حلّة الإمبراطور: تأويل وتحليل/ أحمد عمر
هناك بطل مجهول في حكاية حلّة الإمبراطور الجديدة، فمعظم التفسيرات والتحليلات الحافّة بالحكاية تنصرف إلى الطفل وبراءته، وتُغفل بطل الحكاية المظلوم، وآن أوان إنصافه.
يبدأ التاريخ مع الإبرة والخيط وليس مع النار، وتنطلق حكاية البشرية على الأرض مع الكسوة، وحسب الروايات الإبراهيمية فإن آدم وحواء كانا عاريين، وإن ورقة التوت هي أول كساء اكتساه الإنسان، وفي تفاسير القرآن هي ورقة تين لأنها أكبر، والتين ثمر كريم بلا عجم، وكانت الكسوة تعويضاً عن الجنة، واللباس يلي الطعام في أولويات الحاجات البشرية، لكنه أدوم منها فعلاً واستخداماً، فالإنسان يأكل في دقائق، لكنه يعيش في الكسوة يومه كله، وكان اللباس من علامات السؤدد والسلطان. وفي السرديات الأدبية والروايات التاريخية والمتخيلة كان للكسوة سحرها، فنجد كسوة الريش في ألف ليلة وليلة التي تحوّل لابسها إلى طائر، وكسوة الخلافة وهي العباءة. وفي السرديات المعاصرة لا يطير السوبرمان إلا بعد ارتداء عباءته، وكذلك الوطواط لا يصير خفاشاً إلا بعباءة الخفاش، وسبايدرمان لا يصير عنكبوتاً إلا بجلد العنكبوت، وجاكي شان له بدلته السحرية في فيلم “ذا توكسيدو”، وكذلك الرجل الحديدي، الثوب جناح للطيران على الأرض: وفي القرآن الكريم:” يَابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا”. وكان أكثر ملوك العرب ولعاً بالأزياء هو معمر القذافي ويليه صدام حسين، واشتهر السيسي بحذائه الأنيق، أما الأسد الباطني فلم تكن تعنيه سوى السلطة الفعلية والمراسيم الكبرى والمسيرات، وكان يهوى تقليد الآلهة في الحضور والغياب. وتبيّن تجربة أحد التلفزيونات الغربية باختبار الناس في محنة المظهر قوتها وأثرها، وكان المخرج قد دسَّ على الناس مواطناً مسكيناً سيئ المظهر مثّل دور السقوط في الشارع من المرض فلم يأبه به أحد، بينما تداعى الناس لسقوط الرجل حسن الثياب، وكان المثال أبلغ مع الأطفال، فالطفل التائه سيئ المظهر طُرد من المقهى، أما الطفل حسن الظهر فقد تداعى له الناس بالسهر والحمى.
أمراء الخليج وملوكه لا يبدون كلفاً بالأزياء؛ وذلك لشدة التقاليد العربية، ولأن الإمارات والمشيخات أثبت من الجمهوريات حكماً، حتى إن مطرباً مثل محمد عبده ظهر مرة في مناسبة مرتدياً شورتاً قصيراً، فعوتب عتاباً شديداً وكأنه خائن أو مطبّع، ولا تزال ممالك الخليج قبلية الروابط والصلات، ولم تنهج مثل الجمهوريات العربية بارتداء مناهج مستوردة مثل الاشتراكية والرأسمالية والعلمانية، ولم يظهر لملوكها ولع بزي الكسوة العسكرية المسلّحة بالأوسمة والزينة والرتب والأزرار كما في الجمهوريات العربية، فالعسكري حارس، والشيخ الأمير المعاصر لا يحارب، فثمة من يحارب عنه.
خلب الزي العسكري لب الراقص الشهير مايكل جاكسون فلبسه من الأعلى وظل مدنياً من الأسفل. وتعدُّ العواصم الكبرى معارض للأزياء، وتعرض فيها عارضات أزياءً سحرية، تتحول به عارضات الأزياء إلى نجمات مثل نجوم السينما والفكر، وإلى لوحات تشكيلية حية، يمشين مشية تجمع بين مشية الطاووس وخبب الخيل وعرج الغراب وخفقان البطة وموج البحر أرخى سدوله علينا بأنواع الرغبات ليبتلي.
ملخص الحكاية بعد هذه المقدمة الطويلة، أن ملكاً كان يفرض الضرائب على رعيته من أجل إنفاقها على زينته وقصوره، حتى وفد على المملكة سائحان، وعلما أن الإمبراطور قد عمل مسابقة لتصميم زيّ يرتديه في عيد جلوسه على العرش، ورأيا أحوال الناس وما بهم من فقر وفاقة، فمكرا مكراً وقررا أن يصمما له زياً لم يسبق لأحد من العالمين، وأن يلقناه درساً في أصول الثواب والعقاب والاقتصاد غير السياسي، فأخذا شعار الصحة الشهير الذي يقول: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. فأعلنا أنهما خياطان يخيطان أثواباً زاهية لا يراها سوى الأصحاء، وتخفى على الحمقى. وبلغ الخبر الإمبراطور فدعاهما فلبيا الدعوة، وطلب منهما تلك الحلّة العجيبة، فوافقا وطلبا خيطاناً ذهبية ودرراً وجواهر ولآلئ، وغرفة للاعتكاف من أجل حياكة الحلّة، ولم يكونا قد اطّلعا على حكاية بنلوبي في الأوديسة.
تقول الحكاية: إن الزائرين النجيبين قضيا أجمل الأوقات وأسعدها وهما يأكلان ما لذَّ وطاب، ويتفرجان على برنامج “أراب غوت تالنت”، والإمبراطور يتحرّق شوقاً إلى رؤية حلّته الموعودة، فأوفد وزير الاستطلاع والرصد بعد شهر، فدخل عليهما وطلب رؤية الحلّة، ففتح أحدهما الخزانة الخاوية، ومثّل بيديه وكأنه يحمل حلّة من داخلها،وكأنه يؤدي نمرة في برنامج من غير كلام، ثم بسطها وعرضها على الوزير الذي لم ير شيئاً، وانهمك الثاني في وصف الحلّة، أكمامها وأردانها وأزرارها وتوشيتها الحمراء والزرقاء، وخيوطها الذهبية، ولأن الوزير لم يكن يريد أن يظهر بمظهر الأحمق المريض، هزّ رأسه وأبدى إعجابه بتلك المعجزة، وعاد للملك وأثنى على الحلّة.
أوفد الإمبراطور الوزراء واحداً تلو الآخر، وزير الثياب الداخلية، ووزير الثياب الخارجية، ووزير التموين والفلافل، ووزير التربية والتعليب، ووزير التعليم الواطي، ووزير الصحة والعلّة، ووزير الدفاع عن الإمبراطور، ووزير الهجوم على الرعية.. وكانوا جميعاً يثنون على الحلّة، حتى جاء يوم مناسبة الجلوس على صدر الشعب، فجاء الخياطان ومعهما الحلة في صندوق مذهّبٍ محروسين بالجند ماشيين على سجاد أحمر، وبلغا الإيوان وأخرجا الحلّة في هيبة ووقار، فشهق الوزراء الأصحاء من روعتها، ولم يكن أمام الإمبراطور سوى أن يخلع ثيابه ويلبس الحلّة، وكذلك فعل، وخرج على قومه في زينته الأصلية عارياً، وكان في الحفل ذلك الطفل المندسّ، فصاح صيحة أرخميدس وقال: الإمبراطور عار.
الفوائد من الحكاية:
أولى العبر هي عاقبة الغرور، وأن الخوف يدمّر الرجال والبلاد، ويعلّم الكذب.
العبرة الثانية هي أن الإنسان لا يتعلم سوى من التجربة، من كيسه كما في القول الشائع، وقد كلف عري الإمبراطور الخزينة كلها، لكنها أظهرت الإمبراطور عارياً، وتلك فائدة كبيرة، ونرى خسائر مصر من مياه النيل والجزر والأمن القومي، واستمتعنا بعري الرئيس، أما الأسد ولأن كسوته كانت ثخينة وفولاذية، فقد كلفت مالاً وأرضاً وبشراً، فقد خسرت سوريا أكثر، وهناك علامات على أن أوروبا وروسيا وإيران تصمم “للرجل الزرافة” حلّة جديدة.
الثالثة: إن اللصين بطلان همامان، ويستحقان الثناء والإعجاب لجرأتهما على تلك الفكرة، وهي بيع الوهم، لولا أنهما ضلّا في ما بعد، وقد علم كاتب السطور من مصادر شخصية أن الإمبراطور أعجب بهما وأرسل في طلبهما وعرض عليهما أن يكونا وزيرين في المملكة، الأول وزيراً للإعلام والكسوة الخارجية، والثاني وزيراً للداخلية. فقبلا بالوظيفة، وسترا الإمبراطور العريان بأن جعلا الشعب جائعاً، فانشغل بلقمته عن عورة الإمبراطور.
الرابعة: إن الشعوب العربية أدركت أن رؤساءها عراة، وتضحك في سرها، وبعضها يسخر في العلن، وقد تجاوز الشعب اللبناني السخرية إلى الشتم والسب، لأن بعض الزعماء لا يشعر بالعار من العري، لقد أمسى العار فضيلة ما دام السلاح والإعلام يستران العورة!
الخامسة والسادسة والسابعة: إن الحكاية حافلة بالإشارات واللمحات، منها التغريب، فاللصان وافدان، والثوب يعني الشرعية الشكلية في وجه، ويعني التجديد الخارجي في وجه آخر، ومنها استبدال العدل بالاستعراض، ومنها أنَّ الإمبراطور من عالم الحيوان الذي تفوق زينة ذكوره على الإناث على عكس عالم الإنسان.
المدن