أدونيس وبنية الطغيان: أو في موقع المثقف الرجعيّ/ كريم محمد
بعد إلحاق الهزيمة بالثورات في العالم العربيّ بعد عام 2011، وظهور موجات جديدة من تيارات راديكاليّة إسلاميّة كداعش، انتعشت التأويلات الثقافويّة لظاهرة ما أسماه كثيرٌ من المحللين الغربيين والعرب بـ«العنف الإسلاميّ». كان الادّعاء بأنّ داعش تمثّل جوهر الفكر الإسلامويّ، وأنّ الإسلامويّة المعتدلة، مثل حركة الإخوان المسلمين، ليست سوى نسخة مخفّفة من داعش، ما إن تُمكَّن فستفعل ما تفعله.
كان بزوغ داعش ممهدًا لمشاريع في المنطقة العربيّة بخصوص «إصلاح الإسلام»، خاصة في مصر والإمارات والسعوديّة. وهو مشروع سياسيّ بالأساس قائم على الاقتناع بأنّ المشكلة تكمن في الثقافة، وأنّ داعش سحيقٌ إلى هذا الحدّ في الذاكرة الدينيّة للمسلمين، وبالتالي لا بدّ من خلق سياسات ذاكرة جديدة قائمة على الاستقرار والتسامح ونبذ العنف.
ورغم أنّ داعش لم يدم طويلًا، رغم كارثيّته، إلّا أن أشباحه ما تزال تخيّم على الذهنيّة المحلّلة لما يمكن تسميته بكثيرٍ من الاحتراز «المسألة الإسلاميّة» في العالم العربيّ. بيد أنّ هذا التعاطي الثقافويّ له جذورٌ ربّما أبعد من لحظتنا الراهنة بما تحمله من عنف، وبالتالي، مسايرةً لتعبير آلان باديو، «شرّنا يأتي مما هو أبعد من داعش»، فإنّ الثقافويّة تأتي مما هو أبعد من لحظة داعش بعينها. فرغم شيوع نقد الثقافويّة بعد ظاهرة داعش، إلّا أن هذا المنهج نفسه يسبق هذه الظاهرة، ويتعلق بتفسير الثقافة العربيّة وأزمتها، كما سأحاول أن أوضّح في المقال، معرّجًا في النهاية على نموذج المفكر والشاعر السوريّ أدونيس.
جذور الأزمة الثقافويّة
في نيسان 1974، اجتمع مثقفون عرب كِبار في الكويت للمشاركة في ندوة آنذاك، يناقشون فيها «أزمة التطوّر الحضاريّ في الوطن العربيّ»، جمعت الندوة عددًا كبيرًا من هؤلاء المثقفين، كأدونيس وأنور عبد الملك ومحمود أمين العالم وغيرهم، كما تمخّض عنها أبحاث عديدة لهؤلاء المثقفين الذين حاولوا الكشف عن «الغلط» الحاصل العائق أمام التطور الحضاريّ. وفي العام نفسه، نشر المفكّر الشيوعيّ اللبنانيّ مهدي عامل كتابه المهمّ «أزمة الثقافة العربيّة أم أزمة البرجوازيّات العربيّة؟» الذي جاء كتعليق طويل كتبه عامل على مُخرجات هذه الندوة، وهو التعليق الذي شكّل كتابًا مهمًّا، يمكننا القول إنّه كان سابقًا لأوانه في إدراك أزمة المثقفين العرب.
بعد نكسة حزيران 1967، كان هناك حسّ عامّ لدى المثقفين العرب (يمكن ذكر جورج طرابيشي هنا وعبد الله العروي وغيرهما الكثير) بالتوجّه نحو الانسلاخ عن الماضي النضاليّ والتحرريّ الماركسيّ، إلى توجّه أكثر لبرلةً، والعمل على نقد ما أسموه التراث، أو الذات العربيّة. فحسب طرابيشي، هناك جرحٌ نرجسيّ أصاب الوعي العربيّ بعد نكسة 67، كما في كتابه «من النهضة إلى الردّة».
كانت ملامح هذه الأزمة، التي سنصطلحُ عليها بـ«الأزمة الثقافويّة»، بادية للعيان. فقد وجدنا المفكّر السوري الراحل صادق جلال العظم قد أرجعَ النكسةَ إلى أسباب ثقافيّة، ودينيّة بالأحرى. ففي كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، نظّر العظم لفكرة أنّ المشكلة ليست في السياسة أو الطبيعة العسكريّة للأنظمة التي حاربت إسرائيل، بل تحديدًا في القيم الثقافيّة التي تستند عليها «الشخصيّة العربيّة الفهلويّة» -حسب تعبيره- من فروسيّة وشرف وكرامة ورجولة، ومن ثمّ فهي شخصية لا تعرف المسؤوليّة وتوكل الهزيمة إلى أسباب خارجيّة.
من حينها تمّ تكريس توجّه عام يقوم على نقد الذات قبل الآخر. «النقد الذاتيّ بعد الهزيمة» لم يكن مكرّسًا لبحث كيفيّة استئناف الذات العربيّة سياسيًا وعسكريًّا لهزيمة العدوّ الصهيونيّ والغرب الرأسماليّ المتحكّم، وإنما مكرّسًا نحو التوجه إلى الماضي السحيق، الثقافيّ، لأنفسنا. واندلعت شرارة مذّاك، ألا وهي شرارة نقد التراث، ونقد نقده. وتحوّلت المسائل السياسيّة إلى مسائل ثقافيّة. فبدلًا من القضاء على الاستبداد والاستعمار، مضى السبيلُ الثقافيّ العربيّ إلى القضاء على ما ظُنّ أنه قيد في سبيل تطوّرنا عن ركب حضاريّ غربيّ.
المفكّر السوريّ أدونيس، وبما أنّه هدفُ هذه المقالة، كان بالتحديد تمخّضًا لهذه المرحلة العثرة من تاريخ الثقافة العربيّة؛ تلك المرحلة التي اتجهت إلى النقد الذاتيّ، فنجمَت الأزمة الثقافويّة التي لم نخرج منها إلى يومنا هذا.
الثقافويّة: في المفهوم
تُولي المقاربة الثقافويّة (Culturalism) اهتمامًا بالغًا بالعامل الثقافيّ في تكوين الظواهر والبُنى الاجتماعيّة، بحيث إنّ الثقافويّة، كمنهج، تفترض أنّ ما يُشكّل ظاهرةً ما هو أصل ثقافيّ قد وفّر بنية معيّنة لهذه الظاهرة. وبهذا، تكون البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة لثقافةٍ ما، متمايزة عن بنى ثقافة أخرى، تمايزًا جوهريًّا. ليس هذا فحسب، بل إنّ ما يحدث في الواقع من ظواهر جديدة هي ليست جديدة، إنّما هي نمط جديد من إنتاج «الأصل» الثقافيّ المكوّن للبنية التي نشأت فيها هذه الظواهر الجديدة.
إنّ الثقافويّة، كما بين مهدي عامل، هي نمط من التحليلات البرجوازيّة الفوقيّة، التي تعبّر عن أزمة مروّجيها بقدر ما هي تفسير للظاهرة التي تدرسها. وذلك لأنّ المقاربة الثقافويّة بقدر ما هي تظنّ أنها تقترب من الظاهرة، فإنّها، حقيقةً، تتعالى عليها. إنّها لا تعتبرُ للظاهرة في ذاتها، إنّما تولي اهتمامها بـ«الأصل المنتِج»، فكلّ ما يحدث في الواقع لا يخرج عن «نسق» ثقافيّ محدّد يتحكّم، باطنًا، في إنتاج هذه الظواهر.
كما إنّ الثقافويّة تُغفِل مسألة الإنتاج وإعادة الإنتاج. فإنّ ما يُسمّى بكثير من الاحتراز «الأصول الثقافيّة» يُعاد إنتاجها وفقًا لوقائع وشروط جديدة. الأصل ليس ثابتًا ووحيدًا ونسقًا مغلقًا على نفسه. والممارسة تعيد إنتاجه لدرجة أنّه يحذر المرء من تعيين أصول بعينها بوصفها «أصولًا ثقافيّة» لثقافةٍ ما، نظرًا لإعادة الإنتاج التي تقوم بها الممارسات البشريّة داخل هذه الثقافة وفي أفقها. فافتراض صمت الأصول الثقافيّة افتراض خاطئ، وهو مضلّل للجمهور أيضًا. فليس أسهل على المرء من أن يقول إنّ ما تعانيه ثقافة ما هو كذا وكذا، وكأنّ الممارسات لا تفعل شيئًا.
وأيضًا، تلعب الشروط (conditions) دورًا هامًّا في الظاهرة، ربّما هو الدور الأهمّ في تشكيلها ووجودها الفعليّ. لأنّ الظاهرة ليست رأسيّة من «أصلٍ مُنتِج» إلى «واقع»، وإنّما هي أفقيّة تختلطُ بالجغرافيا والسياسة والاجتماع السائد. فليس المهمّ ما هو الأصل الثقافيّ، بقدر ما هو كيف يُعاش، ويعيد الناس إنتاجه، ويعرّفونه ضمن سياقاتٍ مختلفة.
تكتسب الأطروحات الثقافويّة قبولًا واسعًا في الفضاء البحثيّ العربي والعالمي اليوم، ليس فقط لأنّها تقدّم نفسها بوصفها «جذريّة» وتصل إلى «لبّ» الظواهر، ولكن أيضًا لأنّها أطروحات سريعة وتعرض نفسها في ثوبٍ منطقيّ، بحيث إنّ ظاهرةً ما هي امتداد لـ«جذر» ثقافيّ، والأخير يُنتج الأولى، وهكذا. فأصبحنا منذ نكسة 67 نتحدّث عن «حلول ثقافيّة» للعالَم الإسلاميّ مثلًا، وعن حاجتنا إلى أصول ثقافيّة جديدة للعقل الإسلاميّ، لأنّه عقلٌ عنيد لم يدخل في الحداثة، ليس فقط، بل يُنتج الإرهاب والعنف على المستوى المحلّي والعالميّ. وما العملُ على ما أصبحنا نسمّيه «التراث الإسلاميّ» سوى اشتغال ثقافويّ، نظنّ أنه هو الذي سيكشف عن عطب الواقع الذي نعيش، وعن كلّ هذا الفشل السياسيّ والأخلاقيّ الذي يعانيه عالمنا العربيّ والإسلاميّ اليوم.
وغالب ما يُنتج اليوم عن العرب والمسلمين، خاصّة بعد تفاقُم الظاهرة الجهاديّة المعولمة مع «داعش»، تشكّله أطروحات ثقافويّة. ليس ذلك فقط، بل أيضًا على المستوى السياسيّ الراهن اليوم، فبسبب الجهاديّة العالميّة الحالية، تُنتَج مقاربات ثقافويّة تُقدّم كخطط لأزمة المسلمين، كالإصلاح الدينيّ، وتنقية تراثهم من العنف، إلى آخر هذه «الوصفات» الثقافويّة، وليس فقط القوى الإمبرياليّة من تتبنّى هذا الخطاب، بل أيضًا قوى شتّى داخل العالم العربيّ والإسلام، بداية من الأنظمة وليس انتهاءً بالمؤسّسات الدينيّة «الرسميّة». وهو خطاب ثقافويّ تم استدخال العالم الإسلاميّ عليه، منذ عقود، وكُرّس رسميًا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، لتُنشَأ، من ثمّ، سرديّة «الحرب على الإرهاب» الكونيّة، التي تروّجها الدول الغربيّة ومعها الدول «التسلّطيّة».
عودةً إلى مهدي عامل الذي -كما أشرت- مثّل، بفضل ماركسيته الملتزمة، وعيًا سابقًا لأوانه لتلك الأزمة الثقافويّة التي دخلت الثقافة العربية في نفقها المظلم، حيث يوضّح عامل على مدار كتابه، وعلى طول تحليلاته لخطاب المثقفين العرب، كيف أنّ المثقفين العرب بجعلهم الأزمة حضاريّة/ ثقافيّة/ في بنية العقل كي يفهموا «الأزمة» هم، في واقع الأمر، قد تغافلوا عنها وغيّبوها ليقعوا في تحليلات ثقافويّة برجوازيّة، متناسين العلاقات الكولونياليّة القائمة. ويكشف كتاب عامل العمى الأيديولوجيّ المسيطر على رؤى المفكّرين العرب، حيث يجرّدون ثقافاتٍ بأكملها من أيّة علاقة واقعة وماديّة إلى روح عامّة يظنّون أن المشكل فيها، ومن ثمّ تغدو المشكلة «مشكلة حضارة».
أدونيس ثقافويًا
المفكّر والشاعر السوري، أدونيس، وفي ضوء الراهن العربيّ، كان واحدًا من الذين أدلوا بتصريحات بخصوص الثورات العربيّة منذ 2011 في مصر وتونس وسوريا، ناهيك عن دعوته في عام 2015 إلى «تأسيس جبهة علمانيّة تعيد قراءة الموروث» في معرض الكتاب بالقاهرة. وهي تصريحات ليست بالمفاجئة؛ لأنّ من يقرأ أدونيس، سواء على المستوى الثقافيّ وخاصّة في كتابه الأساس كـ«الثابت والمتحوّل» أو من خلال «مشروعه الشعريّ» -والشّعر معبّر جليّ عن الإنسان، ربّما بدرجة أكبر من الثقافة-، لا تفْجأه هذه الكلمات «العنصريّة» حقيقةً ضدّ المسلمين والعرب، وتاريخهم، بل وأصولهم بشكلٍ أساسيّ. منذ بدايات مشروعه، يعلن أدونيس أن أزمتنا أزمة ثقافيّة جذريّة، أزمة تتعلّق بنصوصنا المؤسّسة، وتاريخنا المبكّر الذي تشكّل بالعنف والسلطة والمال. «الإسلام سلطة»، هكذا يقول أدونيس، ومن ثمّ فهو «انتشرَ بالقتل»، وبتقسيم المجتمع الذي جاء فيه إلى قرشيين وأنصار للنبيّ وأصحابه، كما في حواره مع السفير العربيّ 2015.
حاول أدونيس منذ «الثابت والمتحوّل» أن يُثبت فرضيّة قطعيّة لديه، ومن ثمّ درس التراث العربيّ بناءً عليها، ألا وهي: هذه الثقافة العربيّة هي ثقافة اتّباعيّة متّبعة تكرّس للثابت، وتلغي الإبداع والمتحوّل وتهمّشه، وهذا ما أدّى بها لأن تكون ثقافة أصوليّة؛ بمعنى أنّها ثقافة متمركزة حول الثابت من نصوصها، وتعيد إنتاج الأصوليّة بشكلٍ متكرّر. وهي أطروحة سهلة. وبناءً على هذه القراءة المبسّطة راح يقرأ الفكر العربيّ القديم بوصفه أصوليًّا، فدخل في ثنائيات باردة من قبيل: ابن رشد (العقلانيّ) في مقابل ابن تيميّة (النصوصيّ)، وأبو العلاء المعرّي في مقابل أبي العتاهية.
إنّ كلّ ما يقوم به العرب المحدثون من إصلاحٍ ثقافيّ أو سياسيّ تحت مسمّى «النهضة»، هو في نظر أدونيس تغييبٌ للمشكل الأساس: الأصول. الأصول هي التي تقتل، وهي التي تقسّم المجتمعات، بل ليس هناك من «ديمقراطيّة ما دام الدين هو مرجع القيم»، كما صرّح علي أحمد سعيد، أو أدونيس بلغة الرّجل الأبيض. ومن ثمّ، فثورات العرب الأخيرة، التي خرجت على تاريخ طويل من استبداد أنظمة قمعيّة في مصر وتونس وسوريا محكوم عليها بالفشل، ليس لأنّها ثورات فاشلة أو مطالبها غير صحيحة، وإنّما لأنّها في نظر «الشاعر العربيّ» لا تمتلك مشروعًا، كما يقول بالنصّ في حواره مع السفير: «لكن المأخذ الأولي عليها هو خلوّها من أي مشروع يشكّل خطوة نحو التغيير. ليس تغيير السلطة، بل تغيير المجتمع، وتغيير الأفكار، وتغيير الثقافة. ولاحظنا أن وراء هذا الانفجار لم يكن هناك خطاب ثقافي تغييري، وأنّ الطابع العام لهذا الانفجار كان دينيًا. ولاحظنا أيضًا أنّ المشروع السياسي لهذا الانفجار هو مشروع عودة إلى أصول خانها الناس ويجب العودة إليها، وهي أصول دينية بشكل أو بآخر». أي إنّ أدونيس يرى أنّ الإشكال كلّه ثقافيّ، وأي ثورة سياسيّة دون تمهيد ثقافيّ بلعْن الأصول التي تقتلنا والقراءات المتراكمة للنصوص الدينيّة لن تنتج شيئًا.
يُنتج أدونيس على مسار كتبه وحواراته مقولات استشراقيّة مضاعفة عن الإسلام وتاريخه وعن المسلمين والعرب بعامّة، بلهجةٍ بغيضة وعنصريّة لا ترى لهؤلاء معنى دون تبعيّة للغرب الذي يحبّه أدونيس. ولا عجب أنّ أدونيس يمتلك كمًّا هائلًا من التصوّرات «الجوهرانيّة» عن الإسلام وما يتعلّق به، وعن التاريخ الإسلاميّ وكلّ الصراعات التي حدثت فيه، كيف لا «وطوال أربعة عشر قرن ولم يحقق العرب المواطنة»، كما يقول في الحوار نفسه. في حين أنّ الرومان عملوا ذلك في أرجاء الإمبراطوريّة المعمورة. وهو تصوّر يعني، من ضمن معانيه الكثيرة حقيقةً، أنّ هؤلاء العرب رعاع، وقوم قتلٍ وتخريب، بطبيعتهم التي جُبلوا عليها.
يفكّر المرء وهو يتابع حوارات أدونيس المطوّلة بعد الانتفاضات العربيّة، التي تكبَّر عليها، في أشخاصٍ كثر على هذه الشاكلة، ربّما ليس أدونيس بدايتهم ولا برنارد لويس نهايتهم. فلا أسهل وأيسر من التشخيص الثقافيّ لمعضلات العالَم العربيّ، والتي يمكن تعميمها على أيّ ثقافة وأيّ حضارة دون فارقٍ ولا مبرّر. فأدونيس، يعاني، فيما يعاني منه، من أوْربة ومرجعيّة ليبراليّة صارخة لا تُسائل نفسها، فضلًا عن أن تضع نفسها موضع الشكّ والتساؤل. «المواطنة»، «الديمقراطيّة»، «المساواة»، «حريّة المرأة» إلخ، هي كلمات المهمّ منها معناها العمليّ. فلا يهمّ التعاطي مع مفاهيم كهذه والتي يملأ بها أدونيس أوراقه، وفق ما تعنيه على مستواها المجرّد، إنّما بالأساس: كيف تشكّلت، وما تعنيه في عالم اليوم على مستوى العمليّ (البراكسيس)، وما تُدخله ضمن حيازته وما تُقصيه. إنّ هذه الكلمات التي يتغنّى بها هي التي تجعله يُنتج أحكامًا معياريّة وينشئ رؤى جوهرانيّة عن تاريخ طويل للإسلام والمسلمين والأصل الثقافيّ الذي يحرّكهم.
إنّ الحداثة هي عصرٌ مظفّر بالنسبة إلى أدونيس. هي عصر المواطنة، والمساواة، والديمقراطيّة. ومن ثمّ، فتاريخنا العربيّ الإسلامي هو تاريخ إنتاج الفاشيّات. داعش، كما يقول أدونيس، موجودة في صلب التاريخ الإسلاميّ، ولذلك لا ينبغي أن تثير استغرابنا. داعش هي ابنة الإسلام والمسلمين الفاشيين، وليست ابنة الاستعمار وحقوق الإنسان التي دخلت القوّات الأمريكيّة تحت مظلّتها. وهنا يظهر وجه من «لا تاريخانيّة» أدونيس؛ فهو لا يُسائل الواقع بما فيه، وبعلاقاته السياسيّة – الاقتصاديّة وفي ضوء الإمبرياليّة الغربية على المنطقة ودورها في تثبيت الديكتاتوريين العرب والأنظمة الرجعيّة، ومن ثم يفهم ظواهر كـ«داعش» وغيرها في ضوء فشل الدولة الوطنيّة والإمبرياليّة، إلخ، وإنما يجعلها ابنة الأصل، وكامنة في صلب تاريخنا. واللافت، أن كلام أدونيس، في هذا المقام، ليس سياسيًّا بالدرجة الأولى، إنه يحاول على نحو اختزاليّ و«لا تاريخيّ» وعنصريّ جدًّا أن يجعل «الأصل الإسلاميّ» أصلًا فاشيًّا وإرهابيًّا، بلغة استشراقيّة فجّة.
الأنظمة ليست خطرًا على المنطقة، الخطر هو الثورات التي خرجت من المسجد، لأنّها ليس لديها «مشروع مدنيّ علمانيّ»، بالنسبة لأدونيس. وما كنّا نظنّه مفخرة الثورات العربيّة، أي إنّها بلا مشروع أيديولوجيّ وحزبيّ أرثوذكسيّ، أصبح مذمّة عند أدونيس، وذلك لأنّها لا تُسائل الأصول. ففي نصّ كتبه أدونيس بعنوان «مقدّمة لفهرس سياسيّ آخر»، أشار أدونيس إلى أن الأوضاع بعد الربيع العربيّ مضت إلى خراب أكثر، لا أقل: البطالة والجوع والفقر وغيرها، كل ذلك صار أكثر. لكن أدونيس وهو يحكم هذا الحكم الصحيح لا يسائل السياسيّ ولا طبيعة الأنظمة التي قامت ضدّ هذه الحركات الاحتجاجيّة في العالم العربيّ، وبالتالي فهو يطرح نتيجة صحيحة بأسباب خاطئة، أو متعامية على أقل تقدير.
ورُغم أنّ أدونيس قد أيّد «الثورة الإيرانيّة» (1979م)، وهي ثورة خرجت فيها الجماهير محمّلة بقيم ثوريّة ذات مرجعيّة إسلاميّة، فإنّه يرفض الثورات العربيّة للسبب ذاته مع الفارق، الجليّ والواضح للعيان، أنّ الشعارات التي رُفعت من قبل ثوّار الخامس والعشرين من يناير وثوّار شارع بورقيبة وثوّار حلب وإدلب ودير الزور هي: «عيش، حريّة، عدالة اجتماعيّة» مع ملاحظة طبعًا أنّ هؤلاء الثوّار لم يكونوا على خلافٍ مع الدين، أو بمعنى آخر، لم تكن هذه ثورات ضدّ الدين، إنّما كانت ضدّ شيءٍ واحد بالتحديد: الاستبداد.
حدّدت الثورات العربيّة أزمتنا بالتحديد، وهي أزمة الاستبداد. ليس الاستبداد السياسيّ فحسب، وإنّما الاستبداد الرّمزيّ تمثّله نخبة كالتي ينتمي إليها أدونيس بشكلٍ أساسيّ. ومشاكلنا العربيّة هي مشاكل نبيلة وتستحقّ الدفاع والاستماتة في الذود عنها، إلّا أنّ المؤلم هو أنّ من يتكلّم بها، هم السبب فيها حقيقةً، ومنهم أدونيس، بكلّ أسف.
حبر