الهجرة الأولى/ روزا ياسين حسن
الهجرة الأولى من السذاجة الجنسية إلى غموض الخبرة
إذاً هي أعمدة روحية تلك التي تنتصب المدن عليها، مرايا عملاقة تعكس قلوب ساكنيها، فإذا أظلمت هذي القلوب فستفقد المدن بريقها وبهاءها! هذا ما يراه شمس الدين التبريزي، وما أقتنع به أيضاً. المدن التي أحبها لها روح، وهذه الروح نتف من أرواح سكانها، تلك التي يتركونها في كل مكان. الأمكنة هي حكايات البشر.
في شارع العنّابة القديم المسقوف بالأقواس الحجرية، ككثير من الأسواق القديمة في مدينة طفولتي البحرية: اللاذقية، بدأت حكايتي في يوم من بدايات ثمانينيات القرن الماضي. الداخل إلى ذلك السوق يشعر بأنه يدخل كهفاً فينيقياً رطباً محمّلاً بعبق قديم، كمعظم أماكن المدينة ذلك الوقت قبل أن تبدأ بالتخرّب. لم أكن لحظتئذ قد أنهيت زجاجة الـ «كراش» الأرجوانية، التي اشترتها لي عمّتي نجوى مع قمع الورق المليء بالقضامة بسكّر، حين لعلع صوت الرصاص المجنون. كانت هي وجارتها، وهي امرأة سمينة وقصيرة لا تكاد تعلو بقامتها عن قامتي وأنا ابنة سنيَّ السبع، تقلّبان لفّات الأقمشة في محلّ بيع الأقمشة. عمّتي الشابة كانت مغرمة بتلك الجارة، ‘أم خالد’. هي من «أهل البلد» كما كانوا يطلقون على السنّة والمسيحيين من أهالي مدينة اللاذقية القدامى، باعتبار عائلتي، كمعظم العوائل العلوية في المدينة، جديدة في المدينة فلم تمض عقود قليلة على نزولهم من الجبال الساحلية التي قضوا فيها قروناً من الخوف والعزلة. ولأن أمها، جدتي لأبي ‘جميلة’، كانت تقول بأن «الغريب لو صحّ أحسن من ألف أخ»، ولأن نساء المدينة كنّ خبيرات بتلك الأشياء التي تتعلّق بغواية النساء: الأقمشة، الثياب الداخلية، المكياج، الحلي، الأمر الذي لم تكن نساء القرى كنساء عائلتي يملكن فكرة عنه، لذلك اختارت عمتي جارتها أم خالد لتكون مرافقتها في شراء قماش لفستانها الذي سترتديه في عرس أخيها القريب.
أكاد لا أذكر أم خالد إلا وهي تتمدّد على الصوفا الأرابيسك ذات القماش الأصفر في صالون بيتها، وتدخّن أركيلة بالتنباك البلدي، تعبق رائحتها في البناية كلها. كلما صعدت إلى بيتها لألعب مع ابنتها ‘بانا’، التي تقاربني العمر، واحتضنتني أم خالد مبتسمة، تفوح رائحة التنباك ممزوجة ببقايا عطر ثقيل جلبته أختها من رحلة الحج كهدية. بانا كانت معلّمتي الأولى، منها عرفت ماذا يعني الدورة الشهرية، فقد كانت الدورة قد داهمتها وهي لم تبلغ بعد الحادية عشر من عمرها. في زاوية الحمّام مدّت بانا الفوطة المضمّخة بدماء غامقة وقالت: «سينزل منك مثل هذا الدم كل شهر، لا تخافي لا يؤذي، ولكنه يؤلم البطن كثيراً».
لم أجرؤ على إخبار أمي بذلك، فلربما منعتني من رؤية بانا التي أعشق صحبتها. كانت تريني صور الممثلين والممثلات، وتدلّني من يعشق من، وتخبرني كيف يقبّل الرجل المرأة من فمها، وما الذي يحويه لباسه الداخلي، ثم ترسمه لي بقلم حمرة شفاه أمها على مرآة غرفة النوم، وتمسحه بسرعة بالمحرمة وهي تضحك بقهقهة مكبوتة.
– هل تعرفين كيف يأتي الأولاد والبنات إلى الدنيا؟!
طوّحتُ برأسي نافية، وأحسست للتو بأن كل دم جسدي احتقن في وجهي، وصار تنفسي صعباً! لكن بانا لم تُكمل شرحها لي، بدأت بتكوير كفّها على هيئة عضو المرأة وإصبع سبابتها بالمقابل، حتى كانت عمتي نجوى قد دخلت الغرفة مستعجلة إياي للذهاب. لم تلمح يدي بانا فقد أنزلتهما الأخيرة بسرعة، لكنها صُدمت ربما بوجهي المحمرّ كثمرة شوندر، وسألتني وهي تمسك بيدي ونحن عائدتان إلى بيتنا، إن كان ثمة أمر بيني وبين بانا أخفيه عنها. لم أجب، لكني كنت أسمع وجيبَ قلبي يطرق في أذني!
يومذاك في سوق العنّابة، وأنا مشغولة بعدّ حبات القضامة بسكر المتبقية، وأتحسّر على قرب انتهائها، كنت أتأمل ورقة الجرائد التي لُفّت بها القضامة وأفكّر إن كانت عمتي ستشتري لنا «عوّامة بالقطر» قبل عودتنا، كما سبق ووعدتني.
طاخ طاخ طاخ طاخ
صوت رهيب آت من ساحة أوغاريت القريبة منّا.
طاخ طاخ طاخ طاخ
سقط القمع الورقي من يدي وكذلك زجاجة الكراش، رأيتها على الأرض، حبات القضامة متناثرة تسبح في المياة الأرجوانية. عمتي تصرخ من داخل المحلّ أن أدخل، وأنا أرى أشباحاً سوداء تحيطني، وصوت رصاص يلفّني. أمسكتني عمتي من كمّ قميصي الصيفي، أوقعتني على ظهري وكان سقف سوق العنّابة المعدني قد تثقّب فجأة وبدأت أشعة الشمس المختبئة خلفة بالتسلّل إلينا عبر الثقوب.
هناك في عمق الدكّان المعتم لبثنا في الزاوية ثلاثتنا، فيما أغلق صاحب الدكان الباب، ولبث مترقباً معنا.
– «الله ينجّينا، لله يحيمنا، الله لا إله إلا هو الحي القيّوم..».
أم خالد تلهج بالأدعية وهي تقبّل قلادتها الذهبية المنقوش عليها «ماشاءالله». عمّتي وجهها شاحب كالموت، وعيناها الخضراوان مفتوحتان على سعتهما. الأصوات تعلو والرصاص يجنّ أكثر والناس تركض، كحيوانات مذعورة من حريق، من أمام باب الدكان المغلق. ربما بدأتُ أبكي وقتها وأرتجفُ من الذعر حتى راحت عمتي تحتضنني وتطبطب على ظهري، وأحسستُ وقتها بجسدها كله يرتجف.
كان كل شيء مبهماً بالنسبة لي، ما الذي حدث؟ ولماذا؟ ومن هؤلاء الذين كدنا نموت من الرعب منهم؟! لن تجيب عمتي على أسئلتي، ستبقى صامتة هي وأم خالد ونحن نهرول بعد هدوء الرصاص باتجاه بيت الجدّة المديني. كنتُ أسأل أسئلة متوالية وهي تشدّ على يدي:
– «اركضي الآن، أسرعي يا صغيرتي. نتحدث فيما بعد. أسرعي يا صغيرتي».
صوتها ما يزال يرتجف، وما زالت أم خالد تبربر بأدعيتها وهي تجاهد للهرولة بثقلها. عدنا إلى البيت دون أقمشة جديدة، دون «عوامة بالقطر»، ودون أن نعرّج إلى كورنيش البحر الذي كنت أمنّي نفسي قبلاً بإنهاء مشوارنا الصيفي عنده.
لكن يومذاك لن يشرح لي أحد ما الذي حدث، ولِمَ كانت طفولتنا مبهمة إلى هذا الحد؟ وما الذي سيحدث فيما بعد، ولا أي شيء! كان عليّ أن أبحث وحدي عن إجابات عن أسئلتي الكثيرة والمتراكمة عبر الزمن. ولن أتوصّل إلى أجوبة شافية قبل زمن طويل طويل سيفصلني عن ذلك اليوم المشهود في سوق العنّابة.
لم تكن مشاوير البحر على الكورنيش القديم أمراً يمكن نسيانه، الكورنيش القديم قبل أن تطمره السلطات لتبني الميناء الحديث على أجمل بقعة من اللاذقية. لا أشجار النخيل ولا أكواز الذرة المشوية ولا الرطوبة البحرية التي تجعل كل شيء ندياً، ولا حتى الثياب التي تلتصق بالجسد، هي أمور يمكن نسيانها يوماً، ولا لقاء الأحبة في مقهى العصافيري والموج يلامس أقدامهم، ولا طعم السمك في مطعم فينيسيا، ولا ظلال حديقة البطرني بصخرتها العتيقة، كل ذلك لم يعد موجوداً رغم أنه عصيٌّ على النسيان. أساساً لم يكن من شيء يثبت بأنها كانت أصلاً، إلا حكايات متفرقة من ذاكرة هنا وهناك.
في قادم الأيام سيتغيّر الكثير في المدينة. ليس فقط في شكلها: فالبنايات راحت تتمدّد على المساحات الخضراء، وحتى كادت تلامس البحر، ولو أمكن البناء فوق الماء لما تردّدوا. من يدفع رشوة للبلديات تعطيه رخصة لقطع الأشجار والبناء فوقها. لكن ليس شكل المدينة سيتبدّل، بل روحها أيضاً. ستعتاد البشاعة! وبشاعة الموت ستمرّ بشكل عادي، بل ومألوف! هل يمكن لمدينة أن تتصالح مع الموت؟ فقوافل الموتى ستتوالى على المدينة وريفها المحيط، توابيت توابيت، بالعشرات بالمئات، وحين ستمتلئ المشافي والمقابر بالتوابيت، وتمتلئ الشوارع بالنعوات، والبيوت بصور عليها شرائط سوداء، والقلوب بالنحيب، سيغدو الموت فعلاً يومياً من ضمن الأفعال اليومية!
ولكن ما حدث يومذاك في شارع العنابة سيسم طفولتي ونظرتي لمدينتي كلها، باعتبارها وعاء لحساسيات طائفية تتزايد، وإمكانيات متوالدة، لا يكاد المرء يتنبأ بنهاياتها، لصراعات أهلية ولقمع حكومي سيزرع خوفاً لا يمكن التملّص منه في الصدور!
ولكن من قال إن الزمن ثابت لا يتغيّر؟!
حين نكون صغاراً يمرّ الزمن ببطء شديد، سلحفاة عجوز لا تقوَ على الحركة. يستطيل النهار خصوصاً في أوقات العطلة، ولا نعرف كيف نملأ مساحات الزمن المتطاولة الشاسعة. حين نكبر يبدأ الزمن بالركض، تزداد سرعته كلما تقدمنا في العمر، حتى لا نكاد نلمحه في جريه. تهرب اللحظات منّا ولا نقبض عليها. من قال إن الزمن ثابت لا يتغيّر؟! مخطئون.. الزمن شيء غير مستقر، غير ثابت، أمر متغيّر دائماً. كما أنه حادثة داخلية، في دواخلنا، لا علاقة لها بالخارج. فالزمن يمرّ بناء على حالتنا نحن. في الترقّب المحموم لمروره يمرّ ببطء، وفي لحظات الفرح والحب يهرول ماداً لنا لسانه هزءاً!
المشكلة أننا، حين نكتشف كل ذلك، يكون العمر قد ولّى!
الأوقات البطيئة الدائرة كحجر الطاحون كانت مشكلة حقيقية في طفولتي. لم أكن أعرف كيف سأقضي النهار الصيفي الطويل أنا وأختي. نخترع القصص والمسرحيات والألعاب والتسالي ولا يمرّ الوقت. اللحظات الوحيدة التي كانت تجعل الوقت يمضي بخفّة كانت لحظات القراءة! بدأ الأمر في اللحظة التي أمسكت فيها بين يدي كتاباً من أكثر الكتب تأثيراً فيّ، وربما في التاريخ الإنساني، ألف ليلة وليلة، فلا أكاد أمسك الكتاب حتى يعود والداي من عملهما إلى البيت. كانت هي في الحقيقة سبع أو ثماني ساعات، لكنها كانت تمرّ كسبع أو ثماني دقائق وأنا بصحبة الجمال!
القراءة كانت تجعل الزمن الثقيل يهرول في طفولتي، وستعمل فعلاً معاكساً تماماً حين سأكبر! ستجعل الزمن الراكض إلى الشيخوخة أهدأ وأقل صلفاً وغروراً، وسيقبل مع مرور عمري أن يجلس لهنيهات بجانبي ليجعلني أستمتع به!
الأهم في كتاب ألف ليلة وليلة كان تفاصيل الحب والجنس، تلك التفاصيل التي بصدمتها جعلتني أكتشف روح الإيروتيك الشرقية العميقة، وفي الوقت نفسه سمّرتني إلى حالات من الوله والهيام سأبقى طيلة حياتي أبحث عنها. ذلك العالم الإيروتيكي الذي لم أستطع أن أقبض على ظلال له، ولو واهية، في حياتنا اليومية. الجنس المحرّم الذي لم أكن أسمع به إلا لماماً، كلمة مجرّدة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. ففي مدينتنا الصغيرة وفي مجتمعاتنا الصغيرة لم يكن ثمة مجالات كثيرة لمعرفة كنه تلك الكلمة الغامضة: الجنس! حيث لا محطات فضائية، ولا أفلام فيديو، ولا مجلات ممنوعة. المحطة التلفزيونية الوحيدة كانت المحطة الحكومية الرسمية، ولم يكن ليفوت رقابتها مشهد قبلة صغيرة مدسوس في فيلم مجتزأ ما. بعد سنوات ستصلنا المحطات اللبنانية، والتي كانت تبدو مقارنة بمحطتنا الرسمية كفنانة راقصة بلباس مغوي مبهرج ولامع في مسرح استعراضي، مقابل مديرة صارمة في مدرسة داخلية لم يلمس رجلٌ جسدها يوماً. يمكنكم باعتقادي تخيّل الفرق؟!
تلك المحطّات أحدثت في الحقيقة فرقاً كبيراً، وهزّت المجتمع الراكد المحافظ. كان ثمة أوقات لا يمكن للمرء فيها أن يصادف أي شخص في الشارع، شارع خالٍ تماماً كأنه مشهد من فيلم رعب هيتشكوكي، لأنه موعد عرض مسلسل مكسيكي، أو إسباني، أو أياً كان، مليء بقصص الحب المحرّم، بالفتيات الجميلات المثيرات بتنوراتهن القصيرة، وبالشباب الوسيمين ذوي القامات الرياضية والشفاه المكتنزة المناسبة للقبلات المحمومة التي تزخر تلك المسلسلات بها. لم يكن من الممكن إعادة هذا المشهد من خواء المدينة إلا في شهور رمضان وقت الإفطار. كنّا نسميه متهكّمين: وقت حظر التجوّل الإرادي.
حين سأغادر مدينتي الصغيرة، الأشبه بقرية، وأتجه إلى العاصمة دمشق، لن تتغيّر عليَّ الشوارع والبنايات والازدحام والضجة فحسب، بل ستتغيّر بنية المجتمعات تغيّراً شبه كامل. هناك خوف متشابه يقبع في الصدور، حذر، ورائحة عداء خفيّ بين البشر، ولكن هناك تلك الأمور الحميمة التي لم يكن أحد يتحدّث بها إلا سراً في مدينتي الصغيرة، فغرفة نوم الزوجين «سرّ من أعتى وأخطر الأسرار التي لا تُفشى» حسب المقولة السائدة عندنا، كانت أموراً علنية في تجمعات النساء الدمشقيات، بل ومناسبات للمفاخرة! السذاجة الجنسية كانت تقبض على كل فتيات القرى. إحدى فتيات سنتنا الأخيرة في الجامعة كانت توزع الشوكولا احتفالاً لأن الدورة الشهرية أتتها ولم تكن حاملاً، وذلك بعد أن هرس أعضاءها الحميمة شاب متحرّش في إحدى المساءات، فيما كانت عائدة إلى غرفة السكن الطلّابي في المدينة الجامعية. هذا السر أفشته صديقتها الفرحة أكثر منها! السذاجة الجنسية، كما الجهل بعوالم الجسد الأنثوي، كانت أموراً للتندر والسخرية في مجتمع نساء العاصمة.
بدايةً بَدَت دمشق العملاقة عصيّة على سذاجتي القروية، رافضة لي ومتمنعة. كان حباً من طرف واحد، واحتاج الأمر وقتاً طويلاً كي تهبني المدينة أسرارها وحبها وتفاصيلها المتباينة. في روح دمشق الأنثى ثمة نساء عديدات، هناك دمشق الصارمة، القديسة، الأم، العاهرة، المثقفة، الحرة والمحافظة، كل النساء هنّ دمشق! وعلى العاشق أن يتقبّل كل امرأة منهن، بل أن يعشقها، إذا أراد لدمشق ان تهبه قلبها.
في صباح أول يوم عمل في العاصمة كانت المتزوجات الدمشقيات تسردن بالتفاصيل المملّة ليالي الخميس مع أزواجهن. لياليهنّ الحمراء التي لا يخفت ألقها. منهنّ من كانت تأتينا بالثياب الداخلية التي اشترتها، ومنهنّ من ترينا علامات الحب الزرقاء المنتشرة على نحرها وصدرها. حتى أن الست ‘أم توفيق’، التي كانت قد تجاوزت الستين من عمرها قبل أيام وتستعد للخروج إلى المعاش، كانت تصحبنا في كل رحلة تسوّق نقوم بها، كي تشتري «تفريعة» جديدة لزوجها الفحل أبو توفيق، الذي كان قد تجاوز الخامسة والستين وما زال قادراً على المعاشرة مرتين كل أسبوع كحصان جامح.
-«أنا عوّدت أبو توفيق الله يخليلي ياه على تفريعة جديدة كل شهر، أحياناً أشتري له مرتين فهو يحب الثياب الداخلية المثيرة عليّ. تعرفين هذا يجعله كالحصان المجنون، يأكلني أكلاً..».
وتضحك أم توفيق بصخب ضاربة على كتفي. ثم تعود لتعيد على أسماعي نظريتها الأثيرة أن المرأة عليها أن تُشبع عين زوجها بالجنس كي لا ينظر إلى غيرها أبداً.
في مدينتي، وفي طائفتي على وجه خاص، كانت المرأة تتحوّل بعد زواجها إلى كائن مُهمَل، تصبح عجوزاً في الأربعين أو في أحسن الأحوال في الخامسة والأربعين. هل كانت تلك السنين الضوئية التي تفصلنا عن بعضنا بفعل منابتنا الطبقية المختلفة؟! أم أن الأمر يخصّ طريقة تعاطي الرجال مع أجساد النساء؟! أم أنه الفرق بين الريف والمدينة؟ أو لربما كان الجهل والتقوقع؟ أم أن في الأمر أشياء أخرى؟! سيظل هذا السؤال يشغلني فترة طويلة قبل أن أتجاوزه وأكفّ عن إتعاب ذهني به. المهم أن أم توفيق، ومثيلاتها من النساء الدمشقيات، علّمتني أشياء كثيرة غير اعتدادي بأنوثتي حتى لو بلغت الثمانين، وغير تأليه الشبق والإعلاء من شأن الجسد، وغير أن الحرية لا تختصّ بمظاهرنا فقط بل بعمق أرواحنا، وهي أن الرجال ينسون بسرعة، وعلينا نحن النساء، اللواتي لا يمكننا النسيان بسهولة، أن نستغل ذلك لمصلحتنا وأن نراوغ الزمن والذاكرة، الأمر الذي لم أتقنه يوماً كما يجب.
كان هناك شيء له طعمة الغموض يسيطر على مجتمعات النساء في العاصمة. غموض يجعل للأشياء إثارة أكبر. في الجلسات النسائية تأتي الأمهات لتنتقي لأولادهنّ عروساً. تقترب من الصبيّة، تشمّ رائحة جسدها وفمها، تلمس شعرها، وقد تجرؤ على لمس ثدييها أيضاً، كل ذلك بحجة أنها تغمرها أو تسلّم عليها. الصبايا أيضاً يتقنّ اللعبة، يعرفنها عن ظهر قلب، ويلعبنَ دورهنّ فيها ببراعة. فعلى كل منهن أن تنضّد حجابها حالما تطأ مكان التجمّع النسائي. تدخل إلى زمن آخر لا يشبه زمنها خارجاً، زمن عليها فيه أن تبرع في استعراض أنوثتها واستجلاب العيون المعجبة، التي من الممكن أن يصبح زوج منها لحماة المستقبل. تنتقل من زمن «خارجي» يتعامل مع جسدها الأنثوي باعتباره عورة عليها سترها وتحجيمها، إلى زمن «داخلي» على جسدها أن يكون فيه كملكة متوجة بالأنوثة، وإلا ستخسر فرصها في زواج قريب.
لمجتمعات مدينتي الصغيرة وطائفتي وضوح اجتماعي. الصبايا يمشين في الشوارع مكشوفات الرأس، التجمعات العائلية مختلطة، النساء يحتفلنَ مع الرجال بشكل طبيعي جداً، الأمر الذي يجعل الغموض شبه معدوم في حيواتنا، ولكنه يجعل أيضاً إثارة العلاقات الحميمة وأسرار الزوجية شبه معدومة أيضاً.
لم يكن ثمة من يحدّثني في بيتنا بمواضيع مشابهة. ولكني كنت قد أدمنت عالم الكتب. وفي الحقيقة كان عالماً شديد الغنى. ما لم أكن أجده في حياتنا الفقيرة بالخيال، كنتُ أجده بين صفحات الكتب. كنتُ ألتهمها التهاماً، كأنها جسري الوحيد إلى عالم كبير مغاير غنيّ وملوّن كنت أتوق دوماً إلى معرفته واختباره. نافذتي الوحيدة على حياة أخرى، تلسكوب مكبّر يوسّع عالمي الضيّق، ليغدو رحباً كبيراً فسيحاً فساحة أحلامي. مع الزمن، وحينما سأكتشف العالم، ستبقى الكتب أيضاً ملاذي، لكن في ذلك الوقت ستغدو ملاذي للاستقرار والقرار والثبات، ستفعل معي كلما تقدمت في السن فعلاً معاكساً لما كانت تفعله قبلاً، كالزمن تماماً.
اليوم تبدّلت روح الأماكن، تبدّلت مدينتي البحرية الصغيرة كما تبدّلت دمشق.
المدينتان تبدوان اليوم كامرأتين مفجوعتين، تتصاعد منهما رائحة الاحتضار والدم والكره. والخوف استقر بشكل أقسى وأكثر شراسة. ولكن روحيهما ما زالتا في داخلي، لا يمكن لروح الأمكنة أن تغادرنا، تماماً كما لا يمكن لأرواحنا أن تغادر مدننا، ما زال الغموض والوضوح يعيشان بداخلي، رطوبة البحر وجفاف العاصمة، سذاجة القرية وخبرة المدينة، والأهم ما زال هناك حنين مؤلم وقاسي يقرع روحي مراراً ولا يمكنني مقاومته!
جزء من نص نُشر مؤخراً في كتاب صدر بالهولندية عن مؤسسة DW بنصوص لـ 16 كاتبة عربية بعنوان: أصوات نسائية عربية Vrouwelijke arabische Stemmen. موقع الجمهورية