رمضان الثورة الأول.. إلى الميادين في دير الزور/ ورد فراتي
كسرت محافظتا دير الزور وحماة حاجز المليون متظاهر في شهر حزيران، فتحولت ساحاتهما إلى مهرجانات حرّية متواصلة، مع انكفاء الأجهزة الأمنية في مقراتها عاجزة عن مواجهة سيول السوريين الهاتفة للحرية، ليتّخذ نظام آل الأسد قراره بزجّ جيشه بطاقته الكاملة لاقتحام المحافظتين مطلع شهر رمضان الأول في الثورة السورية.
كان العام الدراسي 2010–2011 قد انقضى مؤذِناً بعودة الطلبة في جامعات خارج محافظاتهم إليها، ورغم خبر تحرُّك قطعات من جيش النظام لحصار دير الزور، إلا أن فرصة لقاء أهلي التي قد تتعذَّر لاحقاً دفعتني لمغادرة الشهباء إلى (مدينة الميادين) على ضفاف الفرات.
آنذاك لم أكن متيقّناً فيما لو كنتُ “مطلوباً” لأجهزة المخابرات رغم تأكيد صديق لي اطّلع فيما يبدو على لائحةٍ بأسماء “مخرِّبين” لدى فرع الأمن العسكري في حلب، لذلك سجّلتُ تذكرة “الباص” باسم صديق لي أعارَني “هوِيَّته” للسفر، فالصور في البطاقات الشخصية السورية نادراً ما تشبه صاحبها لرداءة التصوير وحداثة السنّ عند التسجيل للحصول عليها.
انطلقت بنا حافلة “نقليات الإيمان” من حلب شرقاً عبر محافظة الرقة باتجاه دير الزور مروراً بعشرات الحواجز العسكرية والأمنية، وكلّما اقتربنا من دير الزور كانت حركة السيارات على “الأتوستراد” تقِلّ تدريجياً حتى خَلَا الطريق تماماً إلا من حافلتنا اليتيمة، والتي بات سائقها يوقفها أكثر مما يحرّكها محاوِلاً إجراء اتصال في ظل انقطاع الشبكة، أو تبَيُّن ما يجري من خلال إطالة النظر إلى حيث يجب أن نتجه، فيقرِّر المضيّ قليلاً على حذر إلى أن يتوقف مرة أخرى مكرّراً الأمر ذاته، حتّى وصلنا إلى (دوّار الطّلائع) بعد فندق فرات الشام عند مدخل المدينة، لنتوقف تماماً هناك ذاهلين لرهبة المنظر..
طلعَتْ شمس الصباح ذاك اليوم على الدوّار الضخم الخالي تماماً من أي حياة.. انتبهت حينها إلى أثر المجنزرات على الطّريق قربنا وإلى حاويات القمامة المحروقة والمرصوفة لقطعه..
انتظرنا ساعة تقريباً حتى قَدِم شابّان على دراجة نارية تَطَوّعَا لمرافقتنا عبر شوارع آمنة داخل المدينة حتى مغادرتها باتجاه الميادين على بعد 45 كم في الجنوب الشرقي، لنتحرك معهما ضمن مدينة دير الزور التي بدت ساكنة بشكل مخيف..
كنا نسمع من حين إلى آخر أصوات إطلاق رصاص متقطع دون أن أرى على امتداد الشوارع التي تحركنا فيها داخل المدينة أي إنسيّ باستثناء الشابين على الدراجة النارية، وفي كل الطرقات تكرر مشهد أثر المجنزرات على الأسفلت مع إغلاق مداخل الشوارع الفرعية بعمود كهرباء أو حاوية قمامة أو برميل أو حتى أريكة منزلية!
عند مدخل دير الزور من طرف المطار شاهدت – للمرة الأولى في حياتي – دبابة تتموضع خلف ساتر ترابي مُعَدٍّ حديثاً، مُوجهّة سبطانَتها باتجاه المدينة التي خلّفناها وراءنا متجهين إلى الميادين، هناك أدركت – أيضاً للمرة الأولى – إلى أيّ حدّ يمكن لنظام الأسد أن يذهب في قمعه للثورة السورية.
في الميادين كان كل شيء طبيعيّاً بصورة غير طبيعيّة!
أعني هذه مدينة ثائرة تنتظر قدوم “جيش البلاد” لحصارها، ورغم ذلك كل شيء فيها يحدث كما اعتاد أن يحدث دائماً!
مركز المدينة “الجِّرداق” مزدحمٌ كعادته بعشرات “السرابيس” والدرّاجات الناريّة..
المحال التجارية كلها مفتوحة.. بل إنّ هناك كثافة توحي بنشاط اقتصادي ممتاز..
وأخي الذي كان ينتظرني عند نزولي يحدّثني بحماس عن حراك المدينة الثوري خلال الأشهر الماضية، وكيف أحرقوا الصورة “البانورامية” عند مدخل الميادين قرب مشفى الطب الحديث – التي لم ألحظها عند دخولنا المدينة – وخلعوا تمثال “حافظ الأسد” في ساحة البلدية، وكيف أطلق عليهم “الشبّيحة” الرصاص الحي من مبنى “الحزب الجديد” في الجمعة العظيمة (22 نيسان 2011).
كنتُ قد وصلتُ يوم الخميس إلى المدينة قبل دخول شهر رمضان بأيام قليلة، حيث انشغل ناشطو الميادين في تلك الليلة بالتحضير لمظاهرة الجمعة في اليوم التالي، والتي أطلقت عليها تنسيقيات الثورة اسم (صمتكم يقتلنا).
طالما كان ليوم الجمعة الصيفي في مدينة الميادين نكهة خاصة، فهو يوم العطلة الذي ينطلق فيه أهل المدينة إلى صلاة الجمعة مرتدين ثيابهم البيضاء “الكَلّابِيَّات” التي تكسِر حرارة الصيف الحارقة، متوزعين في مساجد المدينة الكثيرة التي تنتسِب إلى مآذنها تسمية المدينة بحسب إحدى الروايات، ثم إذا فَرغوا من الصّلاة توجّهوا إلى شاطئ نهر الفرات أو إلى “الْظْهَرَة”، وهو الاسم الذي يطلقه سكان المنطقة الشرقية على البادية الممتدّة إلى الجنوب والجنوب الغربي حتى حدود الأردن، لكن الثورة غيرت هذا اليوم بالنسبة للسوريين جميعهم كما فعلت في الميادين..
ما إِنْ سَلّمَ الإمام مُنهِياً صلاة الجمعة حتى صدَحت الأصوات بالتكبير في (جامع الغرب) القريب من منزلنا والذي يعدّ المسجد المركزي في مدينة الميادين، ليتجمّع الشبّان هاتفين أمام المسجد الذي انطلقنا منه إلى “الجّرداق” حيث احتشدت مظاهرات المدينة كلها بآلاف المتظاهرين، ومنها اتجهنا جنوباً عبر الطريق العام إلى ساحة البلدية..
كان الشباب المُلثّمُون يقودون المظاهرة عبر مضخِّمات صوتٍ حملوها في صندوق “طرِيزِينَة” (دراجة بثلاث عجلات مشهورة في مناطقَ سوريةٍ أخرى باسم “طرطورة” أو “حلفاوية”) كانت تسير بداية المظاهرة، أمّا في وسطها فقد حمل عشرات الشباب علماً كبيراً لسوريا باللون الأحمر الذي كُنّا حتى تلك الأيام نحمله رمزاً لوطنيّة ثورتنا قبل اعتماد علم الاستقلال، بينما أخرج بعض الأهالي من منازلهم على جانبي الطريق “خراطيمَ” الماء يرُشّونَه فوق رؤوسنا تخفيفاً من أثر شمس الصيف الملتهبة، أما في نهاية المظاهرة فقد سار رجال المدينة الأكبر سناً وشيوخها يردّدون بعض الهتافات معنا بينما يصرفون جلّ وقتهم في نقاش الأحداث الجارية ومآلات الأمور.
وصلت المظاهرة أمام ساحة البلدية هاتفة للمحافظات السورية الثائرة، وداعية لإسقاط النظام ومنددة بالصمت العربي حيال ما يجري في سوريا، ثم انفضّت على مراحل دون أيّ تواجد لشبيحة نظام الأسد أو أجهزته الأمنية.
دخل شهر رمضان المبارك على المدينة ليخرج أهلها يومياً بعد صلاة التراويح في مظاهرة مسائية، كما خرجوا في الجمع الثلاث التالية (الله معنا – لن نركع – بشائر النصر) في مظاهرات حاشدة رغم انتشار الأخبار عن قرب قدوم أرتال جيش الأسد، التي اقتحمت مدينة ديرالزور مرتكبة الجرائم ثم تحركت باتجاه أريافها..
أصرّ والدي على مغادرتي المدينة قبل دخول الجيش للالتحاق بجامعتي في حلب، والتي لم يكن يعلم أنِّي قد توقّفت عن ارتيادها للدراسة منذ شهر أيار متفرِّغاً تماماً للحراك الثوري في المدينة، فنزلتُ على رأيه إيماناً بأهمية الحراك في عاصمة البلاد الاقتصادية وعظيم أثره.
غادرتُ المدينة باتجاه (منطقة الجزيرة) على الضفة الأخرى للنهر بعد أن أغلق الطريق الرسمي إلى حلب عبر مدينة دير الزور على الضفة الجنوبية الغربية لنهر الفرات، ومنها تنقلت بأكثر من دراجة نارية و”سربيس” حتى مدينة الحسكة شمالاً والتي حجزتُ منها تذكرة حافلة إلى حلب.
أما مدينة الميادين فقد اقتحمها جيش نظام الأسد بالآليات الثقيلة نهاية شهر رمضان موقفاً مظاهراتها الحاشدة الضخمة، ومجبراً ثوارها على الانتقال إلى “المظاهرات الطيارة”، ودافعاً المحافظة الشرقية إلى التسلّح وتشكيل مجموعات الجيش السوري الحر التي حررت المنطقة كلها لاحقاً.
لكن تلك قصة أخرى..
تلفزيون سوريا