مختارات لوديع سعادة
استعادة شخص ذائب
هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصًا تحدثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب!
ولا أحاول الآن النظرَ إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب.
كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!
قطرةً قطرة ينزل الموتى على بابي
ومركبٌ يتوقف من أجلي تحت الشمس
وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلى الرمل.
لم أرتجف. لكني جُننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشتُ قليلاً. ثم جُننت.
على سطح البحيرة ورقة، كانت عينًا. على الضفَّة غصن، كان ضلعًا بشريًا.
أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون. أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.
لكن مرَّ كثيرون من هنا، جمعوا ورقًا وحطبًا ليشعلوا مواقدهم.
لن يتمَّ أبدًا جمْعُ شخص. لن يتمَّ جمع أعضاء كاملة. كثير منها احترق.
مع ذلك لا بدَّ من أن أعيد شخصًا كنت أحبّه. على الأحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم. عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء. لو كانوا أمواتًا. لو كانوا طحلبًا… على الطحلب أن يصير إنسانًا حين تستدعيه. ويأتي لو مبلَّلاً، لو مترهّلاً، لو عفنًا. عليه أن يعود صديقًا ولو مات منذ ألف عام.
يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع الناس عن الضفاف. طريقة لإعادة الأوراق والأغصان الطافية على البحيرات، بشرًا.
لم أرتجف. الأعضاء ارتجفت. وكان عليَّ أن أسدَّ الفراغ بين مفاصلها كي أوقف ارتجافاتها وتهدأ.
ولكن، كم طويلةٌ المسافةُ بين مفصلين! وكم أحتاجُ إلى ردم لسدّ الفراغ بينهما!
كم هي طويلة المسافة بين ضلع وضلع!
أجري بطيئًا، مثل آخر نقطة ماء نزلتْ، وتأخرتْ عن السيل.
أجري بطيئًا زاحفًا للالتحاق بالجريان، وأتبخَّر رويدًا رويدًا.
لن أصل. بعضي سيصير في الفضاء. وبعضي سيغرق في الأرض.
تأخرتُ عن رفاقي ولن أصل. أزحف لكني لن أصل.
قطَعٌ مني أفقدها، وقطعٌ ترافقني منهَكَة، وقطع تصير هباء.
حتى إذا وصلتُ، أيُّ شيء مني سيصل؟!
حولي عشب وحصى وتراب. طيرٌ ينقدُ بعضي. ونملٌ يأكل بعضي. وبعضي للعشب والحصى والتراب.
أجري بطيئًا وفوقي يصعد خيطٌ مني، وتحتي ينزل خيط مني. أجري بطيئًا بين إبرتين، تخيطان عدمي.
نزلتُ آخرَ نقطة. كنتُ في غيمة ونزلتُ. هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذائب؟ أم أني، من كثرة البحث عن ذوبانه، ذبتُ مثله؟
وصرتُ، عوض أن أبحث عنه، أبحث عني!
أرى على الطريق أشخاصًا عابرين. بعضُ ما بقي مني يرى أشخاصًا. هؤلاء، على الأرجح، لم يفقدوا شخصًا أحبُّوه. أم أنهم فقدوه، ومع ذلك يكملون الطريق؟!
لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصًا نحبُّه. ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟ ألم تكن النزهة كلها من أجله؟ ألم يكن هو النزهة؟
كيف يمشي واحدٌ إذا فقد شخصًا! أنا، حين فقدت شخصًا، توقفت. كان هو الماشي وأنا تابعه. كنت الماشي فيه.و حين توقَّف، لم تعُدْ لي قدمان.
تأخرتُ وزاحفٌ وأتبخَّر. كيف إذن سأُعيد شخصًا ذاب؟ أليس عليَّ بالأحرى أن أعيد أولاً نفسي؟ أن أعود على الأقل قطرةَ ماء كاملة، تنزل على ورقة، على عين، على ضلعٍ على ضفَّة؟
أليس عليَّ، لكي أُخرج من الطحلب شخصًا، أن أكون على الأقل من ماء البحيرة؟
تأخرتُ ولن أصل. كلُّ ما أفعله أني أرى، أرى من بعيد. رؤيةٌ مشوَّشة من عين شيء لا هو غيمة، ولا هو ماء، ولا جماد ولا بخار.
إني، إذن، لا أرى.
كلُّ هذا مجرَّد خيال. عتمةٌ تستجدي عتمة. ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد شخصًا ولن أعيده…
إني، فقط، أحاول أن أزحف. أحاول أن ألحق برفاقي.
لكنهم صاروا بعيدين، بعيدين جدًا.
ربما كنتُ في الماضي شخصًا يبحث عن شخص ذابَ أو ربما كنت أنا الذائب. الآن، حتى ولا قطرة. وفي تماهيَّ المرعب بين الماء والبخار والشخص، أبحثُ عن إسمٍ أعرّفُ به نفسي حين ألتقي النمل والعشب والطير. أنت الزاحف مثلي، ستتوقَّف حتمًا على نتوء. ارسلْ لي من هناك نداء، وبه سأسمّي نفسي.
متماه بين ماء وجماد وبخار. مع ذلك لي مفاصل!
ومفاصلي بينها فراغات. ترتطم المياهُ بها، ترتطم الرياح بها، ويرتطم الناس.
ناسٌ كثيرون يعبرون الآن بين مفاصلي. لا أعرف من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون. لكنهم يرتطمون بعظامي.
ناسٌ التقيتُهم مرَّة، ناسٌ التقيتُهم مرات، وناس لم ألتقِهم… لكنهم يتدفَّقون الآن، ويدقُّون على عظامي.
عليَّ أن أفتح هذه العظام لكي يدخلوا.
لو كانت هذه العظام بابًا!
من أين جاؤوا؟!
أظنُّ أن الذين ننظر إليهم يدخلون في أجسادنا عَبْرَ عيوننا ويصيرون دمًا و لحمًا.
وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا.
… ونستمرُّ، هكذا، نسمع طَرقات على عظامنا.
إني أسمع الآن دقَّات ماء
وعليَّ أن أفتح.
——————————
بسبب غيمة على الأرجح
ظلال
زحلوا نحوَ الماءِ
منحدرين من جبالهم ظلالاً ناعمةً
لئلاَّ يوقظوا العُشب.
خيالاتُهم حينَ مرَّتْ على الحقولِ
فارقَهُمْ بعضُها ونامَ هناك
وخيالاتٌ تشبَّثَتْ بالصخورِ وانمغطَتْ
وأعادتْهم إليها.
زحلوا حتَّى وصلوا
إلى الماءِ مُنهكين
وفوقَهم كانتِ الشمسُ تبحثُ عن إبرةٍ
لتُعيدَ وَصْلَهُم بالظلال.
نظرة
يتركونَ عيونَهُمْ و يمشون
متَّكئينَ على نظراتٍ قديمة
مُسجّىً على أجسادهم صمتٌ
مُسجَّاةٌ نسائمُ موتى
أرواحُ أمكنةٍ أُبيدَتْ
وفي بالهم إذا مرَّ غيمٌ
ينزِلُ المطرُ على حقولهم البعيدة.
يمشونَ
وحينَ يتعبون يفرشون نظرةً
وينامون.
زنابق
لم يكن الموتُ يرقص في الساحاتِ وَحْدَها
بل قُرْبَ الزهور
قرب عُرْفِ الديكِ وفمِ السمكِ والحَبَق
ويمشي مع ماءِ العَيْن
إلى طاولاتهم.
كان الموتُ يرقصُ
وفي الساحاتِ كانوا
يمتزجونَ بالأسفلتِ
والمُنْحَنُونَ على الزهورِ تحمِلُهُمْ
الطلَقاتُ إلى فوق
ويصيرونَ في الفضاءِ
زنابقَ.
الموتى نيام
كانوا عراةً
ولهم أولادٌ
يدغدغونَ شَعرَهُم في المساء
وينامون
كانوا عراةً و بسطاءَ
يعرَقونَ طوالَ النهارِ مُبْتَسِمينَ
وفي عودتهم يقفون أمام الواجهات
يقيسونَ بأنظارهم ثيابًا لأولادهم
ويمشون.
كانوا يتقدَّمون خطوتيْنِ ويلمِسونَ
قبلَ نسمةِ الفجرِ جذوعَ الشجر
وتحتَ نظراتهم تُثْمِرُ غصونٌ
في ثلجِ كانونَ الثاني
وكانت مناجلُهم تحنُّ إلى الحقول
والهواءُ بينَ القُرى مُتأهِّبًا دائمًا لندائهم
حينَ فجاةً تحوَّلَ قمحُهُم إلى ضلوعٍ
وصارَ النسيمُ عُشبًا ينمو على أجسادهم.
كانوا عراةً
وكانتِ الشمسُ كُلَّ مساء
ترُدُّ غِطاءَها الحريريَّ الخفيف
على أرواحهم.
الموت، فجرًا
يفتحونَ أبوابَهم قبلَ أن تطلعَ الشمسُ
يفتحون الدَّرفتيْنِ
لتدخلَ الشمسُ كلُّها.
النسيمُ في الفجرِ
سَقيُ الزهورِ في الفجر
حُبُّ الحياةِ فجرًا،
وفجرًا
دخلَ شعاعٌ
من بين خشبِ الباب
وصنعَ زيحًا أبيضَ
على رموشٍ مغلقة.
زيارة ليلية
كانوا يُخْبرونَ أطفالَهم حكايات
عن الملاكِ الحارسِ والزرْع
والبلبلِ الذي جاءَ هذا الصباح
وغنَّى في شجرةِ التوت، على شبَّاكهم
يُخبرونهم عن عِنَبٍ
سيبيعونه و يشترون
لهم ثيابًا جديدة
عن كنزٍ
يكون غدًا تحتَ وسادتهم إذا ناموا،
لكنَّهُم وَصَلُوا
قطعوا الحكاياتِ
تركوا بقعًا حمراءَ على الجدار
وخَرَجوا.
صيادون
قبلَ أنْ يُسْقِطوا بعضَهُم بعضًا تدرَّبُوا
سنواتٍ طويلةً
على صَيْدِ الحِجالِ
على رَمْي الحصى في الفضاء
ونَقْشِها بالرصاص
تدرَّبُوا على نَتْفِ الجوانحِ
وجَعْلِها مكانس
وحاولوا في سواعدِهم
زَرْعَ ريشٍ
ليصيروا طيورًا
وتساقطوا
مثلَ الطيورْ.
سماء سرية
وَجَدُوهُ
يدُهُ زرقاءُ ومُنْبَسِطَة
كجناحِ وَرْوارٍ
وفمُهُ مفتوحٌ قليلاً
كأنَّهُ كانَ يريدُ
أن يغنِّي.
شيء على العتبة
كان ميِّتًا لكنَّهُ كان
يُحِسُّ أناملَهُم على جبهتِهِ
أسْبَلوهُ وسطَ الدار
على فراشٍ استأجروهُ وكانَ
يُحِبُّ أن يشتري مثلَهُ،
أسبَلوهُ وألبسوهُ ثيابًا
رأى مثلها في واجهاتِ المدينة
وحينَ حملوه
تركَ وهو يغادرُ البيتَ
شيئًا غريبًا على العتبة
وكانوا كُلَّما دخلوا
يرتجفونَ ولا يعرفونَ السبب.
ورقة
حَمَلوه صامتِين
وتركوهُ هناك، في الساحةِ
في حَقْلِ الصُّلبانِ والشواهد
في الساحةِ الفسيحةِ مع رفاقِهِ
النائمين.
قال: “سأعودُ،
المفتاحُ تحتَ أصيصِ الزهور”
وورقةٌ منها كانت
لا تزال في يدِه.
عائد
استلقَى
نصفُهُ تحتَ السقف
ونصفُهُ تحتَ السماء.
تحلَّقَ حولَهُ كثيرونَ
اليومَ عاد
جاؤوا به مُلَوَّنًا بالدمِ والتراب
أسْبَلُوهُ على الشرفةِ
وكانت نقاطُ ماء
تنزلُ من غيمةٍ
على قدميه.
كلمات
الكلماتُ التي قالَها
على المقاعدِ، في الخزانةِ، على الأسِرَّةِ، والجدار
جلَبُوا خادمةً نظَّفَتِ البيتَ
نظَّفَتِ الأثاثَ والأواني والحجارة
جلَبُوا طِلاءً
جلَبوا أصواتًا جديدةً
وظلُّوا يسمعونَها.
غياب
ذاكَ النهار
تحتَ سنديانةِ الساحة
ظَلَّ فقط مقعدان حجريّان فارغيْن،
كانا صامِتَيْن
ينظران إلى بعضهما
ويَدْمَعان.
شجرة
مَشَى خطوتيْن ولمسَ
نبتةً زرعَها البارحةَ
خرجَ نَسْغٌ من يديه إلى عروقِها
خرجَتْ من عينيه أوراقٌ إلى غصونها
وحينَ أرادَ العودة
لم يَبْرَحْ مكانَهُ،
كانت قدماهُ تحوَّلَتا
جذورًا.
رحيل
لمسَ بابَ البيتِ وخرج
تاركًا على القِفْلِ بعضَ أنفاسِهِ
رآهُما ينظرانِ إليه:
القفلُ الذي كان يحبسُ خلفَهُ عُوَاءَ الليل
والبابُ الذي كان الصباحُ
يطلعُ من شقوقِهِ،
رآهُما يتحلَّلان ويعودان
يباسًا على الطريقِ وكتلةً صدِئَة
ورأى الحيطانَ ترجعُ إلى الجبالِ
أحجارًا وحيدةً وحزينة
والمَحْدَلَةَ على السطحِ تعودُ
صخرةً في غابةٍ بعيدة
والسقفَ الذي يَدْمَعُ دمعتيْن في الشتاء
يهطلُ مثلَ جُرْفٍ يائس.
لمسَ بابَ البيتِ ورحلَ
تاركًا زهرةً في فتحةِ القفل
وفوقَ السطحِ غيمةً
من نظراتِهِ.
إذا
آخرُ ما رآه
هِرَّةٌ ودَّعَتْهُ على البابِ
الذي أقفلَهُ ثُمَّ عادَ
وفتحَهُ
ليدخلَ الجيرانُ كالعادة
إذا جاؤوا.
ذاك النهار
حينَ كانوا يَجْرُفُونَ حجارةَ بيتِهِ
لم يكن له أنْ يَنقُلَ حتَّى أعضاءَهُ وذكرياتِهِ من رُكامِها
الركامُ ذاكَ، كانَ حياتَهُ
وارتطمَتْ حياتُهُ به
في جُرْفِ ذاكَ النهار
مراراً.
كانوا يجرفونَ أيَّامَهُ كما يجرفونَ الثلوج
وناسٌ و حقولٌ تذوبُ
في عينيه ويَدمعها
نقطةً نقطة
على أغراضِ البيتِ، على المِعْوَلِ، على خابيةِ الزيْت
وعلى جرَّةِ الماءِ التي ملأَها هذا الصباحَ وكانَ
سيسقيهم ماءً باردًا.
رفاق
جلسَ على الشرفةِ
مُحاولاً أنْ يصافحَ أصابعَ ريحٍ
تَلْهو بشَعْرِهِ،
قالَ: يدٌ
حينَ هزَّتْ الريحُ الوردةَ
حينَ ابرقَتِ السماءُ قالَ: نظرةٌ
وقالَ لا بُدَّ بسمة
افلتَتْ من ثغرٍ ذاتَ يومٍ في الهواء
وقد تَصِلُ الآنَ
وتجلسُ معي.
جلسَ على الشرفةِ
مُحاولاً أن يستعيدَ وجوهًا
ليملأَ حواليهِ
المقاعدَ الفارغة.
قال
قالَ كانتا شبيهتيْنِ: الحَبَقَةُ في الركنِ،
وأمُّهُ
ما كانَ الناسُ يُمَيِّزُونَ بينهما
لونَ صباحَ الخيرِ لأمِّهِ
تردُّ الحبقةُ
يقولونَ للحبقةِ
تردُّ أمُّهُ
وقال: ما كلُّ الذي كانَ في يديها عروقٌ
بل شُرُوشٌ من نباتِها
وكانت راحتاها ورقتيْن
عيناها زهرتيْن
وحينَ تمرُّ في الحيِّ تفوحُ
كلُّ الحقولِ من ثيابِها.
وقال كانا توأميْن: والدُهُ و الشجرة
يُلقي ذراعَهُ عليها
وتُلقي غصنَها عليه
تخضرُّ حينَ تراهُ
وتصفرُّ حينَ يمرضُ
وإذا ضربتْها الريحُ
تُصيبُهُ رجفة.
قالَ ومشى
صَوْبَ البابِ
لفَّ سيكارةً
ومضى.
حياة
كانَ، تقريبًا، يبدِّدُ الوقتَ
رسمَ إناءً
رسمَ زهرةً في الإناء
وطلعَ عطرٌ من الورقة،
رسمَ كوبَ ماء
شربَ رشفةً
وسقى الزهرة،
رسمَ غرفةً
وضعَ في الغرفةِ سريرًا
ونام
… وحينَ استفاقَ
رسمَ بحرًا
بحرًا عميقًا
وغَرِقَ.
وجهه
رسمَ وجهَهُ ورآه
يشبهُ وجهًا آخرَ
أضافَ خطوطًا وملامحَ
أضافَ تعرُّجاتٍ
ساحاتٍ
طُرُقاتٍ
… مزَّقَ الورقةَ
واختفى.
أسماء الموتى
أسبلَ أصابعَ يدِهِ وعدَّ أسماءَ موتاه
وعدَّ أصابعَ يدِهِ الأخرى
أضافَ عددَ الألوانِ حواليه
غصونَ الشجرةِ أمامَ البيت
نباتَ الدربِ
أوراقَ الغابة
… وقبلَ أن ينامَ
أضافَ اسمَه.
غريق
رفعَ يدَهُ
كأنَّهُ كانَ يريدُ
أنْ يقولَ كلمة.
معهم
تركوا في الساحةِ ندىً من قُراهُمْ
واختفوا وراءَ الجبلِ،
ورقَ خَسٍّ، نقاطَ زيتٍ، ريشَ دجاج
ونسائمَ تباطأَتْ
من ظلالِهِمْ.
حملوا غلالَهُمْ من الجبال
فلشوها على الأسفلت
باعوُها
وعادوا،
والريشُ الذي تركوهُ في الساحةِ طار
وعادَ معهم.
أمي
وضعَتْ آخرَ نقطةِ ماءٍ في دَلْوِها على الحَبَقَة
ونامت قُرْبَها
عبَرَ القمرُ وجاءتِ الشمس
وظلَّتْ نائمةً
الذين كانوا يسمعونَ صوتَها كُلَّ صباح
لفنجانِ قهوةٍ
لم يسمعوا صوتَها
نادوها من سُطَيْحاتِهِمْ، نادوها من الحقولِ
لم يسمعوا صوتَها
وحينَ جاؤوا
كانت نقطةُ ماءٍ لا تزالُ
تَرْشَحُ من يدِها وتزحفُ
إلى الحبقة.
أبي
قبلَ أنْ يصيرَ وجهُهُُ غابةً
مَرَّ شجرٌ كثيرٌ على يديه،
كانَ كالدروبِ التي
يَقْعُدُ على سُلَّمِهِ وينظرُ إليها
كحجارةِ بيتِهِ التي ظنُّوا أنَّها ستميلُ
ورقيقًا كعُشْبٍ وأيضًا
كالبواشِقِ المهاجرة.
لم يَقُلْ شيئًا قبلَ أنْ تحوَّلَ
وجهه غابةً
فقط شجراتٌ قليلةٌ منها صارتْ بيضاءَ
حينَ الثلجُ على الجبلِ المُقابلِ كان يرحل
وشجراتٌ مَدَّتْ جذورَها وطلع
دَغْلٌ صغيرٌ من ترابِهِ.
بيننا
نجلسُ صامتِينَ حالمِينَ طافحِينَ
بأفكارٍ تُصَفِّقُ كأوراقِ اللَّوْزِ بيننا
نُفكِّكُ أعضاءَنا ونصفُّها واحدًا واحدًا على الطاولةِ
العيونَ في الوَسَط
الأصابعَ على الحافَّة
القلوبَ خَدَمًا يتجوَّلُونَ بيننا
ونستضيفُ أحلامًا تدخلُ من الأبوابِ
وأحلامًا من ثقوبِ الجدار
ونُعِدُّ مأدبةً لضيوفٍ
يتدفَّقونَ عائدينَ
من الموتِ إلينا.
كانَ بيننا، ذاتَ يومٍ، قَسَمٌ ألاَّ نفترِقَ
شرَّعْنا الأبوابَ والنوافذَ
دَعَوْنا الجيرانَ والمارَّةَ والنسيمَ
ورطوبةَ العُشْبِ كي تدخلَ
وتتدفَّأَ عندنا،
كانَ بيننا قلبُ لَوْزٍ
اقتسمناهُ على الطريق
ودخلْنا.
ذكرى صياد سمك
وَصَلْنا إلى البحرِ سُكارى
مُزَوَّدِينَ بخيالاتِ سُفُنٍ وسمك
وارتمينا على الصخرةِ التي
قبلَ يومين
صرعوا رفيقنا عليها.
كُنَّا صامتِين
ثُمَّ فَلَشْنا أكياسَنا
ورميْنا الصنانيرَ
رميناها على عَجَلٍ حتَّى أنَّ بعضَها
نسيناهُ بلا طُعْمٍ وأخرجنا سمكًا
اختلطَتْ دماؤهُ بخيطِ دمٍ
مُسْبَلٍ منذُ تلكَ الليلةِ بين الصخرةِ والبحرِ
يصطادُ السمك.
كُنَّا سُكارى
وقفْنا على الصخرةِ التي صَرَعوا رفيقَنا عليها
اصطدْنا سمكًا
وغنَّيْنا.
مكان الوردة
تقريبًا مع الليلِ وصَلْنا
وأنزَلْنا أغراضَنا أمامَ الباب،
تقريبًا أمامَ بيتِنا
أمامَ ذكرى حجارةٍ
وماء،
أنزَلْنا أغراضَنا
شَمَمْنا مكانَ الوردةِ
ونِمْنا.
وجهة
تَبِعَتْنا الحِبالُ في اتِّجاهِ البحرِ، مع غسيلٍ نَسِيْناهُ
منشورًا عليها
وكَبا منَّا رفاقٌ
بينَ شجرِ التِّينِ
كَبا رفاقٌ بينَ العَتَبَةِ والبابِ، وتحتَ الرفوف
مشيْنا وترَكْنا
على الحِبالِ ثيابًا
وعلى الجدرانِ قِطَعًا كانت لأجسادِنا
وحينَ دخَلْنا البحرَ
نبتَتْ لبعضِنا حراشِفُ
وبعضُنا تشبَّثَ بالصخورِ
وصارَ صَدَفًا.
بقع زيت
لم نُوقِظِ النسائمَ النائمةَ
فقط مشيْنا
يُرافِقُنا مِلْحُ الفجر
وأصواتُ الكلاب،
ترَكْنا جُزَرًا بكاملِها هناك
وفَحْمَ ملائكةٍ في الأقبيةِ وجذوعًا مكسورةً لآلهةٍ
وأبديَّةً ثكلى،
بُقَعُ زيتٍ مَشَتْ معنا على ثيابِنا
وشَحْمُ أحلام
وكانَ في قلوبِ بعضِنا عرباتٌ مُخَلَّعَةٌ
ومواشٍ نافقةٌ،
رافقتنا أصواتُ الكلابِ حتَّى غِبْنا
وعلى الدروبِ، تحتَ أقدامِنا
اكتشفنا نوعًا نادرًا
من الأنين.
هَايْ، أنتَ
ها أنا الآنَ وَصَلْتُ
جديدًا طازجًا مثلَ فاكهةٍ لم تَسْمَعْ بها
اعْطِني سيكارة،
معي حكاياتٌ غريبة
عن ملوكٍ ومعارِكَ ومزهريَّات
عن شعوبٍ اكتشفَتْها الرياحُ بالصُّدْفَة
وأسماكِ أرواح
على الرمالِ
حكاياتٌ لكَ أنتَ وَحْدَكْ
اعطِني سيكارة،
ومعي أيضًا تلالٌ من السنواتِ
أريدُ أن أبيعَها
تلالٌ مُشْرِفَةٌ على محيطاتٍ
يرقصُ فيها الحيتانُ
مع الغَرْقَى
مُشْرِفَةٌ على خُلْجانٍ يمكنُ فيها بناءُ منتجعاتٍ
لأعمارٍ أخرى، جميلةٍ
تلالٌ، تلالٌ
إدْفَعْ ما شئتَ
وخُذْها.
لم نُوقِظِ النائمِينَ ولم نَقُلْ كلمةً
فقط سمِعْنا الكلماتِ الأخيرةَ للأبوابِ
التي كانت تئزُّ عند دخولنا وخروجنا
ومشيْنا
تركْنا صُوَرًا على الحائطِ
رائحةَ زيتونٍ في الزاويةِ
أعضاءَ حكاياتٍ على المناشِرِ مَشْكُوكةً مع التبغِ
ورأسَكَ يا رياض الذي صار
نيازِك.
مُقَطَّعِينَ مُخَلَّعِينَ واثبينَ
على عُكَّازاتٍ في الشوارعِ
نَصِلُ بأعضاءٍ ناقصةٍ حيثُ نذهبُ وحينَ نغادرُ
نتركُ بعضَ أعضاءٍ
لنا عيونٌ وأقدامٌ
لا تزالُ هناك
لذلكَ، حينَ نمشي، لا تشعرُ الدروبُ بنا
وإذا انهمرَ مطرٌ تكونُ في مكانٍ آخر
تَدْمَعُ عيونٌ
اعطني سيكارة
من الدُّخانِ تُولَدُ الآلهة
تُولَدُ الكنوزُ والسماواتُ والبهاءُ،
شوقي صديقي
لكنَّهُ بعدَ قليلٍ سيصيرُ سِكَّةَ حديد
أريدُ فقط قبلَ ذلكَ أن أشربَ سيكارةً معه
كلُّ قطاراتِ سِيدْني تمرُّ في رأسِهِ عَبْرَ “سيدنهام”
وهو على وشك أن ينفجرَ اعطني سيكارةً،
وخضْرُ الذي رمى بندقيَّتَهُ في الجبالِ ونَزَلَ
صارَ رسالةً بلا عنوان
ينقلونَهُ من بريدٍ إلى بريد
ولا يَصِل،
من الدُّخانِ تُولَدُ الطريقُ
تُولَدُ العناوينُ و البيوتُ
وأصحابُها
من الدُّخانُ يُولَدُ اللهُ هاتِ
سيكارةً
سأُرْسِلُ لكَ حينَ أعودُ هِضابًا من التبغِ عن مناشِرِنا
سلالَ فاكهةٍ وبَيْضٍ
من دجاجاتٍ نُرَبِّيها على حُبوبِ أحلامٍ
وتبيضُ كنوزًا سأُرْسِلُ لكَ بعضَها أيضًا
وذاتَ يومٍ اخترَعْنا
عروقًا للصمتِ
مشَيْنا نَشُكُّها في أجسادِ الدروبِ
مشَيْنا في هواءٍ قارصٍ لِنُبَكِّلَ أزرارَ الطُّرُقِ
وكانَ لَحْمُ صدورِها يرتجفُ
أمامَ عيونِنا
رأينا تحتَ الجسورِ أحشاءَ حياةٍ
وشظايا عيونٍ
تبحثُ عن نظراتِها
إسْمَعْ، رأينا الحياةَ
ترتجفُ تحتَ شجرةٍ
وهَمَّ بعضُنا أنْ يخلعَ قميصَهُ
ويُغطِّيها،
مشَيْنا بصدورٍ عاريةٍ وكانَ الهواءُ
صديقَنا
يأتينا بزهورٍ
ويلعبُ بشَعْرِنا
كانَ الهواءُ يحملُ لنا نظراتٍ
ضيَّعَها أصحابُها
وهُمْ يحدِّقونَ في الشفق.
معنا أساورُ معنا شوارعُ معنا ظلال
معنا هواءٌ و قَصَب
وفي حقائبِنا حفيفُ صُوَرٍ وضمَّاداتُ حنين
وعُكَّازاتُ أصواتٍ تركضُ من جبلٍ إلى جبل،
مَشَيْنا
وكانت ورقةُ لوزٍ أمامَ الباب
نظرْنا إليها
وتابَعْنا.
أنيسُ بعينيه الغَيْمَتَيْنِ فوقَ سهلِ برتقال
بعروقِ أصابعِهِ الماضيةِ نَحْوَ أن تصيرَ
أقلامًا ناشفةً
وبقمحِ أحلام
يَنْقُدُها طيرٌ عن فمِهِ،
وغَسَّانُ بعُودٍ عزَفَ عليهِ كُلَّ الطريق
حتَّى صارَتِ الشوارعُ أوتارَه.
لم يكن عندنا غيرُ
رائحةِ تبغٍ وزيتونٍ
حمَلْناها على ثيابِنا ومضَيْنا
مَشَيْنا خفيفينَ
لئلاَّ نُزْعِجَ ندى الطريقِ
ولم نَحْنِ غُصْنًا
لم نُوقِظِ النسيمَ
لم نُوَدِّعِ الأصدقاءَ لم نَقُلْ كلمة
فقط
مَشَيْنا.
——————–
لحظات ميِّتة
1
إختفى الشعاعُ فجأةً. أعتقدُ أنَّ غيمةً تعبرُ فوقَ البيت. أشعَّةُ الشمسِ تختفي فقط لسببيْن: إمَّا يحْجُبُها الغيمُ أو يكونُ الوقتُ ليلاً. وبما أنَّ الآنَ صباح، الأرجحُ أنَّ غيمةً تعبرُ.
رُبَّما قريبًا ستُمْطِرُ. حينئذٍ أستطيعُ من نافذتي أن أتأمَّلَ المطر. الحياةُ جميلةٌ إلى درجةِ أنَّ الواحدَ يستطيعُ، إذا ساعدَتْهُ الظروفُ، أنْ يتأمَّلَ المطر. بُرجي مائيٌّ، وأظنُّ أنَّ كوكبًا في الفضاءِ يذوبُ أحيانًا ويسيلُ هنا أمامي. وَهْمٌ لطيفٌ احملُهُ وأتقدَّمُ إلى النافذة. أفتحُ الزجاجَ وأنظرُ إلى السيَّاراتِ والاسفلتِ الجافِّ والعُمَّالِ المُتْعَبِين. لماذا يتعبُ هؤلاء العُمَّال؟ أنا نفسي كنتُ أتعبُ أحيانًا ويَنْضَحُ منِّي العَرَقُ، لكنَّني كنتُ أندمُ بعدَ ذلك واستريحُ سنوات. عَرَقُ الجباهِ مقيتٌ، لا بل مُخْجِلٌ. وشيءٌ مقزِّزٌ أنْ تنهضَ من النومِ لتعريقِ نفسك. تَمُرُّ سيَّارةٌ وتتركُ وراءَها غُبارًا خفيفًا. هِرَّةٌ نائمةٌ في الزاويةِ تفتحُ عينيها ثُمَّ تُغْمِضْهُما. أُغْلِقُ النافذةَ وأعودُ ببطء.
اليومَ أيضًا سأستريح. يمكنني أن أعيشَ كُلَّ شيءٍ ببهاءٍ كُلِّيٍّ وأنا أجلسُ هنا على الكَنَبَةِ أو أتمشَّى على البلاطِ وأنظرُ إلى الجدران. أربعُ أو خمسُ ساعاتٍ من الحياةِ في اليومِ تكفي. بعدَ ذلكَ قد أخرجُ، أتمشَّى قليلاً في المدينةِ، ألتقي أصدقاءَ بالصدْفَةِ، أشتري قنِّينةَ عَرَقٍ وأعود.
قد يحدثُ أيُّ شيءٍ بغتةً. زيارةُ غريبٍ، موتُ صديقٍ، قشعريرةٌ مفاجئةٌ لرجلٍ يمشي في الشارع. هكذا بمحضِ الصدفة. وحينئذٍ لن يتغيَّرَ شيء. قد أخرجُ إلى الشرفةِ، أُلقي نظرةً على حوضِ الزهور وأدخلُ من جديد. قد أبتسمُ وقد لا يتبدَّلُ ملمحٌ في وجهي. وجهي مستديرٌ وجامدٌ كشيءٍ أخذ شكله نهائيًّا، وأنفي مُسْتَدِقٌ قليلاً كمنقادِ طيرٍ مقصوص. عينايَ سوداوان. وحينَ أفتحُ فمي يخرجُ منه لهاثٌ بسيط. رُبَّما أيضًا كلماتٌ قليلة. قليلةٌ وخافتةٌ حتَّى أنَّني أحيانًا لا أسْمَعُها أنا نفسي. في الواقعِ ليس عندي أبدًا ما أقوله.
مع ذلكَ أجدُ نفسي مِرارًا مُضْطرًّا للكلام. لا أعرفُ لماذا عليهم أن ينتظروا كلامًا في كُلِّ مرَّة يجلِسون معي، وبعد ذلك أمرضُ. يُخيَّلُ إليَّ أنَّ الحياةَ صديقٌ صامتٌ، وإذا تَكَلَّمَتْ يُصابُ أحدٌ بالسرطان. أعرفُ صديقًا ماتَ لهذا السبب.
هل الحياةُ مريضةٌ هكذا بسبب الأصوات؟ تمرض وتموتُ لأنَّ البشرَ يتكلَّمون؟
بين غرفةِ النومِ وغرفةِ الجلوس ترتفعُ يدي لترتِّبَ شَعري. مسافةٌ قصيرةٌ، مع ذلكَ يُخيَّلُ إليَّ أنَّ شاحناتٍ سريعةً وأصواتًا غريبةً تقطعُها، ويجبُ فعلُ أيِّ شيءٍ للوصول إلى مقعد. أُمَرِّرُ يدي على شَعري، وهي التي لا تحملُ شيئًا يمكنُها بسهولةٍ أن ترتفعَ إليه. شَعري طويلٌ، وكَكُلِّ الذين ينامونَ يتشعَّثُ في الليل، غير أنِّي أُمَرِّرُ يدي عليه دائمًا ليبقى صديقي. يصبحُ العالمُ أجملَ هكذا، حين يكونُ الشَّعْرُ صديقًا. العالمُ قريبٌ من القلبِ مع الأعضاءِ الصديقة. حينَ تُحِبُّكَ أعضاؤكَ ينقصُ عددُ الأعداء. حتَّى أظافرُكَ التي تجمعُ الغبارَ، تكونُ تجمعُ شيئًا مُحَبَّبًا.
أتقدَّمُ خطوتين وأصلُ إلى النافذة. لا يزالُ العمَّالُ أنفسَهُمْ والأسفلتُ والسيَّارات، والقطَّةُ تنامُ في الزاوية. أصواتٌ تَصِلُ إليَّ من وراءِ الزجاج وأشعرُ أنَّها أصواتٌ جميلة. حتَّى الناسُ يبدونَ رقيقِين من بعيد.
ماذا سأفعلُ اليوم؟ ليسَ في نيَّتي فعلُ شيءٍ ولستُ مضطرًّا لفعلِ شيء. يمكنني على الأرجح أن أعْقِدَ صداقةً، من هنا من وراءِ الزجاج، مع هؤلاءِ الناسِ في الشارع. لا يزالُ النهارُ في أوَّلِهِ وبضعُ دقائقَ من الصداقة تكفي اليوم. بعد ذلك يجبُ أن أخرجَ إلى الشرفةِ وأسقي الزهورَ، ويجبُ، ربما، أن أتمشَّى قليلاً في المدينةِ وأجلبَ قنِّينةَ عرق.
النافذةُ مُقْفَلَةٌ وأنا رجلُ قصيرٌ وراءَها، طولُهُ 165 سنتيمترًا ويعقِدُ صداقةً مع شارعٍ طويل. يُمَرِّرُ يدَهُ بينَ وقتٍ وآخرَ على شَعرِهِ، وما يسقطُ منه يحملُهُ ببطءٍ ويرميهِ في القمامة. رجلٌ هادئٌ، حتَّى أنَّهُ بينَ غرفةِ النومِ والمطبخِ يتوقَّفُ مِرارًا ليسْهو أو ليستريح. يلفُّ سيكارتَهُ على مهلٍ، يشيلُ التبغَ الزائدَ من طرفيْها، ينظرُ إلى الولاَّعةِ لحظةً، ثُمَّ يخفضُ رأسَهُ ويُشْعِلُها.
العمارةُ أمامي أصبحَتْ في طبقتِها السابعةِ. عامِلٌ هنديٌّ فوقُ يبدو لي كملاكٍ. الناسُ أيضًا يُشْبهونَ الملائكةَ من بعيد، لا سيَّما المهاجرون. لا أعرفُ لماذا لا يُمكنُني تَخَيُّلُ هجرةٍ من دونِ ملاك، خصوصًا هجرةُ العُمَّال. الذين يحملونَ أمتعتَهُمْ ويمشون. وأحيانًا يتوقَّفونَ على بُعْدِ خطواتٍ من البابِ، يلفُّونَ سيكارةً، ويعودون إلى بيوتِهِمْ.
أُمَرِّرُ إصبعي على البُخارِ العالقِ على الزجاجِ من فمي وأتراجعُ خطوةً. أنظرُ إلى الكنبةِ على يميني. لا تزالُ ذاتَها. الأصدقاءُ الذين كانوا يزورونَني جلسوا عليها. اليومَ أنا وحدي ويُمكنُني أن أكونَ جمهورَها الوحيد. بيني وبينها صداقةٌ قديمة، مُذْ لمحتُها في زاويةِ صالةِ العَرْضِ وقلتُ للبائعِ لا أستطيعُ أن أدفعَ أكثرَ، فحملَها بلُطْفٍ وجاءَ بها إليَّ. لا تزالُ هنا في مكانِها. رُبَّما انزاحت قليلاً حين ارتمى عليها الأصدقاء، لكنَّها في المكانِ ذاتِهِ تقريبًا، وصديقتي مع هؤلاءِ العُمَّال، ومع هذا الخطِّ المُبْهَمِ الذي رَسَمَتْهُ يدي على بُخارِ الزجاج.
أقتربُ وأرسمُ خطًّا آخرَ: خطٌّ آخرُ صديقٌ آخرُ… أنظرُ إليهِ، وأرتمي على المقعد.
2
على زُجاجِ نافذتي أصدقاءُ، لكنَّهُمْ يتموَّهونَ بسُرْعَةٍ كَمَنْ يركضُ في الضبابِ، ثم يتلاشون. أرفعُ قدمي. أضَعُها على الأريكةِ أمامي، وأتأمَّلُ أصابعَها المُلْتَوِيَة. تبدو كشجرةِ صنوبرٍ ضربَتْها الريحُ سنواتٍ، حتَّى تيبَّسَتْ مُحْدَوْدِبَةً. جمودُها الآنَ وصمتُها يذكِّرانني بعمرٍ طويلٍ من الركضِ والصخَبِ وراءَ مجهولٍ مُخيف. كانت رفيقتي الوحيدة. ولم أكافِئْها بشيءٍ غيرَ أنْ أحْمِلَها في آخرِ الليلِ وأضعَها كيفما كانَ في الفراشِ، وغالبًا ما حَرَمْتُها من هذه اللذَّةِ البائسة. قَدَمٌ غريبةُ الإخلاصِ، إلى درجةِ أنَّها لم تفارقني ولا يوم. أعرفُ أقدامًا كثيرةً ملَّتْ وغادَرَتْ أصحابَها. انقطعَتْ عنهم بحجَّةِ المرضِ، أو انفصلَتْ فجاةً على الطريق. كانت تلكَ الأقدامُ تستريح، سوى قدمي ظلَّتْ وفيَّةً ومُنْهَكَة. وهي المُتَيَبِّسَةُ تقريبًا الآنَ، لا تزالُ معي، وهذه علامةٌ من علاماتِ القداسة.
أُمَرِّرُ يدي على هذه القَدَمِ وأُدغدعُ وبرَها الناعمَ. أربِّتُ عليها وألاطفُها وأتأمَّلُها طويلاً. لم أكن صديقَها في أيِّ يومٍ. كنتُ دائمًا مُسْتَعْجِلاً وكثيرَ الازدراء. الآن كأنَّني أشعرُ بها لأوِّلِ مرَّة. ماذا يفعلُ واحدٌ حين يكتشفُ فجأةً أنَّ عاشقةً تبعتْهُ أربعينَ عامًا دونَ أن يدري؟ وقفْتُ، مشيْتُ برفقٍ على قدميَّ، وجلبتُ تبغي.
في تلكَ القريةِ البعيدةِ، على أرضِ بيتٍ من تُراب، مشيتُ أولى خطواتي وكانت قدمايَ حافِيَتَيْن. لم يكن أبي من المؤمنين بأنَّ على الواصلينَ لتوِّهِمْ إلى الأرضِ أن يتعرَّفوا إليها بلحمِهِمْ، لكنَّهُ كانَ عاجزًا عن شراءِ حذاء. كنتُ أعرفُ أنَّ الأحذيةَ التي أرتديها هي أحذيةُ إخوتي، بعدما لُمِّعَتْ وأضيفت إليها مسامير. كنتُ أبتسمُ، لكنَّني لم أكن سعيدًا. أعتقدُ أنَّ هناكَ شَرْطًا للسعادة: أن يكونَ الحذاءُ الذي ترتديهِ جديدًا. لا أعرفُ أناسًا سُعداء بأحذيةٍ عتيقة. كيفَ يمكن أن يفرحُ واحدٌ وحذاؤهُ قديم؟ هناكَ مثلاً ناسٌ يشيخونَ باكرًا بسببِ أحذيتِهِمْ. وناسٌ يموتونَ بسببِ أحذيتِهِمْ. ولا شكَّ أنَّ في التاريخِ شعوبًا انقرضَتْ أو أُبيدَتْ بسببِ أحذيتِها أيضًا. وأنا لا أستطيعُ أن أنكرَ أنَّ أحذيةَ إخوتي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتي: في حزني الباكرِ، وحزني اليومَ، وخجلي، وضعفي، وفشلي في الحُبِّ والحياة. ولا شكَّ كانت سببًا في هجري المدرسة، وتشرُّدي، ونومي على الطرقات. حتَّى في نحولِ جسدي وتوقُّفِ نُمُوِّ طولي، وفي جلوسي الآنَ وحيدًا في هذه الغرفةِ التي غابَ عنها الشعاعُ، بسببِ غيمةٍ على الأرجح، غيمةٍ قد تُمْطِرُ، وحينئذٍ أستطيعُ أن أقفَ على النافذةِ وأتأمَّلَ المطر.
مُذْ سَكَنْتُ هذه الغرفة لم يدخل شعاعٌ إلاَّ ومَرَّرْتُ يدي عليه. كانت لكلِّ تلكَ الأشعَّةِ أجسادٌ ناعمةٌ ونحيلة، لكنَّني كنتُ أعرفُ كُلَّ شعاعٍ من ملمسِهِ. مرَّةً كانَ ضوءَ سفينةٍ في الميناء المقابل، وحينَ اختفى شعرتُ بوحدةٍ غريبة. هل لأنَّها سفينةٌ فيها مهاجرون؟ ناسٌ يرحلونَ إلى بلادٍ بعيدةٍ، يجلسونَ على المقاعدِ الخلفيَّةِ أو يصعدونَ إلى السطح ليُرْسِلوا آخرَ نظرةٍ إلى البيوت؟ ناسٌ كَنَسُوا البيتَ وسَقَوا الحوضَ، ثمَّ انتزعوا عشبةً من شقٍّ قربَ البابِ ورحلوا؟
أشعلتُ سيكارةً ولَهَوْتُ بدُخانِها، كُلُّ شيءٍ هادئٌ، حتَّى الهرَّةُ الصغيرةُ في زاويةِ الشارعِ لا تنظرُ إليّ. كُلُّ شيءٍ هادئٌ في هذه الغرفةِ منذُ سنوات، وبِتُّ أعتقدُ نفسي جِدارًا وإذا خرجتُ ستهبطُ. أحيانًا أفكِّرُ أنَّ حديدَ الغرفةِ من عظامي. لكنَّ عظامي رقيقةٌ وهشَّةٌ و لا رَيْبَ أنَّ هذا الجسدَ محمولٌ بدعائمَ أخرى. كيفَ مَشَتْ معي هذه العظامُ سنواتٍ دونَ أنْ أسمعَ أزيزَها أو أرى انهيارَها المفاجئَ على الطُّرُقات؟ غير أنِّي وحيدٌ تمامًا، ولذلك يَخِفُّ وزني.
لماذا أتذكَّرُ أبي الآنَ؟ كنتُ طفلاً حين أوصلتُهُ إلى القبر. لكنَّهُمْ كانوا ينظرونَ إليَّ وكان من اللياقةِ أن أشيخَ أمامهم. هؤلاء الذينَ اعتقدتُ أنَّهُمْ يُحِبُّونني لم يفعلوا شيئًا من أجلي. لم يقولوا لي أنْ أذهبَ وألعبَ مع الأولاد. ظلُّوا يحدِّقونَ بي حتَّى طالت قامتي وحَمَلْتُ معهم الجثمانَ إلى القبر. كان مُقْفَلاً بمسامير. أليسَ أكثرَ لُطْفًا أنْ يردُّوا الغطاءَ على الموتى بهدوءٍ كلحافٍ ناعمٍ اعتادوهُ في بيوتِهِمْ؟
علبةُ التبغِ على الطاولةِ أمامي ويكفي أنْ أُحَرِّكَ يدي قليلاً. لكنْ يُخَيَّلُ إليَّ أنَّها يدٌ فرغَتْ من الدم، وإذْ تتحرَّكُ أحيانًا فبزخمِ حركةٍ قديمة. العُمَّالُ أمامي لا يكفُّونَ عن الحركةِ بخفَّةِ من تأكَّدَ له أنَّهُ يستأثرُ بدمِ الحياة. حاولتُ أن أقنعَ نفسي بأنَّ الأعضاءَ المتحرِّكةَ شيءٌ جميل، وأنَّ للرجلِ عادةً عروقًا صغيرةً يجري فيها دمٌ نقيٌّ. لكنَّهُ شيءٌ مقيتٌ أن تكونَ مثلَ آلةِ ضَخٍّ، هكذا مع سائلٍ رتيبٍ كُلَّ العمر، كمن ليسَ عندَهُ شيءٌ ليفعلَهُ.
3
أنظرُ إلى أثاثِ الغرفةِ من غيرِ أن أتحرَّكَ من مكاني. نظرةٌ صغيرةٌ قد تجعلُ هذا الأثاثَ صديقي. لا أعرفُ لماذا أهجسُ اليومَ بالأصدقاء. كانوا يجلسونَ هنا، على الكنبةِ، وينظرونَ إلى الحيطان. نظراتُهُمْ لا تزالُ عالقةً على الطِّلاء، ويُخَيَّلُ إليَّ أنِّي أرى وجوهَهُمْ كذلك، كأنَّهُمْ حين رحلوا تركوا نظراتِهِمْ، وأرسلوا وجوهَهُمْ لتتفقَّدَها فعَلِقَتْ هي أيضًا على الحيطان.
عَرَفْتُ في حياتي ناسًا رحلوا وبَقِيَتْ عيونُهُمْ سنواتٍ جالسةً بهدوءٍ في آخرِ مكانٍ نظروا إليه. عَرَفْتُ ناسًا تعاملوا مع اعضائهم مثلَ جَمْهَرَةٍ التقَتْ مُصادفةً في احتفال، ثُمَّ ذهبَ كُلُّ واحدٍ في طريق. على الأدراجِ وفي الشوارعِ والساحاتِ تتوزَّعُ أعضاءٌ كثيرةٌ، كانت تجلسُ يومًا مع أصحابِها ثُمَّ كَبُرَتْ وغادرتْهُمْ. رأيتُ أعضاءً ضائعةً وأعضاءً غافيةً وأعضاءً تبتسم. بعضُها كأنَّهُ وُلِدَ للتوِّ وبعضُها يموت. التقيتُ عيونًا تسهرُ من دونِ أصحابها وأرجُلاً تمشي وحدَها على الطُّرُقات وشِفاهًا تتكلَّمُ وحدَها مع العابرين. التقيتُ كلماتٍ وأنفاسًا ونظراتٍ غادرَتْ أصحابَها وتحوَّلَتْ كائناتٍ جديدة.
إنَّني مع هذه الكائنات جالسٌ الآن. مع أشياءَ انسحبَتْ من ماضيها وبدأتْ حياتَها الخاصَّةَ، وأشعرُ كأنَّ أعضائي على وشكِ الانسحابِ منِّي لتبدأَ هي أيضًا حياتَها. في أيَّةِ حالٍ، لم أنظرْ يومًا إلى أعضائي كشيءٍ لصيقٍ بي بل كانت دائمًا تتمتَّعُ باستقلالِها. يخرجُ بعضُها منِّي وأنا نائمٌ ليجلسَ على الشرفةِ. يخرجُ بعضُها ويتمشَّى في الشارع. ومرَّاتٍ، حينَ أستيقظُ في الصباح، أقضي نهاري في البحثِ عن عضوٍ مفقودٍ، وأحيانًا لا أجدُهُ.
تتحرَّكُ يدي وتَكْبِسُ زِرَّ الراديو. الخارجُ لا يزالُ نفسَهُ: الحرب. إنِّي محاطٌ بقتلٍ فظيع. سنواتٌ مليئةٌ بالجثثِ ولا أعرفُ كيفَ لا أزالُ هنا، بين الجدرانِ، جسدًا سويًّا. ناسٌ كثيرون يمشون الآنَ في الخارجِ بأعضاءٍ ناقصةٍ، باحثين ليسَ عن أعضائهم المفقودةِ لأنَّهُم على الأرجحِ نسوها، بل عن لقمةِ خبز. وناسٌ كثيرون لم يعودوا بحاجةٍ إلى تلك الأعضاء لأنَّهُمْ تناثروا معها في أمكنةٍ لا يعرفونَها هُمْ ولا أحِبَّاؤهُم.
انتشروا في أكثرَ من مكانٍ، نثرةً نثرة، مُتَّحِدين بالغبارِ الذي لا يُرى وبإسمنتِ البناياتِ وبالنسيانِ الرهيب… أتلمَّسُ أعضائي عضوًا عضوًا. إنَّني، في الواقعِ، لا أزالُ جسدًا كاملاً، وما حَسِبْتُ أنَّي فقدتُهُ مع الأيَّامِ لم أفقِدْهُ إلاَّ في الأحلام.
حينَ بدأتِ الحربُ لم أكن أسكنُ هنا. كنتُ في الشمال. في قريةٍ على الساحلِ أعملُ في معملٍ للسماد، وأعودُ في المساء بينَ شجرِ الليمونِ إلى البيت.
تلكَ القريةُ على التلَّةِ الصغيرةِ كانت تبدو لي مثلَ نورسٍ على وشكِ أنْ يحطَّ في الماءِ ويَعْدُل. سطوحُها القرميدُ لم تكن تجدُ وقتًا للتحدُّثِ إلى أصحابها من كَثْرَةِ ما هي مأخوذةٌ بالبحرِ والسماء. أحجارُ الجدرانِ وأشجارُ الحدائقِ استأثرَتْ وحدَها بالنظراتِ والأصابعِ المدلّلَة. أعتقدُ أنَّ الشجرَ كانَ ينمو ويُثْمِرُ، هناك، بفعلِ نظراتهم، والمطرُ ينزلُ استجابةً لهم. كنتُ أراهم يحدِّقونَ في السماءِ ويعرفونَ نوايا الغيوم. والرياحُ تمرُّ بهم أليفةً وواضحةً كأنَّهُمْ أصدقاؤها. كأنَّهم كانوا ذاتَ يومٍ مع الرياحِ رفاقَ طريق، وتبادلوا على الدربِ أسرارَ حياتِهم.
صوتُ المذيعةُ ينقلُ أسماءَ قتلى وجرحى. إنَّهم يحصدونَ بعضَهم في الشمال، ويحصدونَ بعضَهم في الجنوب، ويحصدونَ بعضَهم في الجبال، ويحصدونَ بعضَهم في المُدُن. قبلَ أيَّامٍ كانوا رفاقًا. زاروا بعضَهُمْ بعضًا وشرِبوا القهوةَ وتواعدوا للقاءِ الأحد المقبل وفجأةً يتلاقونَ مدجَّجينَ بالسلاح. يتقابلونَ أعداءً وجُثثًا. المذيعةُ تنقلُ أسماءَ جثثهم، وتُنهي بأغنية.
إنِّي مُحاظٌ بجدرانٍ تقيني منظرَ الخارج. أخبروني أنَّ ناسًا هُناك ماتوا سحلاً على الطُّرُقاتِ. ربطوهم بسيَّاراتٍ وجَرُّوهم في الشوارعِ وسطَ بكاءِ نساءٍ وزغاريدِ أخريات، ثُمَّ رَمَوْهُمْ تحتَ الجسرِ بعدَ أن تركوا خيطَ دَمٍ منهم على الأسفلت. أخبروني أنَّ موتًا كثيرًا وبكاءً كثيرًا جرى على الطُّرُقاتِ، حتَّى تفتَّحَ الأسفلتُ عن زهورٍ بشريةٍ يستطيعُ كُلُّ العابرينَ أنْ يَرَوْها، لكنَّ المفجوعينَ وحدَهُمْ يشمُّونَ فيها رائحةَ الزهور.
أشمُّ أحيانًا مثلَ هذه الرائحةِ. هؤلاءِ الذينَ غادروني من دونَ أن يطلبوا دمعةً أو كلمةَ وداع. الَّذين انسحبوا بخفَّةٍ من حياتي، كأنَّ ورقةً صغيرةً سقطت في الماء.
كنتُ طفلاً حينَ كانَ أبي يُحَدِّثُني عن الحروب. أخبرني عن ضحايا رصاصٍ وضحايا جوعٍ وضحايا مَرَض. عن موتى لم يجدوا أحبَّاءً لدفنهم، وعن مُشرَّدي جوعٍ يجوبونَ القُرى والمدنَ ولا يحظَوْنَ بلقمةٍ. قال لي إنَّهُ كان واحدًا منهم، ووجدَ نفسَهُ في عُمْرِ الخامسةِ متسوِّلاً خائبًا من بيتٍ إلى بيت، وباحثًا في الغاباتِ عن عظمةٍ يطحنُها بالحجرِ ليستطيعَ التهامَها.
كان أبي يخبرني عن الحروب. و لم أكن افعلُ غيرَ أن انظرَ إليه.
4
الساعةُ العاشرةُ والنصفُ تقريبًا. أُطفئُ الراديو وأُلقي نظرةً إلى الخارج. الشارعُ نفسُه والعُمَّالُ أنفسُهُمْ وبضعُ غيوم. أظنُّها ستُمْطِر. طالَ انحباسُ المطرِ ولا شكَّ في القريةِ الشماليَّةِ، هُناك، ينتظرونَ هطولَهُ. لكنْ، كَمْ بَقِيَ منهم هؤلاءِ الَّذينَ أخذوا أسرارَ الرياح وكانوا يعرفونَ نوايا الغيوم؟ عشراتُ الآلافِ هاجروا مُذْ بدأتْ تلكَ المذيعةُ تنقلُ أسماءَ الجثث. ولا رَيْبَ آلافٌ من الَّذينَ كانت أصابعهم تُدَلِّلُ الأشجارَ لمسوا جلدَ الحقائبِ لأوَّلِ مرَّةٍ وحملوها بحسرةٍ إلى بلدانٍ قاسيةٍ ومجهولة. وضعوا فيها صُوَرَهُم مُبْتَسِمِينَ بجانبِ البابِ وقُرْبَ حوضِ الحَبَق، وحَمَّلوها بعضَ أنفاسِ الغُرَفِ، وأرسلوا نظرةً أخيرةً ومَضَوْا.
أخبروني أنَّ ناسًا لم يجدوا الوقتَ لارتداءِ أحذيتِهِمْ قبلَ الرحيل. وصلوا حُفاةً وعُراةً إلى مُدُنٍ وقرىً وصادَقُوا العراءَ للنومِ معه. قالوا إنَّ الموتَ وصلَ فجاةً وهم نيام، وإنَّ الموتَ وصلَ فجاةً بثيابِ أصدقاء، وإنَّ الموتَ وصلَ فجأةً من سماءٍ كانت قبلَ يومٍ تمطرُ عليهم وعلى حقولهم. وقالوا إنَّ ناسًا كثيرينَ سقطوا بعدَ خطوةٍ، وناسًا كثيرين سقطوا من دونِ خطوةٍ، ودروبًا كثيرةً لا تزالُ تسمعُ أنينًا هُناكَ، واُمَّهاتٍ نسيْنَ أطفالَهُنَّ على الأسِرَّةِ من شِدَّةِ الرعبِ ورحلْنَ بدونهم.
أظنُّها ستُمْطِرُ. الغيومُ تأتي من بعيد. على الأرجحِ من سماءِ بلدانٍ فيها مُهاجِرونَ، ورُبَّما ستَذْرِفُ هنا بعضَ دموعِهِمْ. تَلَبُّدُها يشبهُ أنفاسَ المهاجرينَ، وفي تباطُؤها فوقَ البيوتِ شيءٌ من أشواقِهِمْ. أظنُّها ستُمْطِرُ.
حينَ كُنَّا صغارًا كانَ المطرُ لعبتَنا المفضَّلة. أبي، الفلاَّحُ الفقيرُ، لم يكن معه ثمنُ ألعابٍ، فكُنَّا نلعبُ بأغراضِ الطبيعة. الماءُ والثلجُ والفراشاتُ والغصونُ كانت أغراضَنا. ولم تكن بينَ الأرضِ و بيننا قِسْمَة.
لم أكن أعرفُ لماذا كانَ أبي ينهرُني عن عَدِّ النجوم. الآنَ أعرفُ أنَّ ذلكَ كانَ خوفًا من غيابِ أحدِ رفاقي. كان يعلمُ أنْ ليسَ كُلُّ الرفاقِ دائمًا سيحضرونَ، وأنَّ عددًا كبيرًا منهم لا بُدَّ يومًا سيغيب، وأنَّني سأنامُ، في تلكَ الخيمةِ العاليةِ المفتوحةِ للعراءِ، مرَّاتٍ عديدةً من دونِ رفيق. كان أبي بالتأكيدِ يعرفُ أعماقَ مشاعري، ويُحِبُّني فوقَ التَصَوُّر.
حينَ افترقْنا، كانَ ذلكَ قُرْبَ شاطئ. بيتُنا الذي استأجرناهُ مُعَمَّرٌ فوقَ قناطرَ، على صخرٍ بحريٍّ، والبحرُ كانَ واحدًا من أهلِ البيت. أبي ظَلَّ فوق، في الضَّيْعَةِ، مع بيتِهِ وشجرِهِ، ومع سُلَّمِهِ الخشبيِّ يقعدُ على درجتِهِ السُّفْلى كُلَّ مساء، مُنْتَظِرًا بوسطةَ القريةِ الآتيةَ من المدينةِ علَّها تقفُ على المفرقِ وينزلُ منها أحَدُ أولادِهِ. لكنَّ ذاكَ السُلَّمَ ظَلَّ، لسنواتٍ، لا يَرى غيرَ رجلٍ منتظرٍ، ودخانَ سيكارة.
حينَ ودَّعتُهُ لآخرِ مرَّةٍ، كان ذلك على الشاطئ. ثُمَّ تصاعدَ من بيتنا دخانٌ كثيفٌ. و الدخانُ كانت له رائحةُ لحمٍ محروق. وصارَ أبي هيكلاً عظميًّا أسود… صَعِدْتُ و ألقيتُ نظرةً أخيرةً على فحمِهِ، ومضيتُ حاملاً وحدي حطبَ الحياة.
حطبَ الحياة؟ لا، أعتقدُ أنِّي كنتُ أحملُ براعمَ أيضًا. وكنتُ، أنا و بعضُ الأصدقاء، نظنُّ أنَّ شجرةً وارفةً ستخرجُ من تلكَ البراعمِ وتُظَلِّلُ مكانًا جميلاً. كان لنا أهلٌ آخرون: الأحلام. وفي حينِ كُنَّا نمشي مع أحلامِنا، كانَ هناكَ، في مكانٍ خفيٍّ، من يصطادُها، وكانت هي تسقطُ، مثلَ أهلِنا جميعًا.
5
كان مصنعُ الأسمدةِ يضخُّ في ذلكَ الوقتِ سمادًا من المفترض أن يحمله الفلاَّحونَ ويرشُّوهُ على حقولِ الزيتون. وكانتِ الأشجارُ، كَكُلِّ سنةٍ، تنتظرُ غذاءَها، وغصونُها مائلةٌ نحوَ البيوتِ تترقَّبُ وصولَ أصحابِها. لكن فيما كان أملُ المواسمِ ينزلُ حبَّةً حبَّةً في الإهراءاتِ، كانتِ الحقولُ تُهْجَرُ حقلاً حقلاً، والأشجارُ تسقطُ مع سقوطِ أصحابِها في الهجرانِ وفي الحربِ وفي الموت. تمدُّ رؤوسَها نحوَ بيوتٍ حضنَتْها مُذْ كانت صغيرةً، وتنحني رويدًا رويدًا ، وتَيْبَس.
في تلكَ الحقولِ كانَ ثمَّةَ نبضٌ آخرُ يجري في عروقِ النَّبات، نبضٌ بشريٌّ جنبًا إلى جنبٍ مع النُّسْغِ وروحِ الشمس والتراب. حتَّى العشبُ والأشواكُ كان بينها وبين الناس تفاهُم, حينَ ينظرُ أحدُهُمْ إلى السماءِ ترتفعُ معه عيونُ نبتة. وعلى الأرجحِ كانتِ الاشجارُ تنامُ حينَ يغمضُ الناسُ عيونَهم. وزهرةُ اللزَّانِ، الوحيدةُ في البراري، سعادتُها تأتي من لمسِ أيديهم. كانت حياتُهم تَعْني فرحَ نبتةٍ وشَبَعَ خروف، وتختلطُ حالاتُهم بحالاتِ أرزاقهم، تتكرَّرُ ولاداتُهُمْ مع ولاداتِ المواشي وانعقادِ الزهر ونُمُوِّ الخَضار، واللبنُ والنعناعُ بعضٌ من أجسادهم.
كان مصنعُ السمادِ يضخُّ حبوبًا كأنَّهُ يضخُّ ذكرى من الماضي. وكان هناكَ شجرٌ يجوعُ، وشجرٌ يَيْبَسُ، وشجرٌ يُحْرَقُ، وشجرٌ يُذْبَحُ، وشجرٌ يقاوِمُ منتظرًا ناسًا لا يستطيعونَ الوصولَ، وناسًا سقطوا على الطريقِ، وناسًا رحلوا إلى بلدانٍ بعيدة.
على بوَّابةِ المصنعِ عُشْبَةٌ تكبرُ يومًا بعد يوم، كأنَّها تتمتَّعُ وحدَها بحياةِ السماد. وكانت تلك العشبةُ آخرَ ما نظرتُ إليهِ وأنا أغادر.
ولكنْ لماذا أتذكَّر تلكَ اللحظاتِ من أيَّامٍ تبدو لي صَدِئَةً مثلَ لافتةِ طريقٍ مَدْروزَةٍ بالرصاص؟ إنَّني هُنا الآنَ، في هذه الغرفةِ الصغيرةِ على كنبةٍ. وما عدا ذلك نوعٌ من أنواع الوهم. الماضي؟ كَمَنْ يحاولُ إيقافَ عابرينَ بالوَطْءِ على ظلالهم.
النافذةُ نفسُها، العُمَّالُ أنفسُهُمْ، وبعضُ غيوم. لا شيء تغيَّرَ منذُ الصباح، فقط عقاربُ الساعةِ تقدَّمَتْ بضعَ دقائق. أتمشَّى قليلاً في الغرفةِ. أقتربُ من المرآة. أُمشِّطُ شَعري. اسحبُ من المِشْطِ شعرتيْنِ وأُلقيهما في القُمامة.
أظافري طويلةٌ وكانَ يجب أن أقُصَّها. كان يجبُ أن أفعلَ شيئًا مُفيدًا. أين الشعاع؟ قبلَ قليلٍ كانَ يتقدَّمُ نحوي ويكادُ يلمسُ جسدي. نظرتُ بشوقٍ إلى حَبْوه، إلى طفولتِهِ الأولى في بيتي.
أنظرُ من النافذة. في السماءِ غيومٌ. أظنُّها ستُمْطِرُ.