بين الفقر وخطه/ سوسن جميل حسن
ليس الفقر واحدًا في كل أنحاء المعمورة، وليس واحدًا في كل مرحلة زمنية، فهو متغير بتغير أنماط الحياة البشرية، حتى إن البنك الدولي وضع تعريفًا للفقر مغايرًا عن تعريفه السابق الذي كان محدداً فيما مضى بأنه أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء أو الأسرة يوفر لهم مستوى معيشة ملائمة في بلد ما، وقد كان هذا الدخل يعادل دولارًا واحدًا للفرد حينها، ثم رفع القيمة إلى 1,25 دولار في العام 2008، وفي آخر تقرير فقد اعتمد على الرقم 1,90 دولار للفرد الواحد في اليوم.
لو نحينا موضوع الأرقام جانبًا وسألنا عن معنى خط الفقر، أو الفاصل بين أن يعيش المرء أو لا يعيش بالمعنى المجازي، فأسس العيش تعني أن يشعر الفرد بإنسانيته وبأن له حقوقًا يجب أن تتوفر وهذا من طبيعة الحياة الإنسانية وبدهياتها، منها المأكل والمسكن والملبس والتعليم والطبابة، وكل من هذه الأمور يجب أن تحقق الحد الأدنى المطلوب للعيش الإنساني، فإلى أي حد يمكن اعتبار أبناء الشعوب العربية، خاصة تلك الواقعة في دائرة الصراعات، يحققون تلك المعايير البسيطة؟
لم يعد خط الفقر الذي حددته جمعية الأمم المتحدة والبنك الدولي بحدود 1,90 دولار في اليوم مناسبًا لتقويم حياة السوريين
في سوريا مثلاً شرذمت الحرب الشعب السوري ووزعته على الجغرافيا القريبة والبعيدة، قسم كبير منهم يعيش في مخيمات اللجوء في الجوار وبعضهم في مخيمات على طريق الهجرة بعد أن علقوا في مناطق وانقطعت بهم تلك الطرق، وقسم آخر يعيش خارج المخيمات في الجوار إنما في ظروف عيش لا تحقق الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية لكن يمكن وصفها بأنها تسد الرمق وتقدم اللقمة معجونة بالقهر والذل، ومنهم من وصل إلى أوروبا حيث الدول الديموقراطية التي أسست مجتمعات مستقرة إلى حد ما تحاول أن تحد من التشرد والجوع وانعدام التعليم والطبابة فتؤمن عن طريق المساعدات الاجتماعية الحد المقبول ريثما يستطيع اللاجئ امتلاك أدوات الاندماج والقدرة على العمل. أما في الداخل السوري فالشعب موزع بين مناطق نفوذ مختلفة تديرها هيئات تتبع للجهة المسيطرة، والقسم الأكبر يعيش في مناطق النظام، حيث ما زالت هناك مؤسسات حكومية وأنظمة وقوانين كان معمول بها قبل الأزمة، بغض النظر عن الفساد والبيروقراطية ونهب المال المرصود للخدمات الاجتماعية والعامة، والمحسوبيات والإتجار بمقدرات الشعب، لكن الأزمة زادتها تفشيًا ولم يعد الأمر يقتصر على الفساد الحكومي والإداري وغيره مما كان موجودًا في القطاع العام والخاص، بل طال الفساد البنيان الاجتماعي ومنظومات القيم العامة وتلك التي كانت تتميز بها المناطق كل واحدة بالشكل الذي كان سائدًا لديها، فأصبح الفساد ديدن الحياة والمبرر دائمًا موجود ويقبع خلف السلوك، إنها الحرب التي أوصلت الناس إلى أن يلهثوا خلف القشة التي تنقذ من الغرق حتى لو سرقها الفرد من غريق آخر يحاول النجاة.
لم يعد خط الفقر الذي حددته جمعية الأمم المتحدة والبنك الدولي بحدود 1,90 دولار في اليوم مناسبًا لتقويم حياة السوريين، فإذا ما قارنا القيمة الشرائية لليرة السورية بما كانت عليه قبل الأزمة فإنها تردت أكثر من أربع عشرة مرة، قياسًا بالدولار الذي صار يتحكم بسعر الأعشاب البرية الصالحة للأكل التي لا تحتاج إلى كلفة زراعتها ورعايتها، فهي تتبع موسم الأمطار كالخبيزة والهندباء وغيرها، اليوم يقارب الدولار بالنسبة إلى الليرة 700 ليرة بينما كان قبل الأزمة يتراوح بين الخمس والأربعين والخمسين، أما الرواتب والأجور فبقيت كما هي ولم ترتفع، وبناء عليه فإن راتب الموظف من الدرجة الأولى لا يتعدى الستين دولارًا في الشهر، فإذا كان الأبوان يحملان شهادة جامعية ولديهما طفلان فإن الدخل في أحسن حالاته يقارب المائة وأربعين دولارًا، أي للفرد الواحد بحدود خمسة وثلاثين دولارًا في الشهر وليس في اليوم، فعن أي خط فقر يمكننا الحديث وأي حق من حقوق الحياة يمكن أن نزكيه ليكون الأهم؟ المأكل أم المسكن أم التعليم أم الطبابة؟ صحيح أن التعليم ما زال إلى اليوم مجانيًا في المدارس الحكومية، لكن مجانيته شكلية فموسم المدارس يأتي كل عام بعبء يثقل كاهل الأسر التي لا تستطيع تأمين متطلبات الدراسة، من لباس وقرطاسية وكتب، كذلك فإن المدارس الحكومية تعاني من تردي البنية التحتية ومن نخر العملية التربوية والتعليمية منذ عقود، وهذا بحث آخر، كما أن الصحيح أن المشافي العامة والمراكز الصحية التي تقدم الخدمات المجانية منتشرة في مجمل المناطق إنما تخضع لآليات الفساد نفسها التي تؤدي إلى هدر الميزانيات المرصودة وتراجع الخدمات المقدمة إلى الشريحة المستفيدة التي أصبحت واسعة جدًا في سنوات الحرب.
وإذا وضعنا معيارًا بالنسبة للمأكل، الراتب الغذائي الذي يجب أن يحصل عليه الفرد في طعامه، فكم من الشعب يمكن أن يشمله الإحصاء في وقت يعتبر الدخل المرصود للإنفاق بحدود دولار واحد يوميًا؟ الراتب الغذائي الذي لم يعد حديث أحد من المعنيين بالشأن العام أو الصحي للناس منذ زمن. أذكر أنني عندما كنت أدرس في كلية الطب، وكنا مجموعة من الشابات والشبان الحالمين، حاولنا أن نعمل إحصاءً ميدانيًا بأخذ عينات من المجتمع بطريقة عشوائية وسؤالها عن تفاصيل إنفاقها على الطعام، لنعرف ما هي نسبة الذين يحققون الراتب الغذائي في حياتهم، ولأننا كنا طلابًا في مراحل دراستنا الأولى في كلية الطب فقد لجأنا إلى بعض أساتذتنا ليساعدونا في هذه الدراسة، فماذا كانت ردة فعلهم؟ لقد أنبونا وأحبطونا، ومنهم من تصرف بأكثر من ذلك عندما طردنا من مكتبه أو عيادته. كان درسًا لنا حينها، وبدأنا نعرف أن لقمة العيش لا تنفصل عن السياسة، وأن على الشعب ازدراءها من دون التفكير في قيمتها لأن التفكير يعني أن الفرد وعى ذاته وهذه نقطة أولى في سلم البحث عن امتلاكها.
خط الفقر خط وهمي، خاصة بالنسبة إلى الشعوب التي تشبهنا، وعندما انتفض الشعب السوري لم يكن جائعًا، أو بالأحرى لم يكن لجوعه أنياب تعض
خط الفقر خط وهمي، خاصة بالنسبة إلى الشعوب التي تشبهنا، وعندما انتفض الشعب السوري لم يكن جائعًا، أو بالأحرى لم يكن لجوعه أنياب تعض، ولم يكن في غالبيته يعيش تحت خط الفقر، بل كانوا على حدوده، لكنه انتفض لكرامته التي كان من أسبابها أنه لم يكن لديه استقلال الإرادة والقرار حتى في ابتداع طرق عيشه. أما اليوم فإنه شعب بغالبيته تحت خط الفقر، وبغالبيته واقع تحت تهديد الجوع بعدما صار دخل الفرد للإنفاق لا يتعدى الدولار يوميًا، أي بثمن مائة غرام من لحم الضأن، أو مائة وخمسين من لحم العجل، أما السمك فصار من أحلام أبناء المدن الساحلية حتى.
إنما في الحقيقة هناك شريحة من الناس، لا يمكن تقدير عددهم، صاروا من حيتان المال، لا نستطيع أن نقول إن الأزمة لم تمر عليهم، بل مرت عليهم ومنحتهم فرصة الثراء فقلبت حياتهم وصاروا فوق حد التخمة، هؤلاء الذين يحتكرون المال ويعملون على امتلاك المستقبل باحتكار المشاريع كلها، بينما هم غير مؤهلين معرفيًا أو أخلاقيًا لأنهم أثروا على حساب دم الشعب وتاجروا بحياته، ولا يمتلكون أي مشروع وطني. هذا هو حال السوريين، بين الفقر وخطه.