حين نقلنا البندقية من كتف إلى أخرى/ وائل السواح
سألني جميل حتمل: “أيّ خطط لعيد ميلادك هذه السنة؟”.
كنا في بيتي الذي استأجرته مع برهان الزعبي في المزّة. كان شتاء 1980 قاسياً، ولم يكن لدينا مازوت لنضعه في المدفأة، ولكننا كنا ندفّئ أنفسنا بشرب نوع رخيص من البراندي السوري ونأكل حبات من الفول المسلوق، بينما تمدّد برهان على السرير يقرأ في كتاب ما.
“لن أحتفل بعيد ميلادي هذه السنة”، قلت لجميل، وصمتّ لحظة، قبل أن أضيف: “سنحتفل جميعاً بعيد ميلاد جبرا”.
اعتقل جبرا قبل أشهر، وعيد ميلاده في 5 شباط/ فبراير، بعد يوم واحد من عيد ميلادي. لم أعرف أحداً لم يقع في غرام جبرا حين عرفه. وكان اعتقاله صدمة لنا جميعاً. ولأن ذلك كان أوّل عيد له يمرّ وهو في المعتقل، فقد ارتأيت أن نحتفل جميعاً بعيد ميلاده هو.
غريب كيف ننظر إلى الأمور في أعمار متفاوتة. في شبابي الأول، كان الاحتفال بعيد الميلاد مسألة مقدّسة، سواء أكان عيدي أم عيد أي من الأصدقاء. ومع توغّلي في السنين، بات العيد عبئاً علي، لا أعرف كيف أتهرّب منه وأداريه حتى لا أتلقى عبارات التهنئة والتبريكات.
وسأل جميل: “أين؟ عند عزام؟”.
وكان ذلك منطقياً، فمعظم احتفالاتنا كنّا نقيمها في شقّة برج الروس عند عزّام، ولكن برهان صاح: “بل هنا. في بيتنا هنا”.
بدأنا نعدّ للحفلة قبل يومين، وفي 4 شباط، بعد الظهر بقليل، اشتريت نبيذاً وعرقاً وبيرة ومكسرات، استعداداً لليوم التالي. ولكنّ جبرا فضّل أن يفاجئنا ويحضر حفلته بنفسه. برهان وأنا كنا في البيت نتحضّر ليوم غد، حين سمعنا طرقاً عنيفاً على الباب. نظر كلّ منا إلى الآخر برعب، وجمدنا في مكاننا، نحملق في الباب. لا أحد يطرق الباب بهذه الطريقة سوى رجال الأمن. ولكن أولئك غالباً ما يأتون فجراً. برهان تقدّم من الباب بخفّة قط، وراح ينظر من العين السحرية، وهو يستعدّ لإعطائي إشارة الهرب، لو كان الطارق من نخافه.
“يلعن سماك!”، قال بمزيج من الغضب والفرح، ثمّ أضاف: “هذا غسان!”.
وكما تفعل عاصفة هوجاء عاتية، اندفع غسّان سلمان إلى البيت وهو يصيح:
“الشباب طلعوا!”.
لم نستوعبْ.
“أي شباب؟
-شباب الرابطة وكل اليساريين؟
– مين منهم؟
– الكل… الكل…”.
كان ذلك أشبه بالحلم. حافظ الأسد فتح أبواب سجونه وأطلق سراح مئات المعارضين من اليسار السوري باستثناء ثلاثة عسكريين: العقيد خضر جبر والمقدم مصطفى معتوق والملازم الأول طارق شبيب. كان حقد الأسد الأب على العسكريين وخوفه منهم منعه من الإفراج عنهم، ومكثوا في السجن 13 سنة إضافية بسبب الخوف والحقد.
كان الصراع بين النظام والإخوان المسلمين تنامى إلى حدّ كبير، ما جعل الأسد وأركان نظامه يستشعرون خطراً حقيقياً. ولكسب جزء من الشارع، أمر الأسد بإطلاق سراح المعتقلين من رابطة العمل الشيوعي (حوالى 130 رفيقاً بينهم 10 نساء) ومنظمات يسارية أخرى، كـ”اتحاد الشغيلة” و”الفصيل الشيوعي” و”الحزب الشيوعي- المكتب السياسي”. ولكن سياسة الاعتقال عادت بعد أشهر، فاختطف نهاد نحاس وبرهان الزعبي وجمال سعيد وحسام علوش وجفان الحمصي وحسين محمد ومحمد عبود الذي كان أول شهيد في جماعتنا، وغيرهم بعد أشهر فقط من الإفراج الكبير.
خلال ساعات عجّ بيتنا بالرفاق والأصدقاء، وانتهى الأمر بأن نحتفل بعيد ميلاد جبرا قبل يوم. ولكن اليوم لم يكن فرحاً كبيراً لجبرا، إذ كان عليّ أن أختلي به في إحدى الغرفتين، وأخبره عن حبيبته التي تركته وأحبت سواه.
عقدنا في اليوم التالي اجتماعاً للجنة العمل، وأخذنا رزمة من القرارات، منها الاتصال بجميع الرفاق، وترميم الهيئة المركزية بأعضائها السابقين، وإضافة بعض الرفاق الأساسيين إلى الهيئة. وطلب مني لقاء عدد كبير من الخارجين، بعضهم وافق مباشرة على العودة واستئناف العمل، وبعضهم قال لي “شكراً. اكتفينا”. وبين من تواصلت معهم كان يوسف عبدلكي. كان قرار لجنة العمل ضمّ يوسف عبدلكي إلى الهيئة المركزية. وكنت ضدّ هذا الرأي، فمهمة يوسف الحقيقية ليست في النضال اليومي والهرب من الأمن، بل في الرسم والحفر والفن، وكان يحاول السفر إلى باريس للدراسة في مدرسة الفنون الجميلة (بوزار) هناك. ومع ذلك كان عليّ أن أنقل الرسالة له.
التقيته بعد ظهر يوم آذاري جميل، بعدما خفّ عدد زواره والمهنئين. كان نحل قليلاً وبدت عليه الحكمة أكثر، ولكن روح الدعابة والابتسامة الساخرة على شفتيه لم تتغيّرا أبداً. قلت له:
“معي لك رسالة من الرفاق. يريدونك في الهيئة المركزية”، وصمتّ وأنا أنظر في عينيه، لأتأكّد من أنه فهم الرسالة. ثمّ سألته:
“-وصلتك الرسالة؟
نعم!
أما رأيي الشخصي فهو ألا تلقي بالاً لهذه الرسالة وأن تكمل مشروعك في السفر والدراسة في باريس، فأنت كفنان أهمّ من عشرة مناضلين ثوريين مجموعين”.
هزّ يوسف رأسه بصمت. لم يقلْ لي ما سيفعل ولم أشأ أن أسأله. بعد شهور غادرنا إلى باريس، وصقل موهبته بالثقافة والتقنيات، وغدا فناناً تُعرض لوحاته في دور العرض والمتاحف الكبيرة.
في الأشهر التالية، ازدادت حدّة الصراع بين حافظ الأسد والإخوان المسلمين من جهة، وبينه وبين معظم السوريين من جهة أخرى. وحين ضرِبت المدن الكبرى في ربيع 1980 ومعها نقابات المحامين والأطباء والمهندسين وغيرها من النقابات المهنية، تساوي الأسد، ومعه شقيقه رفعت الذي طالب علناً في المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الذي عقد أواخر 1979 وأوائل 1980 بالسماح له بقتل مليون سوري، بين تحرّك الإخوان والتحرّكات الشعبية المطالبة بالحريات السياسية، وحسم خياره باستخدام الدم وما سماه “العف الثوري”، مستخدماً إضافة إلى سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والمخابرات، ميليشيات مسلحة تابعة لحزب البعث، وهو التكتيك نفسه الذي انتهجه وريثه بشار في مواجهة الثورة السورية عام 2011.
في هذه الفترة، دارت في صفوف الرابطة نقاشات كثيرة حول دور الإخوان المسلمين السياسي، وامتدت هذه النقاشات لتشمل الجناح الذي كان انشقّ قبل أشهر عن خالد بكداش بقيادة مراد اليوسف، والحزب الشيوعي السوري – منظمات القاعدة، والحركة الصغيرة التي انشقت عن المكتب السياسي بزعامة يوسف نمر، وفيها نخبة لا بأس بها من كوادر المكتب السياسي.
تبلورت النقاشات بعد أشهر عبر تقرير أصدرته الهيئة المركزية لرابطة العمل الشيوعي، عُرف لاحقاً باسم “تقرير آب”. وفي هذا التقرير، قررت الرابطة “نقل السلاح من كتف إلى أخرى”، “سنجمّد شعار إسقاط النظام، مستبدلين به شعار دحر التحالف الرجعي الأسود”. وحين شرحت لرفاقنا هذه الخطوة ذكرت مقولة لينين بعيد ثورة شباط/ فبراير 1917 حول ضرورة قتال قوّات الجنرال كورنيلوف الذي انتفض ضدّ الحكومة الموقتة التي كان يقودها كيرنسكي، لأن كورنيلوف أشدّ خطراً على العمّال والفلاحين الروس من البرجوازي الصغير كيرنسكي. وتطبيقاً لتلك السابقة اللينينية فإن رابطة العمل قرّرت نقل البندقية من كتف إلى كتف، وتوجيهها مبدئياً نحو كورنيلوف (عصام العطار) ووقف الهجوم ضدّ كيرنسكي (حافظ الأسد).
كان تصوّرنا يقوم على المعادلة التبسيطية التالية: ثمّة صراع يدور بين شريحتين متناقضتين من البرجوازية السورية: البرجوازية البيروقراطية والبرجوازية الطفيلية. وبينما الشريحة الأولى التي كان يقودها حافظ الأسد شريحة لا وطنية إلا أن لها مواقف تخدم القضية الوطنية وهي تقف في مواجهة تيار كامب ديفيد والتفريط بالقضية المركزية (فلسطين). في المقابل، الشريحة الطفيلية، التي كان يقودها “حلف رجعي أسود” بين الحركة الإسلامية وبعث العراق وتيار كامب ديفيد، مواقفها من القضية الوطنية فيها خيانة، وهي مستعدّة للتفريط بالقضية المركزية وعقد سلام مع إسرائيل على غرار كامب ديفيد. وهي إضافة إلى ذلك شريحة فاشية متخلفة ورجعية. ولأن قوّة النظام في تراجع بينما الحلف الرجعي الأسود في تقدّم، وقد اشتدّ الصراع إلى حدّ نشأ معه نوع من ازدواجية السلطة في حماه وحلب، فإن من الواجب الوقوف ضدّ التيار الأشدّ خطورة ورجعية بين التيارين، بخاصة أن القطب الثالث، الحركة الوطنية السورية، في حال من التشتّت والضعف ما يجعله غير قادر على لعب دور مستقل. ذلك أن من غير المنطقي أن تساهم رابطة العمل في تقدّم برنامج أكثر تخلّفاً وفاشية عن برنامج النظام الراهن.
والحال أنه لم نكن نملك في الأساس بندقية لننقلها من كتف إلى كتف، ولم تكن مواقفنا لتؤثر في الصراع الشرس بين النظام والإخوان المسلمين.
والحال أيضاً أن مقولة القتال إلى جانب كيرنسكي ضدّ كورنيلوف ليست خاطئة سياسياً فقط، وإنما تاريخياً أيضاً. فما قاله لينين في رسالته الشهيرة في 12 أيلول/ سبتمبر 1917 كان: “سوف نقاتل، ونحن نقاتل بالفعل، ضدّ كورنيلوف، مثلما تفعل قوات كيرنسكي، ولكننا لا ندعم كيرنسكي. على العكس من ذلك، نكشف ضعفه. هناك فرق. إنه بالأحرى فرق بسيط، لكنه ضروري للغاية. ويجب ألا ننسى”. ويضيف لينين: “نحن نغيّر شكل كفاحنا ضد كيرنسكي. ومن دون التخفيف من عدائنا نحوه، من دون التراجع عن كلمة واحدة قيلت ضدّه، أو التخلي عن مهمّة الإطاحة به”. وحين اقترب كورنيلوف من بتروغراد دعا لينين إلى تصفية كيرنسكي قبل التفرغ لقتال كورنيلوف.
ومع ذلك كان خطأنا الأكبر أننا لم ننتبه إلى أن الشارع السوري كان بدوره يتحرّك ضدّ النظام، وأن نخبه المثقفة كانت تتحسّس حركة الشارع أكثر مما كنا نتحسّس نحن من خلال كتبنا وقوالبنا الجاهزة. وخلطنا، ربما عامدين بين حركة النقابات والمثقفين والكتاب ومناضلين بعثيين قدامى يقودهم من باريس صلاح البيطار من جهة، وحركة الإخوان المسلمين وطليعتهم المقاتلة وعصابات صدّام حسين من جهة أخرى، ما وضع غشاوة على أعيننا، منعتنا من رؤية الأمور على حقيقتها.
في المقابل، اتّجه رفاقنا في المكتب السياسي في الاتجاه المعاكس، فنسوا أي خلاف فكري وسياسي بينهم وبين الإخوان المسلمين، ودفع في رسالة داخلية للجنته المركزية في حزيران/ يونيو 1980 إلى التفكير في خيار تكوين “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”، ربما تحت تأثير حدث الثورة الإيرانية، الذي شارك فيه شيوعيون وإسلاميون. وكانت جريدة “نضال الشعب” الناطقة بلسان الحزب كتبت قبل سنة تقريباً افتتاحية. ولم يثن الرفاق على ترفّع الإسلاميين عنهم ولا رسائل التهديد التي كانت تنشرها الطليعة المقاتلة من خلال أشرطة كاسيت، داعية اليساريين إلى العودة إلى “جحورهم”. ولعلّ أكبر خطأ ارتكبه المكتب السياسي كان إرسال عضو اللجنة المركزية أحمد محفل لحضور “المؤتمر الشعبي القومي” في بغداد، في آذار/ مارس 1980، الذي أثار جدلاً داخلياً حاداً. وبعد أشهر، دفع رياض الترك، الزعيم التاريخي للحزب، نحو 18 عاماً أمضاها في زنزانة انفرادية تحت الأرض في فرع التحقيق العسكري.
يتحدّث الكاتب السوري وائل السوّاح في هذه المادّة عن انقسام مواقف اليسار السوري من أحداث مطلع الثمانينات في سوريا، وكيف عدّلت رابطة العمل الشيوعي استراتيجيتها في إسقاط النظام…
يتحدّث الكاتب السوري وائل السوّاح في هذه المادّة عن انقسام مواقف اليسار السوري من أحداث مطلع الثمانينات في سوريا، وكيف عدّلت رابطة العمل الشيوعي استراتيجيتها في إسقاط النظام…
درج