ثلاثة أسئلة عن العدالة والمساءلة/ وائل السواح
على مدى الأسبوعين الفائتين، تنقّلتُ بين أربع مدن وثلاث دول، إستنبول، باريس، بوردو، ولاهاي. في كلّ مدينة عقدتُ ندوة لإطلاق كتاب جديد كنت أحد القائمين على نشره، بعنوان “القائمة السوداء”.
القائمة السوداء كتاب يستعرض جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا، مع أمثلة موثقّة وأرقام دقيقة تبيّن نوعها وحجمها. ثمّ يعرض لكلّ الاحتمالات الممكنة لجلب الأشخاص الذين ارتكبوا أو أمروا بارتكاب هذه الجرائم إلى العدالة. وبعد ذلك يعرض الكتاب لسيرة أكثر من تسعين رجلا من أكبر المسؤولين الذين ارتكبوا تلك الجرائم، مع توثيق كامل لسجلّهم الحافل بالجرائم التي تؤدي كلّ واحدة منها إلى المحكمة.
ومع تغيّر الجمهور من سوري وتركي وفرنسي وهولندي، بقيتْ الأسئلة التي تمّ توجيهها إليّ واحدة تقريبا. من بين هذه الأسئلة، ثمّة ثلاثة كانت تلحّ على الحضور المشاركين في الندوات الأربعة.
السؤال الأول كان حول ما إذا كان ثمّة صلة بين توقيت نشر الكتاب وما يجري حولنا الآن من محاولات لإعادة تأهيل بشار الأسد ليظلّ على رأس النظام في المرحلة المقبلة، من خلال فرض حلّ سياسي وكتابة دستور جديد وإجراء انتخابات ستكون نتيجتها على الأرجح فوز الدكتاتور من جديد، بسبب الخوف والقمع وتشتّت السوريين في كلّ أصقاع الأرض.
واقع الحال أن المنظمة التي أشرفت على تأليف ونشر “القائمة السوداء” كانت تعمل طوال عام كامل على هذا المشروع، وبالتالي قد لا يكون توقيت نشر الكتاب مقصودا بحدّ ذاته، ولكنّ الرسالة التي يريد الكتاب توجيهها إلى السوريين أولا وإلى العالم ثانيا قد تكون أشدّ ما تكون وضوحا الآن، مع انعقاد اللجنة الدستورية في الأسابيع الماضية في جنيف وما رشح عنها من أمور غير مشجّعة على الإطلاق في ظلّ تصلّب نظام الأسد ورفضه تقديم أي تنازل حقيقي من أجل التوصل إلى حلّ سياسي حقيقي.
الرسالة التي يريد كتاب القائمة السوداء إيصالها هي أن الحلّ السوري – رغم كونه المطلب الرئيسي لكلّ السوريين – لا يمكن أن يقوم على أساس “عفا الله عمّا سلف”. فقد أثبتت هذه السياسة فشلها في التاريخ المعاصر في كلّ مرّة استخدمت فيها. ولعلّ من بين الأمثلة الماثلة في أذهاننا، الحلّ التلفيقي الذي فُرض على شعب البوسنة والهرسك (دايتون) وذك الذي فُرض على اللبنانيين (الطائف) وفرض الأمر الواقع على العراقيين بالقوّة والإرهاب. في كلّ واحد من هذه الأمثلة، كان الفشل ذريعا، ونحن نحصد الآن نتائج فرض تلك الحلول في لبنان والعراق.
السوريون عموما يرحّبون بحلّ سياسي، ولكنه الحلّ الذي ينقل سوريا من حال إلى حال. من الاستبداد والقمع والتجويع والفساد والخوف إلى سوريا ديمقراطية لجميع مواطنيها، تكون العدالة والمساواة التامة وسيادة القانون هي البوصلة التي تقود سلوك الحاكم والمحكوم، سوريا يقوم الحكم فيها على أساس غير قومي ولا طائفي، ويكون سبيلها تداول السلطة وحرية التعبير.
ولكن، من جانب آخر، لا يمكن أن يقوم الحلّ السياسي بعيدا عن مبدأ المساءلة. إن الكمّ المريع الذي ارتُكب من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية لا يمكن التغافل عنه، وبالتالي، فلا بدّ أن يكون المدخل الرئيسي للحلّ السياسي تحقيق العدالة من خلال مساءلة كبار الجناة الذين ارتكبوا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا. وبينما ندرك أن تطبيق العدالة قد يكون مستحيلا على كلّ من ارتكب جريمة، فإن من المرفوض تقديم بعض كباش الفداء ممن ارتكبوا الجرائم الصغيرة، ولا بدّ من تقديم الأشخاص الذين يقبعون على قمّة الهرم السياسي للعدالة لأنهم هم الذين أمروا بارتكاب الجرائم أولا، ولأنهم كان بإمكانهم منعها، ولكنهم لم يفعلوا. وباختصار إن أي حلّ سياسي لا تكون العدالة مبدأه لن يكون حلا مستداما، وسيرفضه غالبية السوريين.
السؤال الثاني الذي تكرّر في كل مكان من الأمكنة الأربعة كان “لماذا التركيز على رجال النظام فحسب وإهمال كبار الجناة من الأطراف الأخرى؟”. والحقيقة أن كتاب القائمة السوداء هو أول مرحلة من ثلاث مراحل نحن بصدد العمل عليها. المرحلة الثانية ستكون قائمة بأسماء رجال الأعمال الذين ساندوا القتل والجريمة بشكل مباشر من خلال تشكيل ميلشيات إجرامية وقيادتها، أو غير مباشر من خلال تقديم الدعم المالي لتلك الميليشيات. وسيتمّ العمل على نشر المرحلة الثانية قريبا جدا قبل الشروع بنشر المرحلة الثالثة وهي الأشخاص الذين ارتكبوا أو أمروا بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من المحسوبين على المعارضة السورية.
إن النظر إلى قضية العدالة لا يمكن أن يكون إلا بعينين اثنتين، ولا يمكن رؤية طرف واحد من المجرمين وإهمال الطرف الآخر. ومع ذلك كان علينا أن نبدأ بمجرمي النظام، لأن الأخير هو المسؤول عن أكثر من تسعين في المئة من الانتهاكات التي وقعت في سوريا في الأعوام التسعة الفائتة، وفق أكثر المصادر مصداقية من المنظمات السورية والدولية التي وثّقت تلك الجرائم.
السؤال الثالث الذي واجهته هو “ثمّ ماذا الآن؟ هل سيأتي نشر هذا الكتاب في هذا الوقت بأي نتيجة قريبا؟” ليس لدينا أوهام فيما يتعلّق بهذا الجانب. فنحن نعرف أن تحقيق العدالة أمر مرهون بإرادة دولية، وهي غير متوفّرة الآن. ولكننا ندرك أيضا أن من واجبنا أن نعمل كلّ جهدنا لإبقاء مسألة المحاسبة موضوعة على الطاولة، وليس في الدروج أو سلّات المهملات. إن العالم لن يكون مهتما بمبدأ المحاسبة إن لم نكن نحن مهتمين به أساسا. وحين يتراخى السوريون في هذا الجانب، سيجد العالم لنفسه المبرّر ليعيد علاقاته مع النظام الفاشي في دمشق، ويوافق على حلّ يضع بعض المساحيق على الوجه القبيح للأسد ويؤهله لفترة (أو فترات) رئاسية جديدة.
ونحن نرى بعض هذه المحاولات الآن، ولعلّ آخرها دعوة عضو البرلمان الهولندي عن الحزب المسيحي الديمقراطي في هولندا مارتين فان هيلفرت الحكومةَ الهولنديّة إلى تنحية اعتراضاتها الأخلاقيّة على الدكتاتور السوري بشّار الأسد والبدء بمحادثات معه لمحاكمة مقاتلي داعش الهولنديين في سوريا نفسها. باعتبار أن هذا هو الحلّ الوحيد لجعل محاكمتهم في المنطقة ممكنة. حين سنتوقف نحن عن المطالبة بإبقاء مسألة العدالة أولا، سيقوى موقف النائب هيلفرت وأمثاله، وسنتراجع نحن، ولن يكون ثمّة حدّ لتقهقرنا.
بروكار برس