إرفينغ غوفمان في أول ظهور له بالعربية: الجندر وليس الدين هو أفيون الشعوب/ محمد تركي الربيعو
يُعدُّ عالم السوسيولوجيا الأمريكي إرفينغ غوفمان (1922 ـ 1982) من أهم الوجوه السوسيولوجية التي عرفتها مدرسة شيكاغو في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. بيد أنه رغم هذه الأهمية، ما يلفت النظر هو أن أعمال هذا السوسيولوجي لم تحظ بالترجمة مقارنة بمدارس أخرى، وقد يعود ذلك ربما لهيمنة بعض رواد السوسيولوجيا الفرنسية ،على أجندات المترجم العربي، في حين بقيت مدرسة شيكاغو ودراساتها حول المجتمع والفضاء الحضري لا تلقى اهتماماً كافياً، ربما إلى يومنا هذا.
إلا أنه رغم هذا التقصير في ترجمة وفهم أفكار المؤلف، ولاسيما مقاربته المسرحية للحياة اليومية، والقواعد التي ننظم بها تجربتنا، والتي تقترح أننا جميعاً ممثلون نحاول تقديم أداء جيد للأنوثة أو الذكورة، فقد حاول عدد من الباحثين الغربيين تطبيق مقاربات ودراسات غوفمان في تحليله لطقوس الذكورة داخل مدننا العربية. وكمثال، أشير هنا إلى دراسة الأنثروبولوجية الفرنسية أميلي لورنار حول حياة النساء في مدينة الرياض، إذ بقي غوفمان هو الدليل الذي تستعين به لورنار في سياق تحليلها لمفاوضات هؤلاء الفتيات اليومية حول قيم الأنوثة وإعادة تعريفها، وما هي الآليات التي يمارسها المجتمع (الذكور) في المقابل، والمفاهيم الاجتماعية التي يخلقها لمواجهة أساليب إعادة التعريف هذه، عبر التعامل معهن في أماكن العمل مثلاً بوصفهن غير سويات أو غير مؤهلات، وهذا ما يصبُّ في إعادة تمتين الأطر التي ترى أن الرجال أكثر كفاءة من النساء، الأمر الذي يراه غوفمان أساس نظرية «الانعكاس المؤسساتية» للجندر، التي تعني التلاعب ببيئة معينة، إذ تُضخّم الفروق البيولوجية بين الجنسين، من أجل تبرير اللامساواة بينهما. ورغم أن لورنار حاولت الزج بعدة لوفنغ لفهم الاستراتيجيات الذكورية في مدينة الرياض، للحفاظ على التمييز بين الجنسين، غير أنها تنبّهت بالمقابل إلى أن رؤية غوفمان حول معادلة النوع لا تسير بالأمر ذاته في حال حلّ الرجل الأجنبي (سائق السيارة) محل الرجل السعودي (المتفوق على المرأة السعودية، كما يصدّر ذلك القسم الأكبر منهم)، إذ نشهد انقلاباً في المعادلة، ليصبح هذا الرجل (الفقير/وغير المؤهل للزواج منهن/الغريب) خارج معادلة الذكورة/الأنوثة، لا بل أنه يصبح شخصاً غير موجود في الأساس، لكن رغم الإحساس بعدم الوجود، يبقى هذا الرجل من جانب آخر خاضعاً لمعادلة قيم الرجال؛ فطالما أنه غير موجود، لا بأس من اصطحابه للنساء بدون وجودهم، فهو بالأساس لا يُعدُّ ذكراً في عيونهم وعيون النساء، وبالتالي نغدو هنا أمام صورة مضاعفة أخرى من صور الذكورة ومواصفاتها في مجتمع مدينة الرياض. وهي صورة لا تنطبق وحسب على هذه المدينة، بل قد نجدها في مدن أخرى، كما هو حال الاحتفالات النبوية في دمشـــق، التي نُظِّمت مؤخراً في عدد من المطاعم، إذ لوحظ مثلاً أن هذه الاحتفالات ورغم اقتصارها على النساء، لكنها ضمّت في المقابل رجالاً (ندلاً للخدمة) بدون أن يثـــير ذلك حفيظتــــهن، فهؤلاء الندل بالأساس لا يصلحون كأزواج لفتيات دمشق من بـــنات العائلات التقليـــدية، ولذلك فهو للخدمة، وليس كذكر، وبالتالي لا تنطبق عليه معادلة غوفمان حول الذكورة والأنوثة في الفضاءات العامة.
وبالعودة إلى غوفمان وغياب ترجمات عربية لكتبه، فإن ما قد يبعث للسرور هو قيام الباحثة والمترجمة المغربية هدى كريملي مؤخراً بكسر حالة التجاهل هذه عبر ترجمتها لكتاب «البناء الاجتماعي للهوية الجنسية» (مؤمنون بلا حدود) وبمراجعة وتقديم السوسيولوجي المغربي حسن أحجيج، الذي يضم مقالين طويلين لغوفمان، الأول حول «ترتيبات الجنسين»، أما الثاني فهو يدور حول صور الإعلانات والجندر.
في مقاله الأول، يُفكّك غوفمان عدداً من البنى والسلوكيات الاجتماعية التي تساهم في استمرار حالة الشقاء التي تعاني منها النساء وفق تعبيره، وكمثال عن هذه السلوكيات، يدرس أساليب المغازلة والاستلطاف بين الرجال والنساء. فعلى صعيد المغازلة فإن الرجل عادة ما يمنح نفسه الحق بالقيام بهذا الأمر والتراجع عنه، وبالتالي يستلزم نظام المغازلة هنا أن تكون للجنسين وضعيتان مختلفتان بالنسبة إلى معايير الانجذاب الجنسي. من الواضح أن الرجل يكون هو المنجذب، بينما تكون المرأة هي الجاذبة. أما على صعيد الاستلطاف، يلاحظ غوفمان أن هذا النظام نابع بالأساس من وجهة نظر تقول بأن النساء كائنات ذات قيمة ثمينة، منعدمات التجربة، وغير متكيفات مع ما يتطلبه استعمال القوة العضلية. الشيء الذي يترتب عليه ضرورة تدخل الرجال بقصد مساعدتهن أو حمايتهن، حيثما تبين أن امرأة مهددة، أو معرضة للاعتداء، ينبغي حمايتها من مشاهد الدم والبشاعة، ومن العناكب والديدان، ومن الرياح والبرد، ويمكن لهذا التقاطع أن يمتد لينطبق على لقاءاتها بالبيروقراطيين والغرباء وموظفي الخدمة.
أما في المقال الثاني، فيحلّل غوفمان عدداً من الصور الإعلانية التجارية، ليظهر كيف تساهم في دعم التفاوت في المواقع الاجتماعية بين الرجال والنساء، وكيف تضفي عليها السمة الطبيعية. إن مهمة المُعلِن، كما يراها غوفمان، هي أن يبعث في المشاهد ميلاً إيجابياً نحو المنتج المعروض، إلا أن النقطة الأساسية التي يعالجها هي أن عمل المُعلِن، الذي يجب عليه أن يمشهد قيمة منتوجه، لا يختلف كثيراً عن مهمة مجتمع يطبع وضعياته الاجتماعية بالاحتفالي وبعلامات طقوسية، من هنا تغدو الإعلانات التجارية جزءاً من عالم الاحتفالي هذا، الذي يعكس من خلال صوره طبيعة العلاقة بين الذكور والإناث. إذ يرى غوفمان، من خلال تحليل ما يقارب الـ500 اعلان تجاري، أن معظم الإعلانات التجارية التي تعرض الرجال والنساء، تستحضر بطريقة صريحة إلى هذا الحد أو ذاك التقسيم والتراتب التقليديين بين الجنسين. فغالباً ما تظهر المرأة في موقع التابعة أو المساعدة، وفي المقابل، يُقدَّم الرجل، الذي ترمز قامته الأطول إلى المكانة الأعلى، في موقع الحامي الذي يتنوع حسب الرابط الاجتماعي، في حين تظهر المرأة في حافة الوضعية أو خلفه مختبئة خلف شيء ما، وفي إعلانات أخرى نعثر على المرأة وهي منفصلة عما يحيط بها (شاردة الذهن) بينما هي إلى جانب رجل، كما لو أن يقظة هذا الأخير، المستعد لمواجهة كل ما يمكن أن يحدث تكفيهما معاً. وهناك وضع التمدد، وهو أحد الأوضاع الذي تظهر فيه بعض النساء في الإعلانات التجارية، إذ يظهرن وكأنهن يعبرن عن استعداد لممارسة الجنس. وغالباً ما تُعرض النساء والأطفال ممدين أكثر من الرجال. وهكذا نجد أن مفعول هذه الإعلانات لا يقتصر على ترويج المبيعات وحسب، وإنما يساهم في دعم التراتبية بين النساء والرجال.
وما يخلص إليه غوفمان في كتابه هذا، أن الجندر هو أفيون الشعوب، وليس الدين. قد تُعتبر هذه الرؤية مبالغة بها، كما أن هناك من يرى أن مياهاً كثيرة قد جرت في واقع النساء العربيات، تتجاوز العديد من التحليلات التي يذكرها غوفمان. رغم ذلك لا يمكن نفي أن آراء ابن مدرسة شيكاغو قد أسّست لعدد من المفاهيم مثل طقس الأنوثة، أو نظرية الانعكاسية المؤسساتية، وغيرها من المفاهيم التي فكّكت أو تبقى قادرة على تفكيك الأشكال المختلفة من البنى والتصورات التي عادة ما تؤطّر من حجم الاختلافات بين الذكور والإناث على صعيد المسرح اليومي.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي