بين عاميّ 1999 حين بث جزئه الأول و2002 حين بثّ جزئه الثاني ليس ثلاث سنوات فقط، بل مرحلة هامة جداً من حيث أحداثها وتطوراتها وتغيراتها الاقتصادية والسياسية؛ الابتعاد قليلاً عن خطاب البعث القومي والاشتراكي، وتوريث الحكم.
كنتُ أحبّ مشاهدته، أحبّ شخصياته جميعها، وبعد مرور عشرين عاماً على مشاهدته ما زلتُ أذكر كريم و نبيلة الجدّان، والعمة جميلة، ونعيمة، سوسو ومايا… وجميع شخصياته؛ أذكر بيتهم الكبير، الجميل، وذلك الصالون الذي يتسع لهم جميعاً. كنتُ أعتقد أن الديكور الداخلي لصالون بيت الجدّ كريم هو أجمل تصميم بسيط وعمليّ رأيته وقد أراه، ولا أستغربُ أن يكون صالون بيت العيلة، الأنيق دون تكلّف، النظيف والمليء بالنباتات المنزلية، المريح والعمليّ، من أهمّ الأسباب التي شدّتني لمتابعة مسلسل الفصول الأربعة.
اليوم في عام 2019، بات معروفاً بالنسبة لكثيرين، ومرعباً وصادماً بالنسبة لكثيرين أيضاً، كيف تجذبنا وسائل التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية إلى محتواها، وكيف تضع في شاشات هواتفنا وكومبيوتراتنا سلعة أو معلومة كنا نبحث عنها في مكان ما، أو نسأل أصدقاءنا عن مكان وجودها، أو حتى نفكّر فيها بيننا وبين أنفسنا، وأكثر من ذلك… فكثيراً ما يأتي غوغل أو يوتيوب أو غيره بمُنتَج أو مقالة أو أغنية ويضعها أمامنا، تكون هي الجواب الكوني لما كنا نبحث عنه في لاوعينا أو مناماتنا… شيءٌ لا يصدّق، لكنّه حقيقيّ، ويحدث!
لسبب ما قرّر يوتيوب وضع مسلسل الفصول الأربعة أمامي من جديد، وما من توقيت أفضل من الآن كي أبدأ مشاهدته، وأستعيد بعض ذكريات الماضي والزمن الجميل ذاك.
فرح وحماس ولهفة، واستعداد تام لعيش لحظات من الماضي واسترجاع بعض من ذكريات تلك الأيام. أعيد تشغيل شارة البداية بكلّ حماس، وأتهيّأ لاستقبال طلّاتهم!
عيلة خمس نجوم
المشهد الأول من الحلقة الأولى، خارجيّ، حديقة خضراء نضرة، أناس يمارسون رياضة الجري الصباحي، الجدّان كريم ونبيلة يركضان أيضاً، مرتديان «بيجامات مطريّة عريضة»، تتوقف نبيلة لتشتري من الكشك جريدة، وتحثّ زوجها على مواصلة الهرولة في مكانه، فالآن وقت الرياضة وتنشيط الصحّة، ولا بدّ من الحركة حتى أثناء التوقف عن الركض.
أبحثُ عن «ماوس الكومبيوتر» وأستعينُ به لإعادة المشهد من البداية، وسرعان ما دخلتُ في محادثة مع نفسي: «هلّاء عن جد هيك كانوا الناس بالشام يعملو رياضة الصبح بحديقة البطّ بالتجارة، مدري بحديقة تشرين؟ يمكن! أساساً ما كنت ساكنة بالشام، شو بيعرفني!». أتابعُ المشاهدة وأنتبه إلى نفسي شاردة في منتصف الحلقة تقريباً، كلّ العائلة مجتمعة في بيت الجدّ احتفالاً بعيد ميلاد أحدهم، ضحكات وهدايا وأحاديث متفرقة بين ثلاثة أجيال، الجيل الأول يضمّ كريم، نبيلة، العمة جميلة ونعيمة طبّاخة بيت الجوربار. الجيل الثاني فيه فاتن وزوجها المليونير مالك الجوربار، مَجدة وزوجها الموظف نجيب، شادو والشاعر العطلجي برهوم، عادل زوج الابنة المتوفاة ليلى، وناديا. أما الجيل الثالث فيضم مازن الشاب الغنيّ الأزعر ابن فاتن، وأخته مايا، سوسو عاشقة مازن وابنة خالته مجدة، دحيحُ العائلة رامي ابن نجيب ومجدة، و نارة آخر العنقود في العائلة وابنة الصهر المحامي عادل وليلى المتوفاة.
تبدو عائلة مثالية، يسود جوّ جميل من الألفة والمحبة والصداقة فيما بينهم، يلتقون باستمرار ويساندون بعضهم بعضاً في الشدّة والفرح، عائلة خمسة نجوم على الرغم من بعض الصفات غير المحببة أحياناً لبعض أفرادها، التي تضفي جواً من الظرافة والألفة، والأهم من ذلك أنها تقدّم شيئاً من الواقعية والقرب من العائلة السورية. أيضاً تنوعت أعمال واهتمامات شخصيات المسلسل وظروفهم المعيشية وصفاتهم النفسية والأخلاقية، ولكن على الرغم من كثرة اختلافاتهم، إلا أنهم بالكاد يختلفون.
عائلة يجمعها الحبّ والتآخي والاحترام المتبادل، هي صورة للعائلة السورية المتفاهمة والمنفتحة، المرحة والميسورة، فعلى الرغم من «فقر» بعضهم إلا أنهم ميسورون عموماً، عائلة مرتاحة، تعيش في جوّ مريح، لا يكدّره خلاف عميق أو ضيق شديد، ولا نلاحظ فيه أي مضايقات تذكر من الآخرين، سواء كانوا جيراناً أو أقارباً، أو حتى سلطة… هذه هي الصورة التي سعى إليها صنّاع المسلسل، وقد نجحوا في خلقها وتقديمها.
مرايا
التقيتُ مع مجموعة من الأصدقاء، وأخبرتهم فرحةً أنني أشاهد مجدّداً مسلسل الفصول الأربعة، بالطبع لم يكن هنالك مجال للشك في أنهم سيتذكرونه، حتى أننا جميعاً بدأنا ندندن موسيقاه، تا تاتا تاتارارا…
صرّحَ أحد الأصدقاء أنه كان يتمنى لو أنه وُلِدَ في تلك العائلة، كان مسحوراً بهم وبنمط حياتهم، كان يتماهى هو وأخته مع شخصيات رامي وسوسو أبناء الموظف نجيب: «لكن للأسف لم يكن زوج خالتي غنياً بما يكفي لنكمل الأدوار ونركب أفخم أنواع السيارات ونرتدي أحدث ثياب من أشهر الماركات مع أولاد خالتنا»، وأضاف أن جميع أفراد عائلته ينادون أخته لينا باسم سوسو منذ ذلك الحين، حتى أنه بات اسمها الرسميّ فيما بينهم.
بينما رأى صديق آخر أنهم كعائلة لا يمثلون إلّا شريحة صغيرة من المجتمع السوري، وأن هذا المسلسل كان في رأيه تعبيراً عن شرخ كبير بين الواقع المعاش وما تصدّره الدراما السورية للعالم، لأننا لا نشاهد فيه أي مشكلة جدية يعاني منها أي واحد من أفراد العائلة مع مؤسسات الدولة أو الفساد أو التعليم أو غيره: «هدول عالم عايشين بأبو رمانة، مو بسوريا».
ياللهول، شعرتُ وكأن سنة 1999 بعيدة جداً، لقد مرّ عليها عشرون عاماً لم ألحظ مرور نصفها، هنالك خللٌ ما في ذاكرتي، تأكدتُ من ذلك عندما حاولتُ مراراً أن أستحضر صوراً وأحاديث وذكريات عن حياتنا في تلك السنوات؛ كيف كنا نعيش أيامنا معاً، قبل أن نتشظّى ونتشتت في اتجاهات الأرض الأربعة، وقبل أن تعصف بنا رياح التغيير وتقلب معظم تفاهمنا وآرائنا ومواقفنا! أعتقد أننا كنا كعائلة نتشابه مع عائلة المسلسل في تفاصيل عدة، وخصوصاً في تفصيلة الخالات وبيت الجدّ والجدة أهلّ الأمّ، والمحبة التي تجمع الكلّ معاً. احتفالات عديدة وكثيرة، ضحكات وأحاديث لا تنتهي، علاقة جميلة وطيدة مع المكان والبيت بكلّ غرفه وأثاثه وروائحه، بالإضافة إلى العلاقة المحبّبة بين أصهار العائلة وزوجاتهنّ، جوّ الصداقة بين الخالات وبناتهنّ وأبنائهن هو مزيد من التشابه أيضاً، كنا نسخة أخرى من عائلة الفصول الأربعة، «كنا عايشين ومبسوطين»!
عاندتُ فكرة صديقي تلك، وقلت حينها إننا كنا عائلة سعيدة، وإن مسلسل الفصول الأربعة يمثل الواقع الذي كنا نعيش فيه بكثير من تفاصيله، ويمكنني أن أعتبره مرآة لما كنا نعيشه، هكذا كانت حياتنا وأحاديثنا ولقاءاتنا، واهتماماتنا، وحتى مشاكلنا! يمكنني وبسهولة أيضاً أن أسقط شخصيات المسلسل على أفراد عائلتي، حتى أن لبعض الشخصيات صفات متشابهة حدّ التطابق مع بعض أقربائي.
صديقٌ آخر في الجلسة ذاتها كانت له وجهة نظر مختلفة، يقول إنّ المسلسل يتحدث عن أصناف متعددة من المستويات الاقتصادية للعائلات السورية، لكنها واحدة ومتشابهة من الناحية الثقافية ونمط التفكير والعادات وشكل العلاقات، وبالتالي لم يتمّ التطرق إلا لفئة واحدة من السوريين، الذين غالباً كانوا يسكنون في وسط العاصمة دمشق أو في وسط المدن السورية الكبيرة، ولا يشكلون، كما يعتقد، سوى 2% من المجتمع السوري، وأن الأكثرية الباقية من الفئات، التي لم يتمّ ذكرها في أيّ حلقة من المسلسل تقريباً، تشكّل جلّ الشعب السوريّ آنذاك، وغالباً ما يقطنون في الأرياف أو الحارات العشوائية للمدن الكبرى أو في المدن المهمّشة والمنسية.
صحيحٌ أن عائلة الجوربار الغنية تختلف عن عائلة برهوم وشادو الفقيرة اقتصادياً، لكن على الرغم من فقر برهوم وشادو إلا أنهما يسكنان بيتاً دمشقياً قديماً، زخرفاه ولوّناه بكلّ الألوان والأدوات التي قد لا يراها ولا يفكر بها أي فقير آخر يسكن في أحد عشوائيات دمشق، التي قد لا تبعد عن بيت برهوم وشادو سوى بضعة كيلومترات قليلة، فالبيئة الاجتماعية هي الأهم، وهي واحدة لم يظهر غيرها في مسلسل الفصول الأربعة. يضيف صديقي، اليساري جداً، أن الخلاف بين برهوم الأفقر ونجيب المتوسط ومالك شديد الثراء يبدو في المسلسل خلافاً وردياً يمكن حلّه على وجبة غداء، لكنّه في الحقيقة خلافٌ من لحم ودم، وهذا ما سنشاهده على أرض الواقع بعد المسلسل بعشر سنوات.
كان لصديقةٍ أخرى رأي آخر: مسلسل الفصول الأربعة يعتبر من العلامات الفارقة في الدراما السورية، ومعه بدأنا نرى مشاهد خارجية أكثر، ولاحظنا بدء تطور الكاميرات والمعدات الخارجية الخاصة بالتصوير، إضافة للحرفية العالية التي أبهرنا بها الممثلون تلك الأيام. ومن أحد أهم مميزات المسلسل في رأيها أنه اعتمد على طلابٍ شباب سبق وتخرّجوا حديثاً من معهد التعليم العالي للفنون المسرحية، أو كانوا في طور الدراسة فيه، وقد قدموا لنا، هم ومن سبقهم في مهنة التمثيل أداءً رائعاً، فكنا ننسى أنهم يمثلون أدوار كُتبت، وأقنعنا بعضهم أو كلّهم، أننا نشاهد شخصياتهم الحقيقية وحياتهم اليومية، لا أدوار كُتبت لهم ومثّلوها أمام الكاميرا.
تضيف أيضاً؛ من أهم الميزات في مسلسل الفصول الأربعة أن العائلة كانت عائلة مثقفة متحررة، فلم نلحظ تعصبهم الديني أو المناطقيّ، بل على العكس كانوا مثالاً يحتذى للمواطن المنفتح الذي يعزز من خلال علاقاته مع أبناء حيّه مفهوم وفكرة المواطنة، وقد كانت كلمة جديدة في قاموس ذلك الزمن، وأظن أنها ظهرت وبدأنا نستخدمها مع بثّ جزء المسلسل الثاني، في عصر تولّي الابن بشار الأسد الحكم.
لم تنتهي سهرتنا على وفاق، وكان لكلّ منا رأيه الذي برّره ببراهين وأمثلة مُعاشة، وكنا نستعين بفكرة انتمائنا لعائلات مختلفة في الطبع والمنشأ والدين والبيئة الجغرافية، حتى نخفّف من جوّ التوتر والخلاف في الآراء، «نحنا شخصياً هيك كنا عايشين»، جملة تؤمّن لقائلها إيقاف النقاش بسلام.
ليس من العدل أن أضع عملاً درامياً بعد عشرين عاماً من إنتاجه وبثّه في خانة النقد، كان مسلسل الفصول الأربعة بجزئيه عملاً عظيماً حينها، هذا ما صرّحَ به بعض النقاد الدراميين وأصحاب مهنة التمثيل والإخراج والإنتاج التلفزيوني. أيضاً لستُ في موقع أكاديميّ ولا عمليّ يخوّلني لذاك النقد، لكنّني أتحدث هنا عن علاقتي بالمسلسل قبل عشرين عاماً والآن، والفروقات بين ذاكرتي وذكرياتي عنه، وبين ما أراه اليوم على الشاشة، فكثيرة هي التغييرات التي لاحظتها نصاً وتوجهاً وتمثيلاً، وعديدة هي التساؤلات التي طرحها أمامي هذا التغيّر.
مسلسل الفصول الأربعة من أعمال «الزمن الجميل»، وشخصياتُه أيضاً، هذا ما قلته لأصدقائي عندما أخبرتهم أنني أشاهده من جديد. هذا المسلسل وغيره من مسلسلات فترة التسعينات وبداية الألفية الثالثة، وحتى بعض الدعايات والإعلانات التجارية التي كنا نحفظها ونعرفها عن ظهر قلب، وكثيرٌ من الأغاني والفيديوهات وأفلام فترة التسعينات، على بساطتها، كلها تنتمي للزمن الجميل، ذلك الزمن الذي أحنّ وغيري إليه كثيراً، ويقف بعضنا في وجه كل من يحاول تعكير صورته في أذهاننا، تماماً كما كان أهلي وأصدقاؤهم يتعاملون مع ذكريات زمنهم الجميل الذي هو ستينات وسبعينات القرن الماضي. ولكن هل لمواليد الألفية الجديدة زمنٌ جميل؟ يصعب عليَّ تصديق ذلك، كما يصعب عليّ استيعاب أن مولود عام 2000 صار عمره 19 عاماً! حقيقة لا تصدّق، لكنها حقيقة… ولا تصدّق مطلقاً!
من الغريب إطلاق مصطلح الزمن الجميل على فترات زمنية مختلفة، هو زمن جميل متغيّر، يتجدد ويتغيّر مع كل جيل، فزمني الجميل يمتدّ من أواسط التسعينات حتى أواسط العقد الأول من هذا القرن، ولا أعرف على وجه الدقة لماذا أطلقُ عليه زمناً جميلاً؟ فذكرياتي عنه تتزاحم فيها صورٌ من طفولتي ومراهقتي، أيام كان عالمي صغيراً ومعارفي قليلة.
في زمني الجميل كنتُ أرى العالم كله مختصراً في حارتي وضمن حدودها، ومع ناسها، ومختصراً كذلك في التلفزيون الرسمي السوري وقناته الثانية (الكوول)… في الحقيقة أجد نفسي الآن عند كتابة هذه السطور مبتسمة، ساخرةً، فزماني الجميل هو جميل طالما أنني لم أفكّر فيه بشكل عميق!
ضبّوا الشناتي
كما أخذتني موسيقاه التصويرية إلى عوالم خيالية ملوّنة، كذلك فعلت حلقاته، كنت في أغلب اللحظات شاردة أحدّثُ نفسي، وفي كثير من الأوقات كنت أتهرّب من متابعة المشهد وأقوم ببعض الأعمال التي من شأنها أن تلهي مخيلتي، عذّبتني متابعة حلقات مسلسل الفصول الأربعة، واستفزتني جلّ حلقات جزئه الثاني. بصراحة، كانت متابعته عذاباً لا فرحاً، قهراً لا تسلية، كنتُ أتابعه وكأنه فُرِضَ عليَّ فرضاً، أعادني إلى مرحلة التعليم الإعدادية والثانوية، التي كنتُ أشعرُ فيها أن الدروس مملة وصعبة وأن أغلب الأساتذة لا يفقهون ماذا يُعلّمون، ولكن لا سبيل إلّا حضورُ الصفّ وادّعاء اكتساب المعارف.
طغى عليَّ شعور بخيبة الأمل، كنت أتطلّع لإعادة الثقة بالماضي وأحداثه، لقد كنت أنتظر ما هو أهمّ وأعمق، وأبعد عن التنظير الذي لم يعد مقبولاً مطلقاً، فما من داعٍ لكلّ تلك النهايات السعيدة والمريحة لجميع الأطراف، ولا تبرير لكلّ تلك المواعظ الأخلاقوية، وليس صحيحاً أن هنالك أملاً محققاً سيأتي لا محالة. هل كان من الضروريّ حلّ كلّ المشاكل، وإضاءة الأمل في نهاية معظم الحلقات؟ أراه اليوم يشبه تقريراً ترسله منظمة ما إلى ممولها، معنونة الإيميل: قصص نجاح من سوريا.
كميّة التنظير والنصائح التي قالها المحامي عادل مثلاً، سواء لابنته نارة أو لأي أحد آخر في العائلة خلال سير أحداث المسلسل، تكفي لتأليف كتاب تربوي بارد يُضاف إلى مواد المنهاج الدراسّي، هل أورد لكم بعضاً من تلك النصائح؟ سوف لن أفعل حرصاً على مزاجكم.
هل أحدثكم عن الحشرية و«كبر المعلاق» الذي مارسه الجميع على الجميع في تلك العائلة؟ فلا أسرار بينهم، شعارهم هو الوحدة والحشرية واللاخصوصية، فالأم والخالات والجدة هم مركز المخابرات الرسمي، ويجب ألا يخفى عليهم شيء، وإلا سينهار جدار العائلة الجليدي بنار تنين الغرباء!
كله كوم وطريقة تعامل نبيلة مع زوجها كريم كوم تاني، بدا الجد المتقاعد منذ بداية المسلسل رجلاً نبيلاً وخجولاً، وعلى ما يبدو أنه يمضي أغلب أوقاته وأيامه في البيت، فلم يزره صديق ولم يذهب بمفرده إلا لزيارة بناته أو أصهره طيلة حلقات المسلسل، سأكون دقيقة أكثر، لقد خرج كريم مرتين اثنتين فقط بمفرده لزيارة لا تخصّ عائلته. تتعامل نبيلة مع كريم بطريقة مزعجة غالباً، تذكّره في كل حديث يدور بينهما أنه متقاعد، وانه بدأ بمرحلة الشيخوخة والنسيان!
على الرغم من وجود العمة جميلة، ومازن، أكثر شخصيات المسلسل «قلة إحساس، وذوق»، إلا أن شخصية نبيلة وتصرفاتها النزقة كانت أكثر إزعاجاً لي، رأيت فيها الزوجة الـ«مو عاجبها شي»، الأم الحشرية التي ترغب في معرفة أتفه التفاصيل التي تدور في حياة جميع أفراد عائلتها؛ هي صورة للزوجة والأمّ التي تطلب من أفراد عائلتها، في كلّ لحظة يقضونها معها أو بدونها، أن يكونوا ممتنّين لها لأنها أنجبتهم!
غالباً هنالك قارئ سيتذكر شخصية نبيلة الآن ويرى أنني أبالغ في حكمي عليها، فهي إنسانة حنونة ومتفهّمة ونبيلة مثل اسمها، لا بل قد تبدو متفهّمة لجيل أحفادها أكثر مما يفعله آباؤهم وأمهاتهم، لكن قد يكون هذا هو المغزى من الشخصيات الدرامية، تتيح لكلّ منا رؤيته الخاصة.
وكذلك مسلسل الفصول الأربعة، قد يراه البعض عملاً ممتازاً، وكان هذا رأيي فيه عندما شاهدته قبل نحو عشرين عاماً، إلا أنني لا أوافقهم الرأي اليوم. لقد قدّم لنا وعداً بمستقبل أفضل وحياة أرحب وأجمل، لكن هذا الوعد لم يتحقق في الواقع، ولم تتميز السنوات التي أتت بعده بالانفتاح والوفرة والتحرّر، بل على العكس، مزيدٌ من الضيق، مزيدٌ من فقدان الأمل، ومزيدٌ من الثروة لعائلة الجوربار والعائلات التي تشبهها، والمزيد المزيد من الفقر لبرهوم ونجيب ومن يشبههما.
دقيقة صمت
مسلسل الفصول الأربعة قُدِّمَ لنا عبر خمسة وثلاثين حلقة في الجزء أول، وتسعة وثلاثين حلقة في الجزء الثاني، نتحدث هنا عن عمل ضمّ أربعاً وسبعين حلقة مختلفة، تفاوتت في الظرافة والغلاظة، إلا أن «الأسمج» من بينها على الإطلاق كان الحلقة الأخيرة من الجزء الثاني، التي كتبتها دلع ممدوح الرحبي. وهنا اسمحوا لي أن أقترح عليكم مشاهدتها، ولن أخبركم عن تفاصيلها سوى أن المشهد الأخير فيها كان أداءً استعراضياً من جميع أفراد العائلة للنشيد العربي السوري.
لسبب ما، لا أدركه، لم أكن قد شاهدت الحلقة المذكورة أعلاه إطلاقاً، أو أنها انمحت تماماً بكلّ تفاصيلها من ذاكرتي، وفي هذه المناسبة، أتقدّم بخالص الشكر لــ ذاكرتي على نسيانها؛ شاهدتُ الحلقة… انتهت… وانقضت دقيقة، دقيقتان، عشر دقائق من الصمت، فلا كلام يعبّر عما دار في رأسي حينها.
الحنين والرجوع للماضي، دون النظر إليه بعين ناقدة، هو رجوع ناقص، فعلى الرغم من الشوق لعيش بعضٍ من تفاصيله، ولقاء كثير من أناسه، والنظر في بعض صوره الواقعية منها والمتخيّلة، إلا أنه يحتاج منا أن نجرّده ونعرّيه من كل إسقاطاتنا ورؤانا، وهذا أمر بالغ الصعوبة، حتى أنني لا أعرف ما الذي كان يزعجني في حلقات المسلسل، هل لأنه يذكرني بعالم كامل قد انهار وتحطم، أم لأنه يفضح كذبة عن عالم مُتخيَّل لم يكن موجوداً أصلاً؟!
هنالك تساؤل كان ينخر في تلافيف دماغي مع كل حلقة كنت أشاهدها؛ «عن جد كيف كنا عايشين؟»، أيعقل أن ينسى المرء جزءاً من حياته وحياة أهله ومدينته؟ أيعقل أن يعتصر ذاكرته مراراً وتكراراً حتى يتذكّر تفاصيل يراها في صورة ما؟
ليس تساؤلي عن «كيفية عيشنا» في ذلك الوقت ناتجاً عن اعتقادي بأن من مهمات الدراما أن تقدّم صورة مطابقة للواقع، فالدراما الاجتماعية هي لَعبٌ في تلك المساحة بين المُتخيّل والواقع، لكن من المستحيل أن يحضر مسلسل كهذا أمامي اليوم، دون أن يدفعني إلى محاولة تذّكر حياتنا في ذلك الوقت و«كيف كنا عايشين».
لم تسعفني ذاكرتي في استعادة صورة واضحة، وقد تكون تلك لعبة ذكية من ذاكراتنا، أنها تنتقي، تتذكرّ وتنسى على هواها، بطريقة تبدو عشوائية، لكنها على الأرجح عكس ذلك.
مع الأسف، لم أعد أشتاق للماضي، ربما لأن صورته قد تحطمت تماماً؛ هنالك شيءٌ ما قد اختفى، شيءٌ يشبه الرائحة، يشبه أن يبحث الإنسان عن رائحة يعرفها، لكنه لا يشمّها ولا يعرف أن يصفها، وكل ما يدركه أن ضياعه يتوسّع وأنه عبثاً يحاول، ولا يجدها!
موقع الجمهورية