ياسوناري كاواباتا يروي قصة الحي المهدم بواقعية تسجيلية: ترجمة عربية لرواية تكشف أبعادا مجهولة في لعبته السردية/ انطوان ابو زيد
يكشف الروائي الياباني الشهير الحائز نوبل الآداب ياسوناري كاواباتا في روايته “حيّ أساكوسا” الصادرة عن دار الساقي في ترجمة جولان حاجي، عن أبعاد جديدة في كتابته تضاف الى عوالمه الروائية التي تجلت في اعمال مثل “الفتيات النائمات” ، “راقصة إيسوزو”، “القمر في الماء”، “الثلجة الأولى في قمة فوجي”، “أوهام من كريستال”، “بلاد الثلج”، “صفحة مجنونة” وغيرها الكثير من الروايات والمجموعات القصصية. وأغلب الظنّ أنّ هذه الحساسية مرتبطة بالاتّجاه العام الذي سلكته الرواية وبالأسلوب الذي اعتمده في مقاربة وقائع الرواية وأحداثها ورؤية تأليفها.
ويستفاد من المقدّمة التي أعدّها المترجم جولان حاجي ومن قراءة التعريفات عن الأديب الياباني الشهير أنّ لهذا الحيّ (أساكوسا) الذي انتقل إليه الروائي، شاباً، بعيد انتهائه من دراسته في الجامعة الإمبراطورية، مكانة كبيرة في قلبه، وقد تسنّى له العيش في أزقّته ومعاينة مرابع المتعة فيه التي نالت شهرة واسعة في مدينة طوكيو كلّها، وحيّ أساكوسا هو إحدى ضواحي العاصمة اليابانية. ولمّا وقع زلزال كانتو العام 1923، أوتي له النجاة منه ومعاينة الدمار الهائل وأعداد الموتى الذين هلكوا فيه (تسعون ألفاً). ولربما شاء كاواباتا تكريم ذلك الحيّ وتدوين أهمّ معالمه وشخوصه، متسلّحاً بمنهجية التوثيق والتتبّع الواقعي التي سبق للروائيين الغربيين أن طرحوها في ما يسمّى الواقعية التسجيلية، منتصف القرن التاسع عشر حتى ستينيات القرن العشرين، ومفادها أنّ على الروائي أن يجري أبحاثاً ويجمع وثائق وتواريخ عن المكان موضوع الرواية قبل المباشرة بتوليف السّرد فيه، بحيث تتشكّل لديه هيكلية للرواية مما يحفل به الواقع موضوع السرد.
بنية وعقدتان
ولدى تفحّصي بنية الحكاية في الرواية، بعد القراءة الثانية، تبيّن أنها شديدة البساطة، بل يمكن القول إنها أي الحبكة القصصية مؤلفة من عقدتين مفصليتين تدور حولهما الأحداث وتُنسج حولهما الأوصاف والمشاهد الدالّة على حيّ أساسوكا الياباني إبان الثلاثين سنة الأولى من القرن العشرين، وهاتان الحبكتان هما على التوالي: الأولى، وهي تستغرق القسم الأول من الرواية، وتروي قصة إحدى فتيات الهوى ممن كانت تحفل شوارع حي أساكوسا بهنّ، وهنّ ممن تبقّى من عائلاتهنّ الناجية من زلزال كانتو، والشاردات في الشوارع والمتسكّعات، وهي تدعى يوميكو وقد تعرّفت بحبيب أختها المنتحرة يوميكيشي، وهو المراكبي المزيّف. وقد أفلحت، في ختام لقاءاتها مع ذاك الخليل، بدسّ السمّ له في قبلة أنفذت من خلالها حبّات من الزرنيخ إلى لسانه فمات مسموماً، وانتقمت بذلك لأختها التي كانت قد انتحرت بسبب تخلّي المغدور، المنتمي إلى عصابة الحزام الأحمر، عنها وانصرافه إلى غواية الفتيات من بعدها.
أما الحبكة الثانية فتبدو أبسط من الأولى، وهي تروي تمكّن فتى أعسر، يدعى هيكو، وهو من فتيان أساكوسا المنتمين إلى عصابة الحزام الأحمر نفسها، من إغواء فتاة ذات الأربعة عشر ربيعاً وتدعى أوهارو، بأن اشترى لها قماشة من “اليوكاتا الملفوف بالورق”. وعندئذ أمكن له (هيكو) أن يختطفها، هي وأختها التي سبق أن اقتيد زوجها إلى معسكر للأعمال الشاقة في هوكايدو. واللافت في هاتين الحبكتين أنهما لا تستغرقان من الرواية سوى مشاهد متفرقة، ومتواصلة على امتداد الفصلين غير المحددين بدقة، في حين أنّ الثقَل في هذه الرواية- بخلاف رائعته الجميلات النائمات ذات الديكور الداخلي البحت – يكمن في موضع آخر، نتحدث عنه في ما يأتي. أول الأمور اللافتة في رواية كاواباتا هذه مكانة الوصف وتسجيلية سينمائية فريدة، ذلك أنّ الروائي، إذ يتصدّى لإحياء فترة من الزمن، مرتبطة بحقبة من حياة الروائي وشبابه، فإنه لم يتوانَ عن استخدام أحدث تقنياته السردية المستعارة من آليات الفنّ السينمائي، عنيتُ المشهد، وسلسلة الصور، والفلاش باك، والتصوير البانورامي، واللقطات، والعودة من ثمّ إلى التصوير المقرّب حالما تشرع الشخصيات في التحاور، وسط حركة سردية خيطية، بإيقاعها البطيء ولكنْ المثقل بالأجواء الدرامية التي تغذّيها الإحاطة الموسوعية بأسماء الأماكن والشخصيات التاريخية التي كان لها إسهامها في بناء حيّ أساكوسا، قبيل الزلزال المدمّر عام 1923، تضاف إليها الكثير من الروايات حول النساء الروسيات اللواتي قدمن إلى اليابان هرباً من الثورة البولشفية هناك.
واللافت الأكبر، في رأيي، هو الاتّجاه الصارخ ، في هذه الرواية – من دون سائر الروايات لدى كاواباتا- إلى إضفاء قدر عالٍ من الواقعية على وصف المكان، أي حي أساكوسا، الصاعد لتوّه من ركام الزلزال المدمّر، حتى ليقارب أحياناً واقعية الريبورتاج الميداني، حين يرسم لوحة بانورامية عامة شديدة البؤس لعشرات الآلاف من النساء والفتيات اللواتي نجيْنَ من الموت، بفعل الزلزال، وضاقت بهنّ شوارع أساكوسا، فافترشن، بغالبيتهنّ العظمى، الأرض والساحات العامة والحدائق المنتشرة في المدينة وبعض ضفاف النهر، بينما حظيت أعداد منهنّ بسقف ثابت، وإن يكن لقاء بيع جسومهنّ الفتية التي عضّها الجوع وموت الأهل والإذلال والاختطاف على أيدي عصابات الحزام الأحمر وغيرها.
طبعاً، اللافت الثالث في رواية “حي أساكوسا” هو النفاذ إلى داخل مجتمع الدعارة من زاوية درامية جماعية، بحيث أنّ كاميرات الروائي ولغته الروائية لا تنيان تطّرحان قشور المتعة المبتغاة من فعل الدعارة -الشائع في المجتمع الياباني وغير المحظّر- لتكشفا عن هوية الضحية المطلقة، وهي الفتاة اليابانية المولودة في حيّ أساكوسا، وتلك النازحة من روسيا على حدّ سواء، بمثل ما تكشفان عن الجلاّد، ممثلاً بفتيان عصابات الحزام الأحمر ممن استغلّوا مهانة الفتيات المشرّدات حتّى الثمالة. ولكن ألا يتّضح للقارئ أنّ الفتيان هؤلاء، فرسان اختطاف الفتيات وسوقهنّ للبيع، من مثل يوميكيشي وهيكو وكومادا وغيرهم، هم ضحايا بدورهم لعنف الطبيعة والنزعة الجارفة إلى تقليد الغرب وسحق الثقافة والتراث اليابانيين العريقين، واللذين انتقم لهما الروائي، زميله ميشيما انتحاراً. ولربما يكون هذا الأمر تأويلاً خاصاً لا يتصل، بالضرورة برؤية الكاتب الياباني التي غالباً ما تلوذ إلى اللاوعي حيث تتآخى أطياف الموتى مع الأحياء في عالم موازٍ للواقع، في مسلك يكشف عن عمق المأساة التي عاشها الروائي منذ طفولته بفقده والديه باكراً جداً.
واللافت الرابع، في هذه الرواية أنّ كاواباتا شاء تكريسها لفنّ الرقص الياباني الأصيل، فجاءت الرواية معرضاً حافلاً بأهم الراقصات والراقصين، ممن كانت مسارح أساكوسا تشهد لهم عروضاً، وتزخر بحفلات التنكّر التي لطالما اشتهر بها الفنّ الياباني، تضاف إليها أسماء أهمّ الفنانات والفنانين ممن تتبّع الروائي أخبارهم وشاء ربطهم بسيرة أساكوسا، قبيل الزلزال وبعده وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. ومن دون أن يعني ذلك أنّ الرواية وقعت في التأريخية، وإنما بحسب الروائي أنه شاهد لزمنه وساع إلى ما يمكن أن يكون مستحيلاً: “وعليّ الاعتراف لكم أنّ محاولة وصف الحياة خلال تلك الشهور السبعة الماضية في أساكوسا ضربٌ من المستحيل، أصعب من الإمساك بشعاع شمس السنة الفائتة…” (ص:170)
أما اللافت الخامس، وليس بالأخير إن شئت الاستغراق في قراءة الرواية واستخلاص دروسها، فهو تنويع الروائي أساليبه ووجهات نظره وتبئيره؛ فمرة يتلبّس جلد المؤرّخ، ومرة أخرى يستعير صوت الراوي، وحيناً يكتفي بهويّة الواصف الحرّيف الذي يدرك توجيه كاميراته على المشاهد الموصوفة لالتقاط زواياها ولتدوين ملامحها قيد الاختفاء، وأحياناً يسقط أقنعته كلها ويكشف عن وجهه روائياً عارياً أما القارئ في وقفات تقرّب نصه من حكايات ألف ليلة وليلة أو الحكايات المستلة من التراث القديم: “لقد رويت لكم، أيها القراء الأعزاء، حكاية أوباميا وهيميميا التي تعرفونها كلكم لأنها صفحة واحدة من تاريخ المعجزات التي اجترحها كانّون في أساكوسا…” “نعم، أيها القرّاء الأعزّاء، هذا ما يقوله ملصق الإعلان…” (ص:192).
هذا وكثير غيره، يمكن أن يقع عليه القارئ العربي، بفضل ترجمة جولان حاجي وبلغة عربية سعى أن تلاقي كتابة كاواباتا بكثافتها الشديدة وطواعيتها وتوازنها وإيحاءاتها الكثيرة.