ماذا لو توقف العرب عاما واحدا عن الكتابة؟/ مفيد نجم
لم يكن الكاتب العربي محاصرا بالسؤال عن معنى الكتابة في أي وقت مضى كما هو الآن. تحديات كثيرة أصبحت تواجهه في زمن الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي والاستهلاك إلى جانب تراجع مستوى القراءة في ظل الآزمات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات لم تكن القراءة فيها أصلا قد تحولت إلى تقليد مجتمعي. إن هذا السؤال المشكل الذي يصر بعض الكتاب العرب على تجاهله حتى الآن، لا تقتصر تداعياته السلبية على مستوى القراءة بل تتعداها إلى قضية أشمل هي قضية الثقافة ووظيفتها التنويرية في المجتمع.
إن تجاهل هذا السؤال على مستوى الوعي الفردي للكاتب لا يمكنه إلغاء مفاعيل هذا السؤال حتى على المستوى الشخصي، طالما أن حظ أي كاتب من مبيعات كتابه في أحسن الأحول لا يتعدى الألف نسخة في بلاد يتجاوز عدد سكانها الثلاثمئة مليون إنسان. كثير من هؤلاء الكتاب يحاولون الهرب من محاولة الإجابة عن هذا السؤال إلى الأمام.غالبا ما يلجأ هذا الكاتب إلى العلاقات الشخصية مع بعض المؤسسات التعليمية أو الثقافية العربية لتسويق كتابه أثناء معارض الكتاب، أو إلى الدعاية الإعلامية له أو خلق معارك وهمية حوله، لكن جميع هذه الأساليب لا تقوده في أحسن الأحوال إلا إلى بيع المئات منه، وغالبا ما تكون طباعة الكتاب بتمويل شخصي من الكاتب نفسه.
لا شك أن هذا السؤال ينطوي على كم كبير من المرارة تتجاوز البعد الشخصي للكاتب إلى القيمة التي أصبح يحظى بها التأليف، والحوافز التي يمكن أن تدفع المؤلف إلى بذل سنوات من الجهد البحثي والعقلي لإنجاز هذا الكتاب. لذلك فإن خطورة هذا الوضع تتمثل قبل أي شيء في انعكاسها السلبي على حركة التأليف وتوليد الأفكار وتطور الثقافة العربية والقيمة المعرفية والجمالية للكتاب، لأنه ما من أحد يكتب لنفسه كما حاول أن يدعي بعض الشعراء الخائبين. كل كاتب يكتب لأن هناك رسالة لديه يريد أن تصل إلى الآخرين، ولأن هناك حاجة عند الكاتب باحثا أو روائيا أو شاعرا إلى القول، وهذا القول يفقد قيمته ما لم يصل إلى إنسان آخر ويكون هناك من يتفاعل معه سلبا أو إيجابا.
لم تكن الكتابة يوما من الأيام ترفا خاصا للكاتب بل هي رسالة تنبع من شعور بالمسؤولية والحاجة إلى التواصل والتشارك في الأفكار والإحساس والقيم، ما يجعل القارئ هو الطرف الآخر الذي لا بد من وجوده في هذه العلاقة. إن جدل العلاقة بين القارئ والكاتب والحاجة إلى استمرارها هو الذي يجعلنا اليوم نطرح هذا السؤال عن جدوى الكتابة في مجتمعات تواجه من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما تعجز عن وقف تداعياتها الكبيرة على وجودها وحياتها وتقدمها.
لن نتحدث عن الكتابة الشعرية بعد أن تحولت هذه الكتابة إلى مشاع لكل عابر طريق أو باحث عن لقب يدعيه. إن هؤلاء الكتاب يزعجهم كثيرا أن نطرح عليهم سؤال الجدوى من الكتابة، خاصة عندما نسألهم عن حجم مبيعات أي ديوان لهم أو عن عدد القراء المفترضين لهم. والحقيقة أن الوضع بالنسبة للرواية لم يعد أفضل حالا في ظل الهجمة الواسعة من قبل الكتاب والكاتبات العرب على خوض مغامرة كتابة الرواية. إن ما حظيت به الرواية من جوائز مادية مجزية ومن تغطية إعلامية واسعة عند الإعلان عن هذه الجوائز ساهم إلى حد كبير في تعميم هذا الهوس بكتابة الرواية. لكن وعلى الرغم من كل هذا وباستثناءات غير أدبية غالبا لبعض الكتاب أو الكاتبات فإن حجم مبيعات الرواية لا يختلف إلا قليلا عن مبيعات كتاب الشعر، دون أن ننسى أن الكتاب الشعري أو الروائي يتم طباعته على حساب صاحبه دون أن يفكر باسترداد هذا المبلغ المدفوع.
كثير من كتب الإبداع اليوم توزع على شكل هدايا وهذا مؤسف ومحبط في أمة اقرأ خاصة بعد أن تخلت مؤسسات الثقافة الرسمية عن دورها في تشجيع المؤلف وانتشار الكتاب وتعزيز القراءة، وتركت الكاتب وحيدا يواجه هذا الواقع بحثا عن فرصة نشر قد لا تتحقق فتظل أدراج مكتبه أو جهاز كمبيوتره يغصّ بمخطوطاته اليتيمة. وكثير من الكتاب أيضا لم يعودوا يفكرون في تلقي أي تعويضات مادية للجهد الفكري أو الإبداعي الذي بذلوه، وأصبح كل همهم أن لا تترك هذه المخطوطات ثاوية في أدراجهم دون أن تصل إلى القارئ المنشود.
إن ما يوجع الكاتب أكثر أن يبقى هذا السؤال يتردد دون أن يبحث الكتاب أنفسهم عن صيغ إبداعية لتجاوز هذا الواقع، تنقذ المؤلف والكتاب معا من هذا المأزق الذي أصبحا يعيشانه. لقد استغلت دور النشر الخاصة هذا الواقع الذي تحول معه الكاتب إلى الطرف الأضعف في معادلة النشر والقراءة، خاصة بعد أن ساهم البعض من الكتاب في إغراء هذه الدور بمواصلة فرض شروطها على سوق النشر.
تبيع الروائية التركية أليف شفاك أو الروائية التشيلية إيزابيل إيلندي من رواياتهما المترجمة أكثر مما يبيع أي روائي عربي، ما يجعل التحدي الذي يواجه الكاتب العربي لا يقتصر على ظروف النشر والقراءة بل يتعداها إلى مزاج القارئ العربي الذي يغريه الأدب المترجم، ولا يختلف الحال بالنسبة للكتاب الفكري العربي لأن ثمة انبهارا بثقافة الآخر ما زال هو الذي يحدد توجهات القارئ العربي.
السؤال الآن ما الذي يمكن أن يحدث لو توقف الكتاب والكاتبات العرب عن الكتابة عاما واحدا؟ أعتقد أن الجواب سيكون محبطا لأن شيئا ما لن يحدث وسينقضي العام كغيره من الأعوام دون أن يثير أي ضجة أو يترك فراغا من نوع ما في واقع الثقافة العربية الراهنة.
كاتب سوري
العرب