تدجين السوريين بالفكاهة: “انت قدّ الدولة ولااا حيوان؟”/ عدنان نعوف
أينما توجّهتَ في صفحات الفايسبوك السوريّة (الموالية بالدرجة الأولى) سَتَجِدُ مَن يتفاعل مع ذلك الفيديو الذي تجاوز تأثيره العالم الافتراضي، وباتَ مصدراً لاقتباسات وإفيهات مُستخدَمة في الأحاديث اليومية أحياناً.
“شو الدولة امك خيت بيك”، و”بِضَيعتو ما اندفن” كانت بعض العناوين المستوحاة من هذا المقطع الذي لم يُعرَف تاريخه ومكان تصويره، واقتصر البعض على ذكْر معلومة أنه “لشابّ طرطوسيّ يَروي قصة شخص اعتقلهُ الأمن العسكري”.
في دُوَلٍ أخرى كان سَيُنظَر لتداول مقطع كهذا على أنه فعل عفوي، وبالتالي فمِنَ “السخافة” ربطه بلعبة مخابراتية لا وقائع حدَثيّة ملموسة فيها. لكن متى كان حديث الناس في “سوريا الأسد” خارج اهتمام “القيادة الحكيمة” أو على الأقل جنودها الالكترونيين؟ وتحديداً عندما يكون محور الاهتمام قصة “مضحكة” لسوريّ توفّي تحت التعذيب!.
وِفق هذا المنطق يُصبح تتبّع الأثر الذي يُحدِثه المحتوى المنتشر أجدى من تقصّي جذوره، خصوصاً في “مرحلة ما بعد الانتصار على الإرهاب” التي رسّخ فيها النظام السوري قواعد صارمة في الإعلام الرسمي والاجتماعي، وذلك عقب فترة من “الفوضى” كانت الساحة فيها متروكة لاجتهادات نسبية ومبادرات ذات بُعد نقدي لم تلبث أن انحسرت.
إذاً، فما يتسرّب من أي مصدر مجهول أو معلوم ليس بريئاً. هذا بالعموم. وفي حالة الفيديو هنا نحن أمام نموذج فريد رغم بدائيّته.
“انت قدّ الدولة ولااا حيوان؟” عبارة جاءت على لسان المواطن البسيط الذي ظهر في المقطع ليَروِي بلهجته العَلَويّة قصّة أحد الضباط الأمنيين المنتفعين حينَ جَحَدَ بـ “النعمة” وأساءَ للنظام كلامياً، فَتمّت تصفيته في أحد الأفرع الأمنية. المفارقة في هذه العبارة الاستفهامية الاستنكارية وما سبقها وتلاها أنها وإنْ جاءت بصيغة جديدة فهي تختزل العلاقة القديمة بين السوريّ ودولته منذ عهد حافظ الأسد.
وإلى جانب كونها تُعيد رسم حدود الخوف لدى مواطني “جمهورية التقديس” عبر تضخيم صورة “الدولة” كقوّة بطش وإيذاء، فإنها كذلك تذكّر جميع السوريين في الداخل والخارج بما نَسيوه ربما، وهو أنّ نظامهم “الانتقامي الحاقد” لا ينسى اثنين؛ من يتجرّأ عليه ومّن ينتفع منه. إذ يقول الشاب العلوي في الفيديو مستهجناً فعلة الضابط:”أي لشو لتطوّل لسانك؟..الدولة إذا بيكون الها معاك خمس ليرات بعد عشر سنين بدا تطالبك فيا”.
وبالإضافة لإعادة ترميم الصورة المُرعبة للنظام في عيون جمهوره، فإن ما يستحقّ التوقّف أيضاً هو فكرة “العَقد الاجتماعي الأسدي” أو الرابط الزبائني الاستثنائي، فوفقاً لهذا العَقد تكون الدولة -عُرفاً- بمَرَافقها وإمكانياتها باب ارتزاق للنافذين، وهي المُحترَمة في العَلَن والمنهوبة في السر بشكل مغطّى ومُتّفق عليه، بحيث تتيح للضابط أن “يعمّر فيلا ويركب سيارة” كما يقول الشاب.
لكن مِن أينَ لمقطع فيديو مجهول المصدر القدرة على الانتشار والتأثير؟
لا شكّ في أنّ فيديوهات من هذا النوع تحيا وتتمدّد ضمن شروط وسائل التواصل الاجتماعي، وعدا عن ذلك فإن خلوّ الساحة السوريّة حالياً من الأعمال الكوميدية الانتقادية (الاحترافية والهَاوية) يفسح المجال لاحتلالها من قبل شخصيات عابرة تشغَل الدَّور الذي كان يؤديه فنانون سوريّون مثل دريد لحّام؛ الأداة الأشهر لتفريغ المكبوتات السياسية عند الناس.
فضلاً عن ذلك فإن أي مُنتَج فُكاهي عَلَويّ (يحمِل ملامح تلك البيئة الاجتماعية) هو محتوى مضمون النتائج بطريقة تفوق ما يَصدُر عن البيئات الأخرى ذات الخصوصيات الثقافية كالبدوية!. ولو بدا أن هذا التوصيف -بالنسبة لغير السوريين- فيه شيئاً من التطييف والتجنّي الهويّاتي، فهو غير كذلك في حقيقة الأمر، لأن الحديث هنا عن التعاطي مع الصورة الذهنيّة النمطيّة بعيداً من تجلياتها الواقعيّة ومدى التطابق بينهما.
ولِفَهم هذه النقطة ما علينا سوى الرجوع لفيديوهات وعبارات مماثلة لحيدرة سليمان؛ ابن سفير النظام السابق في الأردن، أو للمغني علي الديك. فما يجمع هؤلاء من مغمورين أو مشاهير أنهم يكرّسون سرديّة واحدة لـ “ابن الضيعة” الذي ينشر الضحكة حين يَنطِق بأمور غاية في الجديّة.
ورغم الإقرار بحجم التوظيف والتسييس الذي أصاب صورة العلويّ من قِبل النظام والمعارضة على السواء (مع اختلاف الأهداف)، فإنّ ما ينبغي الإشارة إليه هنا بلا مواربة هو أنّ امتزاج المجتمعي بالسلطوي لدى العلويين تاريخياً، والتراكم القهري المدفون في وجدان الفئات السورية الأخرى، جَعلَ منَ التهكم على “طائفة الرئيس” فعلاً انتصارياً حِسيّاً. وهي نقطة إضافية تفسّر كيف أن “أيّ كلام عفوي علوي هو كوميدي سَلفاً في عيون الكثير من السوريين”.
على هذا الأساس استطاع فيديو الشاب الطرطوسي اليوم أن يجتاح أحاديث السوريين متسلّحاً بفكاهة تمنحهُ إمكانية العبور بسرعة، وإيصال رسائل تضبط المسافة بين الجمهور والنظام، دون الحاجة للجديّة التلقينيّة، وإنما برَسمِ ضحكة على الوجوه، فليسَ هناك أفضل من الابتسامة كأسلوب لـ “التربية” وهندسة السلوك في ظروف معينة.
وبدلاً مِن النظريات الجافة لرأس النظام بشار الأسد، أو “النهفات الفلسفية” لسهيل الحسن، أو الآراء محدودة الأثر لفنانين كزهير رمضان وبشار اسماعيل في ملفات معينة، يأتي الهامشيّون ليُثبِّتوا في اللاوعي السوري فكرة “الدولة”؛ تلك التي تستمدّ هيبتها من غُموضها وعدم قابليتها للتعريف النهائي. فمِنَ المحتمل أن تتَجسّد جزئياً في حكومة، أو أجهزة مخابرات، أو موظفين صغار. المُهمّ أنّ لا حضوراً واقعياً مُكتملاً يماثل أو يُترجم سَطوَتها المعنوية والنفسيّة. تماماً كما “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش).
المدن