عن تدهور الليرة السورية والازمة الاقتصادية الخانقة التي يرزح تحتها الفقراء في سورية -مقالات مختارة-
إنتحار السوري بطراً/ عمر قدور
مع بداية هذا الأسبوع انتحر رجل سوري، بإلقاء نفسه من فوق الجسر المسمى بجسر الرئيس حافظ الأسد في وسط دمشق، وتناقل السوريون صورة لقصاصة ورق كتب عليها القتيل يطلب المسامحة من ربه، ومن أهل الخير مساعدة أسرته على العيش، متوجهاً بالاعتذار لأبنائه لأنه لم يكن يستطيع تأمين الغذاء والتدفئة لهم. في الوقت نفسه، كانت مستشارة بشار “بثينة شعبان” تطل بلقاء تلفزيوني لتصرّح بأن “الاقتصاد السوري” أفضل بخمسين مرة مما كان عليه عام 2011، معتبرة ارتفاع سعر صرف الدولار إزاء الليرة وهمياً. تصريح المستشارة قوبل بسخرية واسعة، حتى في أوساط موالية، ما استدعى منها التوضيح بالقول أنها تحدثت عن الاقتصاد لا عن الوضع المعيشي!
ستأتي مظاهرات السويداء، تحت شعار “بدنا نعيش”، بمثابة رد عملي على التحسن المزعوم للاقتصاد، مع تدهور إضافي جديد في اليومين الماضيين في سعر صرف الليرة السورية وتبعاته لجهة ارتفاع أسعار السلع الأساسية. ينضم إلى هذا السياق توقيع ترامب على قانون سيزر الذي يتضمن رزمة جديدة من العقوبات على سلطة بشار والمتعاملين التجاريين معها، وربما سيكون له انعكاسات معنوية أكثر مما هي فعلية على سلطة لا تملك في الأساس اقتصاداً وعلاقات اقتصادية خارجية واسعة، في حين يبقى العامل الضاغط هو عدم قدرة الحليفين الروسي والإيراني على إنقاذ بشار اقتصادياً بينما يعاني اقتصادهما من التدهور.
بحسب تصريح بثينة شعبان عن تحسن الاقتصاد، لا مبرر لانتحار ذلك السوري سوى البطر! وإذا أخذنا دوافع تصريحها، الذي يبقى صادماً بوقاحته رغم التوضيح الصادر لاحقاً، فهو قد يكون رداً على قانون سيزر، إلا أنه ينطوي على احتقار هائل لمعاناة السوريين الذين يعيشون تحت سيطرة الأسد، ومن ضمنهم الشريحة الفقيرة من الموالين. من هذه الناحية، لا يحمل التصريح جديداً، فاحتقار عموم السوريين أمر درجت عليه سلطة الأسد، وهو جزء من منظومة القهر المعنوي التي لا تتوقف عن ممارستها، ووظيفة إنكار الواقع “عبر الكذب الوقح” تصب في الاحتقار العلني لعقولهم وكراماتهم مع القدرة على إبقائهم صامتين بالبطش.
تباهي سلطة الأسد بأنها لا تخضع للضغوط الاقتصادية، والمباهاة هي تحديداً في عدم اكتراثها بمعاناة السوريين. هنا يجدر بنا تذكر استخدامها السلاح الاقتصادي علانية، بحصارها المناطق الخارجة عن سلطتها تحت شعار: الجوع أو الركوع. لكن، خارج حربها على الثورة، كانت السلطة على الدوام تستخدم السلاح الاقتصادي، فهي المتحكم الوحيد بمفاتيح الاقتصاد والثروة وتوزيعها، والمحصلة كانت دائماً إفقار غالبية السوريين كوسيلة قمع مستدامة مع شراء القدر اللازم من الولاءات عبر منظومة الفساد والنهب ذاتها.
من قتل ويقتل سوريين لأنهم ثاروا عليه لن يكون أرأف بسوريين آخرين تحت سلطته التي لا ترحم إطلاقاً، فنحن لسنا أمام نظام أبارتيد على النحو الذي سوّق له الأسد وشبيحته مع مستهل الثورة. إن نظام التمييز يضمن على الأقل كرامة جنس بشري على حساب جنس بشري آخر، ولا يكون على شكل عصابة تكنّ أو تظهر الاحتقار للجميع. هذا الفهم يبدو ملحاً اليوم لأن سوريين كثراً على الجانبين انزلقوا إلى فخ اعتباره نظام تمييز، إما على أسس سياسية أو طائفية. ليس من المصادفة إطلاقاً أن تقتل ماكينة الأسد في الوقت نفسه سوريين تحت القصف وسوريين آخرين تحت الجوع، هذا هو جوهر عملها وضمانة بقائها.
جوهر الماكينة الأسدية يُفترض أن يشير من جهة أخرى إلى حال نقيضها، والنقيض المفتقد “لأسباب ومبررات وجيهة” هو الخطاب المضاد لها، الخطاب الذي يرى نفسه معنياً بالشريحة المتضررة الأوسع من السوريين. هذا الخطاب بطبيعته يعلو “أو يتعالى” على كثير من الجراح، وأولها عدم وجود وعي مشترك لدى هذه الشريحة، وعدم وجود اتفاق ضمنها على أسباب الكارثة السورية، وتالياً على سبيل الخلاص منها.
لا توجد اليوم قرابة ظاهرة بين هتاف السوريين عام 2011 “الشعب يريد إسقاط النظام” وهتافات في مظاهرة السويداء من قبيل “طاء طاء طائية.. طز بالدولة السورية”، أو “هيه هيه يا بلادي.. حكومتنا قوادة”. ربما كان بين يهتف في السويداء أشخاص وقفوا على الضد من الثورة، ولم تؤثر بهم مشاهد الإبادة والتدمير والتهجير الذين تعرض لهم ملايين السوريين، بمعنى أن هذا البعض لم يتحرك إلا عندما مُسّت مصالحه إلى حد لا يُطاق. هذا مؤشر يصعب التعاطي معه بعقل بارد، ويصعب بشدة فهمه من منظور الأخلاق، لكن لغة المصالح “مع الأسف” لها الكلمة الفصل لا في التجربة السورية فحسب وإنما في العديد من التجارب المماثلة، مع التنويه الدائم باستثنائية القمع الأسدي وتعميمه ثقافة الخوف والخلاص الفردي.
واحدة من المهام العسيرة والشائكة اليوم هي مهمة بناء خطاب يتجاوز الانقسام الذي يبدو مستقراً منذ عام 2011، وهو باقٍ على الصعيد النظري أكثر مما هو واقعي، لأن التصدعات ضربت وتضرب جانبي الانقسام. الخطاب المأمول يتنطع بطبيعته لمهمة شاقة، هي تجريد سلطة الأسد من ولايتها على قسم من السوريين، بأن يُطرح كممثل لكافة المتضررين منها، سواء ارتضوا ذلك أو لم يرتضوا. الحالة السورية تتولى تفسير الجملة الأخيرة، لأن انتظار انتظام المتضررين من تلقاء أنفسهم حول خطاب مشترك لن يأتي بالنتيجة، وحتى وقوفهم مع هذا الخطاب في حال وجوده لن يكون قابلاً للقياس أو مضموناً، رغم الحاجة له.
تقدّم الظروف الحالية كافة موجبات اجتماع المتضررين، بقدر ما تقدّم كافة عوامل اليأس والشكوك والمخاوف، فالانهيار الاقتصادي لن يتوقف عند هذا الحد، ووحشية سلطة الأسد ستزداد معه منعاً لانعكاساته السياسية. المتضررون الجدد رأوا للتو ما حل بالذين ثاروا على الأسد، ورأوا أيضاً عدم اكتراث العالم إزاء المقتلة السورية، وهذا لن يشجعهم على فعل يتجاوز التذمر أو الاحتجاج الناعم. أما القدامى فهم واصلون أصلاً إلى القطع النهائي مع سلطة الأسد، ولم تبقَ سوى شعرة تربط قسماً صغيراً منهم بهياكل المعارضة التي تزعم تمثيلهم. هي لحظة مناسبة لتقدّمِ خطاب يدافع عن الضحايا، يدافع عن السوريين الواقعين تحت القصف والقتل وعن أولئك الذين يُقتلون ببطء. يمكن مثلاً الإصرار على محاسبة المجرمين وعلى إطلاق سراح المعتقلين، وفي الوقت نفسه الدفاع عن حق الجميع في العيش، والمطالبة بعقوبات دولية لا تزيدهم بؤساً، أو على الأقل قيام المؤسسات الدولية بواجباتها الإنسانية إزاءهم. لقد هتف المتظاهرون في بداية الثورة “سوريا لنا وما هي لبيت الأسد”، واليوم تتجدد أهمية ذلك الهتاف، لا على أرضية النزاع على سوريا وإنما النزاع على السوريين.
المدن
——————————
بشار معترفاً ومتوعَّداً/ عمر قدور
لم يتأخر بشار الأسد في الرد على مظاهرات السويداء، تحسباً من استفحال الاحتجاجات على تدهور المعيشة، إذ سرعان ما أصدر المرسوم رقم 4 القاضي بتعديل المادة 309 من قانون العقوبات لعام 1949. المرسوم قضى بزيادة الغرامة على من يذيع أخباراً كاذبة تزعزع الثقة بالعملة، وكل ما يتعلق بالثقة المالية العامة، من مبلغ يتراوح بين مئتين وخمسين ليرة وألف ليرة إلى مبلغ يتراوح بين مليون وخمسة ملايين. لم ينسَ بشار في مرسومه الجديد تشديد عقوبة السجن، فمنع الأخذ بالأسباب المخففة التقديرية، ومنع إخلاء سبيل المتهم خلال جميع أدوار التحقيق والمحاكمة. فإذا افترضنا جدلاً القبض على متهم بريء، سيترتب عليه انتظار النطق بالحكم ليُخلى سبيله، من دون أن يكون له الحق في الادعاء على من سجنوه ظلماً طيلة تلك المدة.
يفترق المرسوم الجديد عن روح قانون العقوبات الذي أتت المادة المذكورة في سياقه، فالمرسوم يجرّم “كل” من أذاع أو نشر مزاعم كاذبة أو وهمية لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية، بينما العقوبة في القانون الأصلي موجّهة إلى تنظيمات تقوم بهذه العملية حيث تكون عقوبة السجن مشددة نسبياً فيما لو كان المتهم موظفاً أو مسؤولاً في التنظيم. جدير بالذكر أن سياق قانون العقوبات الأصلي يتعلق بمكافحة ما يعتبرها تنظيمات إرهابية، والمادة اللاحقة 310 تنص على محاكمة الأفراد فقط في حال تحريضهم على سحب الودائع من المصارف والصناديق العامة أو بيع سندات الدولة.
الفارق الشاسع في العقوبة المنصوص عليها مالياً يفضح كذب صاحبها، فالانتقال من مبلغ ألف ليرة إلى مبلغ خمسة ملايين كحدين أقصيين للعقوبة يقول وحده ما حلّ من انهيار بالليرة السورية منذ بدء الحكم الأسدي حتى اليوم. عام صدور قانون العقوبات كان الدولار الأمريكي يعادل 2.2 ليرة سورية، ولم تكن هناك أسعار صرف تعسفية مفروضة من السلطة، أو على الأقل لم تكن أسعار السوق تختلف عن سعر الصرف المعتمد في المعاملات المالية الرسمية.
الغرامة الضخمة في المرسوم الجديد في حد ذاتها اعتراف بما يعاقب بشار السوريين على قوله. أكثر من ذلك، تبلغ قيمة الغرامة القصوى الجديدة قرابة 11500 دولار، ولا تقل عن 2300 دولار بسعر الصرف الذي تعتمده سلطته. بينما في القانون القديم، وقت إصداره، كانت الغرامة تتراوح بين 113 دولاراً و454 دولاراً. وحتى إذا أخذنا سعر الصرف الحقيقي السائد مؤخراً، فإن الغرامة القصوى تزيد عما يعادل 4000 دولار أمريكي، ورفع الغرامة بهذا المقدار مع لحظ التدهور المعيشي عما كان من قبل يعني المزيد من التشدد في العقوبة المالية، وعلى الأغلب استحالة دفعها من قبل غالبية من سيحاكَمون وفق المرسوم الجديد.
لو كانت سلطة الأسد ديكتاتورية، كما يصفها البعض اعتباطاً، لربما أصدر الديكتاتور حينها مرسوماً يتشدد في عقوبة السجن بهدف قمع الاحتجاجات على الغلاء، وبخدمة الترهيب المنظم الذي يمارسه. لو أن بشار الأسد نفسه أصدر مرسوماً يعدل فيه عقوبة السجن المنصوص عليها في القانون، لتصبح خمس سنوات مثلاً كحد أقصى، لأمكن فهم المرسوم على محمل تذكير السوريين بوجود هذه المادة وتوعّدهم بتفعيلها مع التشدد في العقوبة، وأمكن ردّ هذا التعسف إلى “نظام” ديكتاتوري يفرض هيبته.
المبالغة في قيمة الغرامة المالية تدحض الافتراض السابق، وتشير إلى سلطة من نوع شديد الشذوذ حقاً، سلطة تريد التكسب المالي حتى من أولئك المحتجين عليها بسبب فقرهم المدقع. لدينا سلطة لا توفر فرصة للنهب بشتى الأساليب والذرائع، بما فيها الاستخدام العجيب للقانون، مهما قلنا عن غياب سلطة القانون في الأصل. ومن خلال التجارب المريرة المعهودة، نعلم أن المرسوم الجديد سيتيح سبلاً لابتزاز بعض السوريين من قبل أزلام بشار الذين لن يتورعوا عن توجيه الاتهامات لهم، ثم قبض رشاوى منهم لتخليصهم من الافتراء الذي مارسوه عليهم.
فكرة التكسب من المحتجين أو المعارضين ليست بالجديدة تماماً، فقد مورست على نطاق ضيق نسبياً في الثمانينات، عندما استولى قادة أجهزة مخابرات على عقارات ثمينة تعود ملكيتها لأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك يتم إما بالسطو على العقار فحسب، أو بادّعاء ملكيته أمام السجل العقاري، بغياب صاحبه المعتقل أو الهارب الذي لا يستطيع الاعتراض. مع انطلاق الثورة، برز “التعفيش” كأسلوب لاستباحة الممتلكات في المناطق الثائرة من قبل قوات وشبيحة الأسد، ليتخذ شكلاً “قانونياً” بإصدار قوانين تنص على مصادرة أملاك المعارضين وأفراد أسرهم. المرسوم الجديد، بشقه المالي، بمثابة استئناف لسياق وضيع من الاستباحة، أقل ما يُقال فيه أنه يعود إلى بربرية ما قبل الدولة.
في الواقع لا توفر سلطة الأسد مناسبة لإفهام من لم يفهم أنها على الضد من فكرة الدولة، وأنها أقرب إلى مفهوم العصابة المسلحة التي تتعاطى مع عموم السوريين كرهائن. المرسوم الجديد يؤكد ذلك لأولئك المحتجين، وفي ظنهم أنهم يحتجون على “الدولة” التي ينبغي أن تحتضنهم وترعاهم. لا ننسى هنا أن تعبير “الدولة” قد برز في أوساط الموالين مع بدء الثورة لإضفاء مشروعية على الحكم من خلال المطابقة بينه وبينها، وبحيث يكون الخروج على الأسد خروجاً على الدولة والوطن. أيضاً كان لإبراز تعبير الدولة، لمناسبة الثورة، مهمة تبرير عنف شبيحة وقوات الأسد على اعتبار أن الدولة هي التي تحتكر استخدام العنف.
توعّدُ بشار المحتجين على غلاء المعيشة بالسجن ودفع الثمن مالياً هو دليل جديد على العقل الذي يدير دولته المزعومة، والرسالة موجهة لجميع الباقين تحت سيطرته بلا استثناء. ليس من باب الهجاء أو القدح القول بأن على جميع الواقعين تحت السيطرة، المحتجين منهم والذين لن يراودهم خاطر الاحتجاج مطلقاً، التفكير انطلاقاً من أنهم رهائن، ومن يريد الخروج من قبضة الخاطفين “ومن لا يريد الخروج أيضاً” عليه ألا يتوهم للحظة ارتخاء قبضتهم.
المدن
——————————-
إنقاذ الليرة السورية مسرحياً/ قاسم البصري
انتظرَ بعض السوريين من نظام بشار الأسد اتخاذ خطواتٍ جدية للتعامل مع أزمة انخفاض سعر صرف الليرة السورية، وارتفاع معدلات الأسعار والضعف الشديد في القوة الشرائية؛ خطواتٍ من شأنها أن تنعكس بنتائج إيجابية على أوضاعهم المعيشية التي وصلت إلى مراحل قصوى من التردي والفقر، ولكنهم تفاجأوا بإطلاق حملةٍ إعلامية، بتوجيهٍ من جهات في النظام غالباً، حملت عنوان «ليرتنا عزتنا»، تشجّعُ التجار على «دعم العملة المحلية» من خلال تقديم خدمات وبيع مواد غذائية بأسعار بخسة منافية للسوق والمنطق، لتتحول الحملة الوطنية إلى مسرحية تهكمية ملأت وسائل التواصل الاجتماعي على مدار اليومين الماضيين.
وتُظهر هذه الحملة، أياً تكن الجهة التي تقف خلفها، مدى السطحية والقصور اللذين يجري بموجبهما التعامل مع أزمة اقتصادية ومعيشية هي الأكثر مساساً بحياة أكبر قدرٍ من الناس في تاريخ سوريا الحديث، إذا ما استثنينا المناطق التي شهدت شهوراً أو سنيناً من التجويع والحصار التام خلال الثورة. ولن تتجاوز هذه الحملة في نتائجها قليلاً من الفكاهة السوداء التي اتسمت بها تعليقات السوريين في وسائل التواصل الاجتماعي، في سيناريو مشابه لما حصل العام الفائت حين أطلق المصرف المركزي حملةً إعلاميةً حملت عنوان «ادعم ليرتك بالكلمة الطيبة».
ليس النظام غبياً إلى درجة الاعتقاد بأنّ من شأن هذه الحملات أن تنهض بسعر الليرة، ولكنه يعتمدها أداةً لإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية، بشكلٍ يتّسق مع استراتيجيته التي تُفسّر أسباب الأزمة الاقتصادية بوجود تجار عملات ومضاربين في السوق السوداء، فضلاً عن العقوبات الغربية، وبالتالي فإن مسؤولية التعامل مع هذه الأزمة يجب أن يتحملها الناس العاديون بإبراز قدرٍ أكبر من التكافل الاجتماعي للوقوف في وجه العدوين الداخلي والخارجي. تُغفل هذه الاستراتيجية حقيقة أن الناس في سوريا يعرفون الجهات التي تهيمن على سوق القطع الأجنبي، والتي تتْبع أو تنسّق بشكلٍ مباشرٍ مع جهات عائلية وأمنية وعسكرية تشغل مواقع عليا في النظام السوري.
ولكن هل بإمكان النظام إجراء حملات واقعية تحدث أثراً إيجابياً؟ لا بدّ لهذه الحملات أن تتجاوز الضخ الإعلامي عديم الجدوى، وتتركز على تقديم دعم حكومي للسلع الاستهلاكية الرئيسية وتأمينها بأسعار تتناسب مع معدلات الأجور المتدنية في سوريا، بالإضافة إلى منع رجال أعمال النظام التقليديين والواجهات الجديدة من تهريب الأموال إلى خارج سوريا، وكفّ يدّهم عن عمليات الاستيراد المموّلة من البنك المركزي. ولكنّ هذه الإجراءات، على بداهتها، تبدو غير ممكنةٍ إذا ما نظرنا إلى الطبيعة الاقتصادية التي يتسم بها النظام السوري، القائمة على الفساد والزبائنية وتناهب المال العام وتقديمه لدول أجنبية تؤمّن غطاءً ودعماً عسكرياً وسياسياً لاستمرار الحكم الأسدي.
مراسيم!
يدّعي النظام أن المشكلة الحقيقية للأزمة الحالية تكمن في الترويج لأسعار وهمية لليرة السورية مقابل القطع الأجنبي، ولذا أصدر رأس النظام بشار الأسد، مطلع هذا الأسبوع، المرسومين التشريعيين رقم ثلاثة وأربعة للعام 2020، عدّل بموجبهما بنود مراسيم سابقة. وينص الأول على: «منع التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، ومعاقبة المخالفين بالأشغال الشاقة المؤقّتة لمدةٍ لا تقلُّ عن سبع سنوات والغرامة المالية بما يعادل مثلي قيمة المدفوعات أو المبلغ المُتعامل به أو المُسدّد أو الخدمات أو السلع المعروضة».
في حين يفرض المرسوم الثاني: «عقوبة الاعتقال المؤقت وغرامة من مليون إلى 5 ملايين ليرة سوريّة بحقّ كل من يُذيع أو ينشر أو يعيد النشر على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة».
وتلا إصدار المرسومين تسيير عددٍ من الدوريات التي ألقت القبض على بعض أصحاب محلات الصرافة في عددٍ من المحافظات، وجرعةً مضاعفةً من التهكم على وسائل التواصل الاجتماعي، جرى فيها الاستعاضة عن كلمة دولار المُجرَّمة بكلمة «شوئسمو»، لا سيما بعد منشورات وزارة الداخلية المتلاحقة، والتي تُذكّر بأنّ الجهات المختصة تراقب وسائل التواصل الاجتماعي. هذان المرسومان اللذان يتعاميان عن سبب الأزمة الحقيقية يُوضحان مدى إصرار النظام على التعاطي مع الأزمة الاقتصادية من منطلق الإنكار لحقيقة التدهور الذي وصلت إليه البلاد، بشكلٍ يتطابق مع تصريحات بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، التي استندت إلى «خبراء اقتصاديين»، لم تسمّهم، لتقول: «إن الاقتصاد السوري اليوم أقوى بخمسين مرةً مما كان عليه في العام 2011»، معتبرةً أنّ قيمة صرف الدولار التي «يجري الحديث عنها» وهمية، ولا تندرج إلا في إطار الحرب على سوريا.
في الواقع، إنّ سياسة الإنكار هذه لن تغير حقيقة أنّ التدهور الذي يعيشه الناس ناتجٌ عن تحطّمٍ عميق في بنية الاقتصاد أضرّ بلقمة عيشهم، وهو ما دفع المئات من أهالي السويداء للخروج في مظاهراتٍ حملت شعار «بدنا نعيش»، ندّدت بشكلٍ أساسي بسوء الأحوال الاقتصادية وحالة الفقر التي استشرت في صفوفهم. ويبدو أنّ الهدف من مرسومي الأسد، بشكلٍ جزئي، تجريم أي تحرّك مستقبلي يقوم به الفقراء والمتضررون من الأزمة الاقتصادية، باعتبارهم مساهمين في الحملات الهادفة للإضرار باقتصاد البلاد.
المركزي يشتري القطع الأجنبي
من جهته، أعلن مصرف سوريا المركزي بشكلٍ مفاجئ، أول أمس الإثنين، استعداده لشراء النقد الأجنبي من الناس دون وثائق، وبسعرٍ «تفضيليٍّ» يُحدّد بشكلٍ يومي، وقد حدده في اليوم الأول بـ 700 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، وبهذا يكون المركزي قد أنهى مرحلةً طويلةً من سياسة عدم التدخل التي انتهجها طوال الشهور الماضية، وهو تراجعٌ ضمني عن السعر المرجعي الثابت عند 435 ليرة مقابل الدولار منذ العام الماضي.
ويتقاطع إعلان المركزي مع مراسيم الأسد في أنّ النظام يعوّل على أنّ نشر حالة الخوف لدى حاملي القطع الأجنبي والمتعاملين به ومحلات الصرافة ستؤدي إلى تعطل السوق السوداء، وأنّ حصر تصريف القطع الأجنبي من خلال نافذةٍ واحدةٍ هي البنك المركزي ستمكّنه من تحصيل كمياتٍ كبيرة من الدولار الأميركي وإخراجها من التداول في السوق السوداء، وإعادة استخدامها لتمويل المستوردات وتعزيز ثقة الناس بالليرة.
هذه الخطوة جيدة اقتصادياً على المستوى النظري، وقد يكون لها أثرٌ إيجابي على سعر الصرف، ولكنها يجب أن تقترن دوماً بأسعار واقعية لتصريف الدولار، من أجل تحفيز الناس على بيعه للمركزي، وتالياً خفض سعر الدولار بشكلٍ تدريجي وعلى المدى الطويل، أما أن يكون الفرق الأول بين السعر التفضيلي وسعر السوق السوداء أكثر من 400 ليرة، فإنّ ذلك لن يشجع أحداً على بيع الدولار للمركزي. كما أن نجاعة هذه الخطوة متعلقة بحجم المبالغ التي بمقدور النظام شراؤها، أو التي سيُقبل الناس على بيعها، في ظلّ عدم الاستقرار الحاصل في الأسواق، وأن يُستعمل هذا القطع الأجنبي حقاً في تمويل المستوردات ودعم السلع الرئيسية لخفض أسعارها في الأسواق، وأن يكون المركزي قادراً على بيع الدولار بأسعار قريبة من التي يشتريه بها.
الأمر نفسه ينطبق على ما يُسمى في سوريا بـ«دولار الحوالات»، إذ يمتنع السواد الأعظم من السوريين المقيمين في الخارج عن تحويل الأموال لذويهم من خلال منافذ نظامية تمرّ عبر المركزي، وذلك نتيجة الفارق الكبير بين سعر السوق السوداء والسعر الذي يعتمده المركزي، لذا لا بدّ من اتخاذ إجراءاتٍ تقضي برفع سعر دولار الحوالات إلى سعرٍ قريبٍ من سعر السوق السوداء. إنّ مجاراة أسعار السوق السوداء على المدى الطويل، بالتزامن مع انخفاض أسعار السلع في الأسواق نتيجة تدخل المركزي في دعم المستوردات، سيمكّن من رفع قيمة الليرة السورية، ولكن ليس واقعياً التعويل على هذه الإجراءات في الوصول إلى نتائج ملموسة على المدى القصير، حتى إن تمكنت من إحداث تحسّنٍ مؤقّتٍ في سعر الصرف، لا سيما أنها لا تترافق مع انفتاح المركزي على بيع الدولار. ويتعلّق ما سبق بمدى قدرة المركزي على اتباع هذه السياسات، وحجم التدخل الذي يمكن أن يقوم به، ومدى الأموال التي يمكن أن يوظفها لهذا الغرض، وهذا سؤالٌ لا تقدّم مؤسسات النظام معلوماتٍ شفافة حياله.
لقد خرج النظام من مرحلة اقتصاد الحرب التي سادت طوال الأعوام الثمانية الماضية، ودخل مرحلةً جديدةً لا يمتلك الأدوات ولا الثروات ولا البنى التحتية للتعامل معها، ويبدو أنّ مشاريع إعادة الإعمار والأموال التي أَمِلَ في الحصول عليها لتجاوز هذه المرحلة غير متاحة أو ممكنة حالياً، وقد تعثّرت محاولات إعادة تعويمه جرّاء المنع والعقوبات الأميركية وعدم التجاوب الغربي، ولا شكّ بأنّ الأزمات الاقتصادية الحالية مرشحة للتعمق والاستمرار، كما أن جميع تحركات النظام الإعلامية والإجرائية في ظلّ الوضع القائم محكومة بالفشل، وستصبح الأزمة أكثر قسوةً مع مرور الزمن، خصوصاً في حال بدء تطبيق العقوبات الأميركية التي يتضمّنها قانون قيصر.
موقع الجمهورية
—————————–
حدود الاحتجاجات في مناطق سيطرة نظام الأسد/ راتب شعبو
تبرز في سورية، من فترة إلى أخرى، أشكال من الاحتجاجات الشعبية المطلبية في مناطق سيطرة نظام الأسد، كان جديدها المظاهرات التي شهدتها محافظة السويداء (يناير/كانون الثاني الحالي) احتجاجاً على الغلاء وتدنّي مستوى المعيشة. قبل هذه المظاهرات، شهدت محافظة طرطوس إضرابا لسائقي التاكسي، وقبل ذلك شهدت اللاذقية احتجاجاتٍ عقب جريمة قتل أحد ضباط الجيش على يد أحد الشبيحة من عائلة الأسد. كما تشهد درعا، من حين إلى آخر، مظاهرات تبدو الأقرب إلى روحية مظاهرات الثورة الأولى. هناك أيضاً احتجاجات أو مواقف فردية عديدة، منها ما ذهب بصاحبه إلى القبو، ومنها ما ذهب به إلى القبر.
على محدوديتها، تشكل مظاهرات السويداء أقوى موجة احتجاج في مناطق النظام، سواء من حيث عدد المشاركين، أو من حيث الديمومة. يمكن رد ذلك إلى الموقع الخاص الذي تتمتع به السويداء في الصراع السوري.
في مناطق النظام، يسهل تمييز جمهوريْن، لكل منهما أسبابه التي تمنعه من رفع الصوت أمام تفشّي الغلاء والبؤس العام. الجمهور الأول هم النسبة الغالبة من المسلمين السنة، الواقعين في هذه الظروف تحت تهمة جاهزة سلفاً هي الإرهاب الإسلامي والصلة مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة.. إلخ، على غرار حال المسلمين السنة في العراق. والجمهور الثاني هم الأقليات الدينية (للموحدين الدروز وضع خاص بينهم)، الذين يبدو لهم أن النظام يخوض معركة ضد “التطرّف الإسلامي” الذي يستهدفهم كما يستهدف النظام، وأن أي احتجاج ينبغي أن يكون دون عتبة إحراج النظام وإشغاله عن معركته “الوطنية”.
الطرف الذي تبلور مع الوقت بوصفه المناهض الأبرز لنظام الأسد، أقصد الطرف الإسلامي الجهادي، عمّق من خط التمايز بين هذين الجمهورين وشلّهما في الوقت نفسه. ولا يستغرق أيٌّ من هذين الجمهورين جمهور السويداء الذي يمكن وضعه في خانةٍ مستقلة. لم تكن السويداء على خط الثورة التي انطلقت من درعا المجاورة، ولكنها أيضاً لم تكن تماماً على خط النظام، وحافظت دائماً على هامش “متمرّد” على النظام، الأمر الذي جعلها عرضةً لضربات تأديبية أو ترعيبية، كانت إحداها على يد داعش (يوليو/ تموز 2018) التي لم تكن يد النظام بعيدة عنها، غير أن أغلب الضربات كانت على يد زعرانٍ محليين بالتعاون مع أجهزة الأمن، هذا التعاون الذي وضع حداًّ دموياً لظاهرة “مشايخ الكرامة” الذين كانوا يعرّفون أنفسهم أنهم ليسوا معارضة وليسوا موالاة، وأن همهم حماية الجبل، حين اغتيل الشيخ وحيد بلعوس، أبرز شخصياتها.
عدم التماهي التام مع النظام، والفاصلين، السياسي والمذهبي، مع تيارات الإسلام السياسي السني (لا يمكن تصنيف الاحتجاجات في السويداء في خانة الإرهاب الإسلامي الجاهزة والمقبولة دولياً)، ومستوى التضامن الأهلي العالي المتوفر بين أبناء المحافظة، والذي يفرض على النظام التعامل الحذر فيها، هو ما يعطي التمايز لجمهور المحافظة، وهو ما صنع المجال الذي تحرّكت فيه مظاهرات “بدنا نعيش”.
لا تدخل هذه المظاهرات أو أشكال الاحتجاج الأخرى التي شهدتها مناطق سيطرة النظام، في تحدّ مباشر مع النظام، الغالب أنها تعي نفسها بوصفها احتجاج متضرّرين، ولكنهم أقرب إلى النظام منهم إلى الطرف الإسلامي الذي يواجهه، أي أنهم متضرّرون ولكن على الضفة نفسها، فلا يصل عمق احتجاجهم إلى أبعد من مطالبهم المباشرة غير السياسية (تستثنى مظاهرات درعا التي تستفيد من بعض الحماية الروسية في سياق التجاذب بين الحلفاء). والملاحظ أن هذه الاحتجاجات تبقى معزولة، ولا تستولد احتجاجات مشابهة في مناطق النظام التي تعيش الظروف نفسها، ولا أيضاً في المناطق الخارجة عن سيطرته التي تتعرّض لحملة عسكرية واسعة، من دون ظهور أي بادرة شعبية سورية للتضامن مع المدنيين المنكوبين فيها.
أحدث تعدّد السيادات على الأرض السورية مع الوقت تباينا في الظروف المعيشية والسياسية ضرب، إلى حد كبير، عصب التضامن بين السوريين في مناطق السيادات المختلفة، هذا فضلاً عن التشتت وضروب اليأس ونضوب الطاقة.
صحيح أن مظاهرات السويداء استهدفت مركز شركة الهاتف الخليوي (سيرياتل) العائدة إلى رامي مخلوف، القريب عائلياً وسياسياً واقتصادياً من القصر الرئاسي في سورية، والذي يمكن اعتباره امتداداً مباشراً للقصر في السوق. وأن هذا الاستهداف يشكل نقطة مشتركة لهذه المظاهرات مع المظاهرات السورية الأولى (2011). في السويداء، هتف المتظاهرون “يا مخلوف، يا شاليش، حلوا عنا بدنا نعيش”، وفي المظاهرات الأولى، هتف المتظاهرون ضد مخلوف، وتعرّضت مراكز شركته للحرق على يد المتظاهرين الذين “يدركون” أنها تمثل لب النظام وجوهره (الاستبداد السياسي للسيطرة على الثروة).
وصحيح أن المظاهرات التي ألحت على البعد السياسي لدوافعها، بترديد “الشعب السوري مو جوعان”، وبالتشديد على المطالبة بالحرية، التقت في استهداف رمز الفساد، مع مظاهرات السويداء التي تلحّ على “العيش”، وعلى نفي البعد السياسي، بترديد “بدنا نعيش، لا سياسة ولا تسييس”. غير أن الفرق بين الحالتين واسع مع ذلك، يعكس الفارق بين المطلبي والسياسي، بين سورية اليوم وسورية 2011. ويشكل التلازم بين التسلط والفساد القنطرة التي تجمع بين مظاهرات “الحرية” ومظاهرات “العيش”. لكن من ناحية ثانية، هناك فرق تنبغي ملاحظته على مستوى وعي المتظاهرين أنفسهم وموقعهم في الصراع السوري الحالي الذي تعقّد إلى حد كبير، واختلطت فيه الخيوط، وبات من المفهوم أن تتحرّك الاحتجاجات على أساس مطلبي مباشر بعد أن تحولت حياتهم إلى جحيم.
الفاصل السياسي عن الثورة الأولى، أو عن مسارها اللاحق، معطوفاً على الخوف من بطش النظام الذي برهن على استعداد دموي مرعب، يجعل الاحتجاجات في مناطق نظام الأسد تتحرّك في دائرة رفض ضيقة. هذا، إلى جانب محدودية الانتشار، هو ما يفسّر تحمّل النظام هذه الاحتجاجات، وعدم ارتداده العنيف ضدها. مع ذلك، لا يستطيع مسؤولو نظام الأسد، على الرغم من كل الظروف المأساوية للسوريين، إلا أن يضيفوا إلى المشهد لوناً أسدياً تجلى في تصريح أمين فرع السويداء للحزب (البعث)، في عود على بدء، بأنه رصد جهات خارجية ومجموعات مسلحة تدفع أموالاً للطلاب لكي يتظاهروا!
العربي الجديد
———————————-
خواطر على هامش اقتصاد الحرب السورية/ موفق نيربية
في دراسة صغيرة تختزن الكثير مما يُقال ولا يُقال عن الأحوال المعيشية للسوريين حالياً، ذكرت مريم يوسف – وهو اسم مستعار لباحثة تكتب من دمشق – في مركز بحوث النزاعات التابع لمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ما يلي:
«للمرة الأولى ربما منذ بدأت الحرب السورية، يقضي الباعة في معظم الأسواق أياماً كاملة بدون أن يبيعوا قطعة واحدة».
«الانفجار قريب، لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه»، جملة باتت تتردد كل يوم، بدون أن يعرف أحد أين ومتى وكيف يمكن أن يحدث هذا الانفجار؟ ولكن ما يعرفه الجميع هو أنه مقبل لا محالة، ولن يكون لطيفاً ورومانسياً، كما يحلو للبعض تخيله، كما أنه لن يكون حالماً مشابهاً لما كانت عليه الحال في بدايات انتفاضة عام 2011. سيكون انفجاراً عنيفاً، بمقدار كل العنف الذي اختزنه الناس في دواخلهم على مدى السنوات الماضية. ما ينتظرنا، إن حدث، هو أمر لا تحمد عقباه، وانفجار لن يكون أحد قادراً على استيعابه أو التعامل معه بالشكل الصحيح».
كان عنوان البحث بالإنكليزية ما معناه قريب من «فلتكنِ الفوضى والانفلات الشامل»، ليعكس الإحساس بأن انتظار الموت الجاثم فوقك، والذي يمكن أن ينقض في أي لحظة أصعب من الموت بالقذيفة المعروفة أثناء الحرب. وعند النشر بالعربية، تحاشى الناشرون ذلك المعنى، ووضعوا عنواناً أكثر بروداً وموضوعية. وإذا أراد الغريب أن يستوعب بعض ملامح الاقتصاد السوري حالياً أيضاً، يمكنه الاطلاع على بحث مكثف عنوانه «شبكة اقتصاد الفرقة الرابعة»، وهي الفرقة العسكرية المرعبة التي يقودها ماهر شقيق بشار الأسد، وصدرت عن «برنامج مسارات الشرق الأوسط»؛ كما يمكنه متابعة عمليات إحلال جماعة مكان أخرى، ومصادرة أموال التايكونات في أعلى الهرم، وتخليق تايكونات جديدة لها ميليشيات ومهام جديدة.. لتتشكل من ذلك صورة تقريبية عن اقتصاد الحرب السورية الآن.
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط، نقص سعر العملة السورية إلى نصفه، في حين أنه بعد ذلك وفي الأسبوع الأخير وحده من العام السابق، كما جاء في البحث المذكور، ارتفعت الأسعار بأكثر من خمسين في المئة. ويلاحظ هنا على الهامش، أن المدعوين من اليمين العنصري الأوروبي وأمثالهم، يصرون على شهاداتهم بأن «الأمور طبيعية» في سوريا، بعد أن يكونوا قد قاموا بسياحتهم في ذلك الكيلومتر المربع المعروف في دمشق القديمة، الذي يؤنس أمراء الحرب واقتصادها إلى مطاعمه وباراته، أو في فنادق ومطاعم متفرقة تستقبل الفئة ذاتها التي لن تزيد عن واحد في المئة بشكل من الأشكال. وليس هذا موضوعنا هنا.
مع بداية ديسمبر، رفعت الطغمة الحاكمة – مثلاً- رواتب العاملين والمتقاعدين بنسبة تقترب من الأربعين في المئة لمجاراة ارتفاع الأسعار السابق ولو بمقدار؛ إلا أن انخفاض سعر الليرة السورية بأكثر من تلك النسبة خلال شهر واحد، جعل من تلك الزيادة مهزلة سوداء. كل شيء يؤكد أن الدولة أصبحت علكة في أفواه المتسلطين عليها، على حساب الملايين الذين يتأوهون فقراً وجوعاً ورعباً. ولا يقابل تلك الحالة إلا قوانين مرتجلة تزيد فيها السلطة من إرهاب الناس، وتهددهم بالويلات لو تكلموا حتى على صفحاتهم الخاصة، حول مآسيهم ومعاناتهم، كما في القانون الأخير، الذي يعدّل المادتين 208 و309 من قانون العقوبات، اللتين طالما اعتمد عليهما النظام في شكلهما الأول في قمعه وسجنه لمعارضيه.
تثير السخرية أيضاً، وتؤكد على الاستنتاج أعلاه، عمليات خنق زبائن النظام السابقين عن طريق المصادرة المباشرة، أو الحرمان من متابعة العمل، أو حتى عن طريق إجبارهم على دفع «المعلوم» من ثرواتهم مباشرة، أو من خلال عمليات من نوع «مبادرة رجال الأعمال لدعم الليرة السورية»، تلك الليرة التي لا يمكن دعمها أولاً، ولا يمكن لمن يقوم بحلب آخر ما تبقى من رطوبة في جسم البلاد، حتى عن طريق استثمار تدهور قيمة العملة ذاتها، أن يدعمها ويوقف تدهورها.
يشير العديد من الدراسات المنهجية حول الأبعاد الاقتصادية للنزاعات المسلحة، إلى أن المنافع الاقتصادية، التي تحظى بها أطراف هذا النزاع، غالباً ما تكون سبباً في غياب دوافع وحوافز العملية السياسية. وربما كان هذا سبباً براغماتياً – قبل معاناة السكان العاديين أنفسهم – لاعتراض البعض على استخدام العقوبات الاقتصادية، كأداة لإنهاء النزاعات المعنية. وقد عاد هذا المنطق في النقاشات الدائرة إلى الأجواء السورية مؤخراً، مع التدهور الحاد الجديد بسعر العملة وتطوراته المحتملة المقبلة.
وفي استنتاجات بحث لمؤسسة بيرغهوف الألمانية حول المسألة، أن هنالك أثراً جيداً للعقوبات الاقتصادية بالدفع نحو الحل السياسي والسلام، في حالات كتلك التي كانت في كمبوديا وأنغولا وسيراليون. إلا أن هذه الحالات شهدت غالباً تدخلات عسكرية، كانت العامل الحاسم في إنهاء الصراع، بمشاركة العقوبات الاقتصادية إيجابياً، بدعم اختلال التوازن العسكري لمصلحة المنتصرين. وفي معالجة أخرى، يمكن للصراعات أن تنتهي بإحلال السلام، حينما تكون انعكاساً لصراع على الموارد، من معادن ونفط وغير ذلك، ويجري التدخل والوساطة الدبلوماسية بأخذ ذلك بعين الاعتبار، وتوزيع تلك الثروات والمغانم بين المتنازعين من أمراء الحرب.
وقد تحولت الثورة السورية اليتيمة؛ منذ سنوات إلى ما يشبه تلك الحالة، وبملامح أكثر قبحاً على الأغلب. وكان النظام و»داعش» الطرفين الأكثر فظاظةً بين القوى الفاعلة الداخلية آنذاك، في تفاعلهما الإيجابي مع الواقع الطارئ، واللجوء إلى التعامل الاقتصادي والتجاري، سلماً في زمن الحرب الأكثر بشاعة. ولكن ذلك لا يعفي الآخرين من المعارضة المسلحة، الذين انزاحت بنيتهم الفوقية بالتدريج نحو الأسلمة والتطرف وحتى الإرهاب، أو التحول إلى بندقية مأجورة أحياناً.. بدون أن يشمل المرء بهذا الحكم بطريقة عمياء عن أولئك الذين يدفعون الأذى عن قراهم ومناطقهم وأهاليهم، بدون الوقوع في إسار منطق الحرب واقتصادها، منطق الغلبة والغنيمة.
أهمل البحث المذكور أعلاه بعض الشيء العوامل الخارجية في النزاع على الموارد. تلك التي، في الحالة السورية، على سبيل المثال لا الحصر، تتعدى الصراع على ثروات ليست بتلك الأهمية الحاسمة، إلى الصراع على المكانة الاستراتيجية إقليمياً، كما في حالة إيران وتركيا، ودولياً كما في الحالة الروسية. ولا يبدو حالياً أن هنالك ما هو انعكاس للنزاع ذي الجذر الاقتصادي، أكثر من تلك الثروة الغازية في شرق المتوسط، التي وضعت روسيا يدها عليها مسبقاً، باتفاقاتها مع النظام وبوجودها العسكري الأكثر متانة نسبياً في موقعه. أما الحديث عن خط لنقل الغاز الإيراني مثلاً عبر سوريا، فهو بعيد عن الحسابات الراهنة. بعدَ المشكلة الإيرانية عن الحلّ الجذري. أما ما بقي من المخزون النفطي الحالي في داخل سوريا، فهو ليس بقادر على أن يؤثر على قوى فاعلة قوية وغنية بشكل حقيقي، وكان الرئيس الأمريكي الحالي سماها «بلاد الرمال والدماء» في جدالاته، كرجل أعمال في المجال العقاري الأكثر صراحة وعنفاً، أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
فاقتصاد الحرب السوري – بوجهيه الداخلي والخارجي- يبدو أكثر تعقيداً كلما اقترب أكثر من الانهيار، وأقلّ تأثيراً في الدفع باتجاه السلام ووقف الخراب وسيل الدم المسفوك. كما أن العقوبات الاقتصادية بقدرتها على إضعاف شرعية النظام وقدرته على الاستمرار كدولة عادية تشبه الدول الحديثة، بمعالمها أو بعض سماتها، لا تؤرق أهل النظام، وتدفعهم إلى إحالة الصعوبات نحو معيشة الناس، الذين أصبحوا يرون فيها رهينة حقيقية يهددونها بالموت لابتزاز العالم لتخفيف الضغوط عليه. إلا أن هذا التكتيك فقد قدرته على التأثير، في عالم تزداد وحشية نخبه ولامبالاتها.
يدفع كلّ شيء باتجاه منطق «اشتدّي أزمة تنفرجي»، ولكن تدهور الحالة الاقتصادية- الاجتماعية في داخل سوريا، وصل إلى مستوى يجعل المشردين خارجَ بلادهم موضع غبطة أو حسد. ونظرياً، قد يدفع ذلك إلى حراك من نوع المعاناة، خارج الطائفية في النظام ومعارضته ، وخارج النزاع العسكري ودماره ومآسيه اليومية المستمرة.
كاتب سوري
————————-
الليرة التي عرّتنا/ بسام يوسف
في فيديو تم تداوله في الأيام الأخيرة، ويصور إحدى تظاهرات (بدنا نعيش) التي قام بها ناشطون في مدينة السويداء، احتجاجاً على الحالة المعيشية المتردية التي وصل إليها السوريون، يظهر شخص وسط المتظاهرين يحمل “الميكروفون” بيده، وعندما يبدأ الهتاف يصرخ عبر مكبر الصوت: “حرية”… “حرية”.
كلمتان فقط ما إن تُسمعا حتى ينقلب حال المتظاهرين، فينقضون سريعا على الشخص الذي صرخ بالحرية، وينتزعون الميكرفون منه، ويسكتونه سريعا، كأنهم يقولون: ويلك… هل تريد موتنا جميعا…؟؟
لم تكن ردة فعل المتظاهرين على الهتاف مفاجئة، فالاقتراب من المفردات، أو التعابير، أو الأفعال، التي تذهب إلى
تحدي سلطة آل الأسد مباشرة لاتزال مصدرا للرعب لمن هم في متناول يد هذه السلطة، لكن الغريب، وربما الصادم، ألا تكون تسع سنوات من تفاصيل التحدي اليومي بين السوريين وهذه السلطة قد أضعفت هذا الرعب.
لا أحد يفهم كره سلطة دمشق لهتاف الحرية مثل السوريين. فهم الذين يعرفون جيداً، أن التسع سنوات من القتل والتدمير والتهجير قد مرت وقد حدثت؛ لأنهم هتفوا حرية، ولأنهم أرادوا فعلا الحرية وليس لأنهم (إرهابيون)، والسوريون وحدهم يعرفون جيداً: أن نسل الإرهاب الفاسد من مسلحي نصرة وقاعدة وغيره وغيرهم، ما كان ليستحضر، ثم يدعم ويضخم، ويحتل واجهة الحدث لولا أن صرخة الحرية أرعبتهم وشعروا بها أنها موتهم المحتم.
ما يدركه السوريون أيضاً: أن الرعب هو أهم الركائز التي أرست عصابة الأسد سلطتها عليها، هذه الركيزة التي لم يكن لها أن تمتلك كل هذه القدرة، من دون أن تترافق مع سحق كل مكامن القوة في المجتمع، حتى جعلته تناثر أفراد بلا أحزاب وبلا نقابات وبلا مؤسسات.
هكذا استحضر المتظاهرون كل جرائم “النظام” عندما هتف أحدهم: حرية، ولهذا سارعوا لإخمادها.
ولأن الحكاية تقود عادة إلى حكاية تكملها، فقد حدث في إحدى قرى الساحل، بعد استلام بشار الأسد للسلطة بفترة قصيرة… حدث أن كانت امرأة عجوز تجلس على جانب الطريق مستمتعة بشمس أيلول، عندما مر شابان، وبعد أن ألقيا التحية عليها استوقفتهما قائلة:
- سمعتوا؟ قال بشار الأسد بدو يوظفكِنْ كلكن… أنتو اللي قاعدين بلا شغل.
فسألها أحدهما: ستي، هلق في كتير عالم ما عم تشتغل؟
تنهدت، ثم قالت: أي والله يا عين ستك، والله كل شباب هالضيعة قاعدين بلا شغل.
فعلق الشاب: يعني قصدك يا ستي أن حافظ ما كان يوظف هالشباب؟
ردت بانفعال: آيلييي شو ما وظف! والله، الله يرحمه، ما خلا حدا ما وظفه!!!
تلخص هذه الحكاية- على بساطتها- حال قسم كبير من البيئة التي لا تقبل أن تواجه حقائق قد أصبحت ملموسة وواضحة، وضوحاً شديداً، ولا تقبل الاعتراف بحقائق عرّتها هذه السنوات التسعة من عمر الثورة السورية؛ فالاعتراف بهذه الحقائق يُلزم بموقف، أو بفعل، هم عاجزون عنه؛ ولهذا يهربون من مواجهته؛ ولهذا ينتظرون معجزة ما تنهي هذا التناقض الذي يعيشون فيه؛ ولهذا يتعلقون بأي خبر، مهما بدا واهياً، أو واهماً، قد يساهم في حصول هذه المعجزة، معجزة قد اقتنعوا أنها لن تأتي من داخل سوريا، لكنها قد تأتي من حلفاء النظام خارج سوريا؛ لذلك يتناقلون قصص إيران وروسيا، كما لو أنها قصص مؤسسات تعمل تحت إشراف بشار الأسد.
تعكس المناشدات- التي يوجهها مؤيدو النظام- إلى بشار الأسد مدى الفصام العميق الذي تعيشه هذه الشريحة من السوريين، بل يذهب بعضها إلى توهم أن هناك حلولاً سحرية يملكها رأس العصابة الذي لا يعلم بما يجري على الأرض، فقد يكفي أن يتبرع أحد ما من المقربين منه، وإخباره بما يحدث؛ لتنقلب المعادلة فوراً، ولتنتهي هذه المأساة التي يعيشها السوريون.
لم ترفع الثورة السورية الغطاء عن هشاشة الدولة السورية، والسلطة السورية فقط، ولا عن الأحزاب والنقابات والمؤسسات… فقط، بل رفعت الغطاء أيضاً عن الجريمة الكبرى التي ارتكبها حافظ الأسد بحق نسيج المجتمع السوري وبنيته وهويته وثقافته.
في ظل الخراب الذي تسببت به سنوات حكم آل الأسد، كان من الطبيعي ألّا يكون مفجر الثورة حزباً أو نقابة … ما فجر الثورة السورية هو القهر المخزن والمكدس في عمق وجدان السوريين وذاكرتهم… ولهذا كان من الطبيعي أيضاً أن يتشتت هذا الانفجار ويضعف؛ لأنه لم يكن منظماً في قسمه الأعظم.
وهي المشكلة ذاتها التي لم يجد السوريون حلاً لها حتى هذه اللحظة، رغم كل ما حدث لهم خلال هذه السنوات. إن عصابة “النظام” وحدها، هي التي لا تزال تدار بشكل منظم، وهي وحدها التي لا تزال تخضع لرقابة صارمة لا تقبل تردداً ولا تبايناً، وهذا هو ما يضعف إمكانية السوريين لشلها، أو لإيقافها عن استمرارها في تدمير سوريا المنهجي؛ في محاولة منها لضمان استمرارها بحكم سوريا.
الوجه الآخر للتراجيديا السورية ليس الرعب فقط، بل يتجلى أيضاً في اندفاع قسم كبير من السوريين إلى مظاهر يعرفون أنها غير حقيقية، بعبارة أخرى: إنهم ينساقون- بكل بساطة- للوهم، ويتشبثون بهذا الوهم؛ ويحلمون أنهم ربما يستيقظون ذات صباح؛ ليروا أن كل ما حدث، ما كان سوى كابوس، وأن الحياة لم يعكّر صفوها معكّر، وأنها على ما يرام لا تزال.
هل العجز هو مولد فكرة المعجزة؛ إذ لولا العجز لما كانت معجزة. ولكن، إلى متى
يظل السوريون ينتظرون معجزتهم التي لا تأتي … تلك المعجزة التي يجب عليها أن تحل بعضاً من مشاكلهم التي صار العد يعجز عن عدّها، تلك المعجزة التي يجب أن تعيد من رحلوا ومن فقدوا، وأن تعيد بناء ما تهدم، وأن تعيد وصل ما انقطع…إلى آخر ما يمكن أن يتمناه عاجز.
ومع ذلك، وبالرغم من فداحة المأساة السورية وتفاصيلها اليومية، فإن المسرحية الفاجعة التي أقدم عليها سفهاء سلطة دمشق منذ أيام، والتي سميت “ليرتنا عزتنا”، كانت غير مسبوقة في تجسيدها الطاغي لعبث سفيه صفيق وموغل في الإذلال؛ فقد كان القهر يستبيح شوارع سوريا، وقد كان العجز سيد كل شيء… لقد كان سيد حجر وبشر وهواء.
ولا يزال السوريون ينتظرون المعجزة، المعجزة التي لن تأتي إذا لم يشكلوها هم، وهي المعجزة التي لن تكون مادام هناك من يعتقد: أن هذه العصابة- التي تواصل منذ نصف قرن نهب سوريا وإضعافها وإذلال شعبها- قد تفعل شيئاً آخر غير نهب سوريا وتدميرها وإذلال شعبها.
تلفزيون سوريا
———————————–
ليرتهم .. كذبتهم/ فاطمة ياسين
لا تستطيع أن تميز الحدود الفاصلة بين المزاح والجد في الحملة التي انطلقت في الداخل السوري، وراجت بين مؤيدي النظام، لدعم العملة الرسمية التي تهاوت، في الآونة الأخيرة، بشكل دراماتيكي، حتى وصلت إلى معدلات هبوط قياسية، فانعكست سرعة هبوطها على شكل ردٍّ عنوانه “ليرتنا عزّنا”.. الليرة في الواقع لم تعد تساوي شيئاً، إلا بعد أن تضيف ثلاثة أصفار على يمينها لتعادل بالكاد دولاراً واحداً، ولكن رعاة هذه الحملة يصرّون على تلقي ليرة واحدة لقاء خدماتٍ متفرقة، واعتبار الليرة قيمةً تبادليةً لسلع مختلفة. ويعتقد القائمون على هذه الحملة أن الطلب على الليرة سيزداد بسرعة كبيرة، حيث يُتاح المجال لقانون العرض والطلب أن يعمل بقوة، ليرفع من سعر الليرة مجدّداً، بعد أن سجّلت أكبر هبوط لها في التاريخ، فتجاوز سعر الدولار الواحد مبلغَ 1200 ليرة سورية.. للشكل الخارجي لهذه الحملة طبيعة كوميدية، فالليرة التي أصبحت تعادل لا شيء لم تعد موجودة في الواقع! وخرجت من التداول، حتى إن النظام قد سحب إصدار العام 1991 منها، لأسبابٍ سياسية، فالنسر الموجود على هذا الإصدار يحمل ثلاث نجمات، بما يذكِّر دائماً بعلم المعارضة السورية، والحملة تصرّ على تلقي هذه الليرة مقابل أداء خدمات كثيرة، ما أفسح المجال لرواج مقولة “الجمل بليرة وما في ليرة”.. سقطت الحملة في تناقضٍ منطقي، وهو عدم وجود الليرة. وعلى سبيل المثال، المطعم المشارك في هذه الحملة غير مستعد لأن يقدّم لك مائة سندويشة من الشاورما مقابل عملة من فئة المائة ليرة، فالخدمة تتوفر فقط لفئة الليرة الواحدة، ويفضّل أن تكون معدنية.
تشبه هذه الحملة النظامَ نفسه الذي دأب على المتاجرة بالشعارات العالية المجلجلة، والاستثمار في مشاريع ضخمة بحجم الأمة، من دون أن يبدو ما يوحي بفهمه حقيقة هذه الشعارات والمشاريع، وماذا تتطلب لتحقيقها كشعارات الوحدة والحرية.. وهنا يظهر أن الشارع الموالي كليل اليد، وله باع قصير، فهو لا يعرف إلا التفاعل الظاهري غير المؤثر على جوهر الأزمة، فالعملة هبطت خلال أقل من شهر إلى نصف قيمتها، ما يعني أن كل شيء قد أصبح سعرُه مضاعفاً. وتتجاوز هذه الكارثة بكثير عروض صغار الكسبة ببيع بعض منتجاتهم مقابل ليرة، فاحتياطيات البنك المركزي سالبة القيمة، والتزامات دفع فواتير المحروقات والقمح الكبيرة مرتبطة بالناتج القومي ومداخيل الدولة، وليس بأسعار خدمات بسيطة تقدَّم مجاناً مدة قصيرة في إطار حملة “ليرتنا عزّنا”، فالمداخيل معدومة بعد أن خرج النفط بشكل شبه كامل من حسابات الدولة، وقد وضعت أميركا اليد عليه، والجهاز الضرائبي فاسد ذو هيكل تنظيمي مليء بالثغرات، فضلاً عن المعايير المزدوجة التي يعتمدها رسميا. أوصلت هذه العوامل خزائن الدولة إلى الإفلاس، ويبدو أن إمدادات إيران توقفت أو ضعفت كثيراً، ما جعل جهاز الدولة الاقتصادي يراقب تهاوي العملة يائساً، وليس بين يديه إلا التلويح بعقاب تجار العملة ومكاتب الحوالات، وهي ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها النظام لهذا الإجراء، وليس أمام الجمهور المثخن الذي يراقب هذه المأساة إلا القيام بحملةٍ من هذا النوع الكوميدي، والتي تشبه الوقوف على الأطلال.
لا يتعلق هذا الانهيار بسنوات الحرب التسع فقط، وقد شهدت الفترات السابقة تهاوياً ملفتاً منذ بداية حكم الأسد الأب، والأسباب متقاربة وتتلخص في: أداء اقتصادي متخلف، وانعدام كفاءة جهاز إدارة التدهور.. فالأولويات أمنية، وهذا يتعارض كثيراً مع إمكانية أداء سلوكيات سياسية واجتماعية واقتصادية صحيحة. ويمكن تلمّس ذلك من حكاية اليوم عن هذه الليرة، فالإصدار الأول منها ظهر في العام 1950 وكان مصنوعاً من الذهب أو الفضة، أما الإصدار الذي مُنع تداوله عام 2013، لأنه بثلاث نجمات، فقد صنع من حديد مقاوم للصدأ، والآن يريد جمهور النظام إعادة تصنيعها ولكن من معدن بخس.
العربي الجديد
————————————–
سوريا: نهاية العام الأسوأ دون انتهاء المعاناة/ مريم يوسف
القذائف توقفت.. ولكننا لسنا بخير
“الانفجار قريب، لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه”، جملة باتت تتردد كل يوم، دون أن يعرف أحد أين ومتى وكيف يمكن أن يحدث هذا الانفجار، ولكن ما يعرفه الجميع هو أنه قادم لا محالة، ولن يكون لطيفاً ورومانسياً كما يحلو للبعض تخيله، كما أنه لن يكون حالماً مشابهاً لما كانت عليه الحال في بدايات انتفاضة عام 2011.
معاناة تتحدى الخوف
“لو كان الأمر متعلقاً بي أنا فقط لما اكترثت، لكن عندما يصل الأمر لرؤية أولادي يتضورون جوعاً؛ كوني على ثقة بأنني على استعداد لأن أقتل، نعم أن أقتل، فلا أصعب من أب يعجز عن إطعام أطفاله وتدفئتهم”.
يقول سائق سيارة أجرة في دمشق هذه الكلمات، ليتركني ذاهلة عاجزة عن الإجابة إلا بعبارة “الله يفرج”، وهي العبارة التي نستخدمها عندما لا تسعفنا الكلمات بالعثور على أجوبة شافية. والحقيقة إن التعبير عن حال هذا الرجل وغيره من السوريين اليوم يكاد يكون مهمة مستحيلة، وهم يعيشون بمعظمهم ضغوطاً اقتصادية واجتماعية ونفسية غير مسبوقة.
ظنّ السوريون أن الشتاء الفائت كان تجربتهم الأصعب على الإطلاق مذ بدأت الانتفاضة ثم الحرب في سوريا، حيث عاشوا أزمات خانقة بما يخص الوقود والكهرباء، وقضوا أياماً طويلة في انتظار الحصول على ما يعينهم على تدفئة منازلهم، ولكن أملهم بأن تكون تجربتهم تلك هي التجربة الأخيرة تبدّد مع بداية فصل الشتاء الحالي، إذ لا يختلف اثنان اليوم في سوريا على أن ما تعيشه البلاد الآن هو الأسوأ على الإطلاق. والتململ الذي كان يكتمه الخوف في الصدور بات يخرج بشكل كلمات هامسة في الأحاديث العائلية والجلسات المغلقة، ولم ينجح الخوف في كبح جماحه إذ راحت تلك الهمسات تنتشر رويداً رويداً في أرجاء البلاد حتى باتت حديث الشارع وسيارات الأجرة والمحلات والمقاهي وداخل المنازل.
أزمات متتالية
بمراجعة بسيطة تأخذ الأزمات في عام 2019 شكل منحنٍ بياني، فيه نقاط ذروة تعبّر عن الأزمات الخانقة التي عشناها، في حين تمثّل النقاط الأخرى الفترات الاعتيادية، التي لم نختبر فيها أزمات معينة، واعتقدنا أننا نعيش حياة طبيعية إلى حدّ ما.
أما نقاط الذروة فما هي إلا أزمة الغاز، وأزمة وقود التدفئة، والأسوأ من ذلك كله كانت أزمة وقود السيارات التي بدأت في شهر نيسان/ إبريل 2019، وشلّت الحركة بشكل كامل في معظم البلاد. وفي نهاية العام تبرز ذروة حادة وواضحة للغاية، بدأت قبل أشهر بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة في لبنان المجاور، ولا تزال مستمرة حتى اليوم، حيث تظهر آثارها واضحة على الحياة اليومية وتفاصيلها.
لبنان.. نافذة أغلقت!
لقد شكّل لبنان بالنسبة للسوريين خلال السنوات الأخيرة ملاذاً اقتصادياً على درجة كبيرة من الأهمية، فهو البلد المجاور الوحيد الذي بقي الوصول إليه سهلاً وآمناً، ولم يدخل بدائرة الاضطرابات التي اجتاحت المنطقة منذ عام 2011، ولذلك اعتمد السوريون بشكل كبير على لبنان في الكثير من مفاصل حياتهم.
السوريون يدفعون تكلفة “نصر” باهظ الثمن 27 شباط 2019
ويُضاف إلى ما سبق، نزوح قرابة مليون سوري إلى مختلف المناطق اللبنانية هرباً من ويلات الحرب والقمع، وإيداع الآلاف من السوريين نقودهم في المصارف اللبنانية التي اعتبروها أكثر استقراراً من مثيلاتها السورية. كما شكّل لبنان بوابة لتحويل أموال السوريين المستفيدين من إمكانية التعامل فيه بالدولار الأمريكي، وهو الأمر الصعب في سوريا بسبب العقوبات والقوانين، حيث يتعذر تحويل الأموال واستلامها بغير العملة المحلية “الليرة السورية”، وبسعر الصرف الرسمي الذي يقلّ عن سعر صرف السوق السوداء بمقدار النصف، الأمر الذي يشكّل خسارات كبيرة بما يخصّ الحوالات القادمة من خارج البلاد.
كما لا يغيب في هذا المقام اعتماد السوريين على الأسواق اللبنانية للحصول على مختلف أنواع البضائع والمواد الغذائية والأدوية، مستفيدين من انفتاح تلك الأسواق مقارنة بالأسواق السورية التي لا تتوافر فيها إلا البضائع محلية الصنع ومنخفضة الجودة في معظم الأحيان. بل إن الوقود القادم من لبنان وهو البلد غير النفطي، بات واحداً من الحلول التي اعتمد عليها كثير من السوريين لمواجهة أزمة الوقود.
والأزمة الأخيرة هي الأسوأ
تدهورت الأوضاع خلال الشهرين الأخيرين، حيث بدأ معظم السوريين يلمسون آثار ما يحدث في البلد المجاور والاختناق الاقتصادي الذي يعيشه. وتضافر ذلك مع العوامل المتعلّقة بالإيداعات المصرفية والحوالات المالية والبضائع التي بات الوصول إليها صعباً بل شبه مستحيل. ليؤدي ذلك كله إلى انهيار سريع في قيمة العملة السورية، لم تتمكن أيه جهود حكومية من إيقافه أو الحد من تسارعه. حيث هبطت قيمة الليرة من 600 ليرة سورية أمام الدولار الواحد في شهر أيلول/سبتمبر الفائت إلى أكثر من 1000 ليرة أمام الدولار في الوقت الحالي “الأسبوع الثاني من 2020”. أرقام لم تعرفها الليرة السورية من قبل على الإطلاق، وغلاء فاحش بات يطال كل شيء، وتدهور اقتصادي لم يعد بالإمكان تجميله أو إخفاؤه، الأمر الذي اعتاد المسؤولون الحكوميون عليه طيلة السنوات الفائتة.
للمرة الأولى ربما منذ بدأت الحرب السورية، يقضي الباعة في معظم الأسواق أياماً كاملة دون أن يبيعوا قطعة واحدة، الأمر الذي لم يحدث حتى في أقسى أيام الحرب. أما الأسواق الشعبية فتبدو حركة الناس فيها أقل من المعتاد، ومن يقصدونها لا يشترون إلا ما هو ضروري للغاية مع ارتفاع أسعار كل شيء بشكل غير منضبط على الإطلاق. فثمن السلعة ذاتها قد يختلف من مكان لآخر ومن بائع لآخر، والحجج جاهزة دائماً: الليرة تنخفض والدولار يرتفع.
خلال الأسبوع الأخير من العام، وصلت الزيادات في أسعار العديد من المواد إلى 50 بالمئة وبعضها أكثر. وارتفع سعر كيلو غرام السكر من 300 ليرة إلى 500 ليرة، وعلبة اللبن وصلت إلى 550 ليرة بعد أن كانت بـ 300 ليرة، الأمر الذي جعل المواطن يحتار في ما يمكن أن يحذفه من قائمة طعامه المختصرة أصلاً، بعد أن نسي الكماليات منذ وقت طويل.
ولا يقف ارتفاع الأسعار عند حدود البضائع، بل يتجاوزه إلى ارتفاعات أخرى، فسائق التكسي أو الحافلة الصغيرة يقرر عدم الالتزام بالتسعيرة المحددة ويرفعها كما يشاء، وصاحب المنزل يطلب من المستأجرين المزيد من النقود للأجرة الشهرية، والعمال الذين يعملون بشكل يومي يطالبون بأجرة أكبر لقاء أية مهمة يمكن أن يقوموا بها، وحين يتجرأ أحد على الاعتراض يأتي الجواب جاهزاً: “الأسعار كلها ارتفعت، كيف لي أن أعيش إذا لم أرفع أجرتي؟”. يبدو الأمر أشبه بدوامة لا بداية لها ولا نهاية، ومع كل دورة تصبح الحياة أكثر صعوبة.
القذائف توقفت.. ولكننا لسنا بخير
“الحمد لله توقفت القذائف على الشام وأصبحتم بألف خير”، تقول صديقة تزور سوريا لأول مرة منذ سبع سنوات. أحاول جاهدة أن أشرح لها بأننا لسنا بخير، وبأن ما نعيشه اليوم أصعب بكثير مما عشناه في أقسى أيام الحرب، ولكن دون فائدة، فهي مقتنعة بأن “شوية” مشكلات اقتصادية وبعض الارتفاع في الأسعار لا يمكن أن يكونا أصعب من القذائف والتفجيرات. إنها لا تدرك بأن القذيفة تحمل موتاً مباشراً لا مهرب منه، في حين أن ما نمرّ به الآن في كل لحظة من يومنا هو بمثابة موت، ولكنه موت مؤجّل ومُنتظر ولا نعلم متى سيأتي حقاً.
البقجة الناجية من الحرب 11 تشرين الأول 2019
لقد استوطن البؤس في العيون والوجوه حتى بات ملمحاً عامّاً مشتركاً، وبات معظم الناس يشتري بالقطعة بدلاً من الكيلو، لأنهم لا يملكون ثمن كيلو غرام من أي شيء، ناهيك عن أن اللحوم والدجاج والموز والجبن قد تحوّلت إلى حلم لدى الكثير من العائلات السورية، أما البيوت فهي باردة لا دفء بها، والوجوه شاحبة يعتصرها الهم والمرض.
هل أخبر صديقتي عن سائق سيارة الأجرة المستعد للقتل في سبيل أطفاله؟ أم عن تلك المرأة التي نزحت من غوطة دمشق الشرقية وتعيش اليوم في واحدة من الضواحي مع ولديها في منزل لا نوافذ له ولا أبواب، واضطرت هذا الشهر للمرة الأولى لإجبار أولادها على تناول وجبة واحدة في اليوم لأنها لم تعد قادرة على شراء ما يكفي من الطعام؟ أم عن الأطفال والشباب الذين يضطرون لترك تعليمهم والعمل دون أن يكون ذلك كافياً لإعالة أسرهم؟ أم عن أولئك الذين يذهبون إلى مدارسهم ولكن دون أحذية ودون حقائب لأنها تكلف الكثير؟ ربما من الأفضل أن لا أحدثها عن ذلك كله، ولتحافظ هي على تلك الصورة الوردية لبلد يعاني من “شوية” مشكلات. فيما أكتفي بترقب الانفجار القادم لا محالة!
هل من انفجار في الأفق؟
“الانفجار قريب، لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه”، جملة باتت تتردد كل يوم، دون أن يعرف أحد أين ومتى وكيف يمكن أن يحدث هذا الانفجار، ولكن ما يعرفه الجميع هو أنه قادم لا محالة، ولن يكون لطيفاً ورومانسياً كما يحلو للبعض تخيله، كما أنه لن يكون حالماً مشابهاً لما كانت عليه الحال في بدايات انتفاضة عام 2011. سيكون انفجاراً عنيفاً، بمقدار كل العنف الذي اختزنه الناس في دواخلهم على مدى السنوات الماضية. ما ينتظرنا، إن حدث، هو أمر لا تحمد عقباه، وانفجار لن يكون أحد قادراً على استيعابه أو التعامل معه بالشكل الصحيح. سيكون كرة من نار تحرق كل ما حولها، وتستمر بالتدحرج لتحرق أكبر مساحة ممكنة، وسنصل معه إلى نقطة لا عودة منها، ولا مهرب من نتائجها الكارثية على الأصعدة كلها.
مؤشرات هذا الانفجار واضحة للغاية في كل مكان. ففي دمشق التي لم يسبق أن عاش فيها هذا العدد الكبير من السكان مع نزوح آلاف العائلات إليها؛ يتجاور الفقر والتشرد مع مظاهر الغنى الفاحش. أصحاب العيون الذابلة والوجوه الشاحبة من مئات الأطفال والنساء والرجال الذين ينتشرون في الطرقات ويبيعون المحارم والبسكويت والعلكة أو يستجدون المال، يسيرون جنباً إلى جنب مع سيارات فخمة وثياب وأحذية لامعة لرجال وسيدات يرتادون مطاعم وفنادق فخمة يدفعون فيها ثمن عشاء واحد يعادل ما تجنيه عائلة خلال شهر أو شهرين وربما أكثر، ويقيمون حفلات يصعب على من يراها أن يصدق لشدة بذخها بأنها تقام في سوريا، البلد الذي يعيش واحدة من أصعب المآسي الإنسانية في العالم اليوم.
وفي أرياف دمشق التي دمرتها آلة الحرب على مدى سنوات عدة، وعلى الأخص غوطتي دمشق الشرقية والغربية، تحولت الحياة بالنسبة لمئات الآلاف إلى سجن كبير. فالحرب انتهت في تلك المناطق بخروج آلاف المقاتلين والمدنيين نحو مناطق الشمال السوري، واختيار آخرين البقاء أملاً بشروط حياة أفضل، وهو ما تبين لاحقاً بأنه محض وهم كبير. إذ عادت حملات الاعتقال لتطال العشرات، وهدفها على الأغلب الابتزاز ومحاولة الحصول على المال، كما يُمنع معظم الشباب من الخروج نحو العاصمة للبحث عن فرص عمل يندر إيجادها حيث يعيشون، وتُضطر النساء والأطفال، والحالة هذه، إلى إعالة أسرهم.
“كل شيء يغلي”
تقول لي سيدة من الغوطة الشرقية: “كل شيء هنا يغلي، والانفجار قريب، لكنه سيكون عنيفاً للغاية، ولا نستبعد أن يكون مسلحاً أو على شكل سرقة ونهب وتخريب، فالناس لم يعد لديها ما تخسره. خسرنا كل شيء واعتقدنا بأننا سنحصل على بعض المكاسب على الأقل، لكننا كنا واهمين. تدمرت منازلنا ومصادر رزقنا، وتشردنا، وفقدنا أهلنا وأصدقاءنا. هل من مأساة أكبر؟ خليها تخرب”.
سيد المجارير 03 نيسان 2019
أما في مدن سورية أخرى مثل حمص وحلب ودرعا ودير الزور، فالناس يحاولون لملمة جراح الحرب التي لم يمضِ على انتهائها وقت طويل. ويغطي الدمار مساحات واسعة دون أية بوادر لمشاريع إعادة الإعمار التي لا تمل الحكومة السورية من الحديث عنها، ويشعر معظم السكان باليأس المطبق، فلا أمل بأي تغيير إيجابي مقبل. الحرب انتهت وتدمر كل شيء، ولكن لا أحد لديه الرغبة أو النية لإصلاح ما تهدم، وكأن العالم يتعمّد تركنا وحيدين وسط هذا الدمار كلّه، بل يقف في وجهنا إن حاولنا إصلاح أي شيء.
“لا هو ليس اليأس، وإنما الخوف”، تقول إحدى السيدات اللواتي أعرفهن، وهي المسؤولة عن إعالة أسرتها بعد إصابة زوجها بشظايا قذيفة منذ سنوات، أفقدته القدرة التامة على الحركة. “اليأس اعتدنا عليه، لكننا اليوم نشعر بخوف غير مسبوق. هل سنتمكن من متابعة حياتنا الشهر القادم، والشهر الذي يليه؟ هل سنتدبر أمور معيشتنا؟ هل سيأتي يوم نشعر فيه بالجوع أو البرد دون أن نمتلك ما نسد به رمقنا أو ندفئ به أجسادنا؟ إن استمرت الحال بهذا التدهور السريع، فلا شك بأن ذلك اليوم قادم لا محالة”.
(اسم مستعار لكاتبة مقيمة في دمشق، تعمل كصحفية مع عدد من المواقع الإخبارية، وكباحثة مع برنامج بحوث الصراع في جامعة LSE بلندن)
(هذا المقال ينشر بالتعاون والشراكة بين حكاية ما انحكت وموقع نوى على أوبن ديموكراسي ووحدة الأبحاث عن الصراع والمجتمع المدني لدى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية)
حكاية ما انحكت
——————————–
من مذكرات ليرة سورية/ أحمد عمر
أنا سيدة النقد الأولى، حوّاء النقد..
ولدتُ سنة 1919، في مصرف سوريا، وكان لي شأن كبير، ولم تسقط نجمةٌ في الشمال ولا في الجنوب عند ولادتي، ولم يهتزْ عرش كسرى، ولدت مرتبطة بالنقد الفرنسي لكني كنت جليلة، كنت أسبق عشرين فرنكاً فرنسياً في سباق المئة متر حواجز وماراتون، وعندما بلغت الفطام، وُلدتْ أختٌ أخرى لي اسمها الليرة أيضاً في مصرف سوريا ولبنان في سنة 1924، فنحن أختان من أمٍّ واحدة، ثم وضعوني في عهدة الجنيه الإسترليني، وصاروا يقارنونني بها عندنا وقعت تحت هيمنة التحالف الفرنسي البريطاني ، وكنت أعادل ثمن الجنيه الإسترليني تقريباً، وفي سنة 1947 كان الدولار أطول من قامتي مرتين وثلث المرة، واستمر هذا المعدل حتى سنة 1961، ومع ثورة الثامن من آذار وصعود العسكر عليّ الزمان فنزلت رتبتي.
كنت مصنوعة من الورق أول ولادتي، وكنت سيدة مهيبة، ولي ملكٌ عظيم، وصارت لي أخوات معدنيات، عذراوات وأيامى، وأبناء من الغروش، وخالات من ذوات الليرتين، والخمس وعشرين ليرة والمئة ليرة والخمسمئة ليرة..
كنت أستطيع أن أُظِلَّ عائلة أسبوعاً بسلطاني، اتخذني موظف وأدَّخرني للذكرى في بطن كتاب ثم نسيني، فلم يتح لي أن أعيش وأن أتنقل بين الجيوب، وأن أروي كثيراً من الذكريات. بقيت عزيزة، شريفة حتى الحركة التصحيحية المباركة، بل إني لم أفقد شرفي وتاجي إلا بعد مذبحة الثمانينيات، بتواطؤ من النظام المالي الغربي، فالهيمنة السياسية تعني الهيمنة الاقتصادية، والأوروبي عندما يزور بلادنا، يستطيع أن يعيش سنةً بأجر شهر من أجور، ومن غير تأشيرة دخول، ويعيش بكامل الكرامة، أكرم من رئيس فرع مخابرات، وأكثر عزةً منه، فكأنه سيد البلاد. كل غربي يزورنا يشبه جليفر في أرض الأقزام، وكل عربي ينزح هو قزم في أرض العمالقة.
أحاول أن أتذكر، وقد بلغت مئة حَول وحَول، وصار لي أولاد وأحفاد مثل الألف ليرة، عليها صورة الرئيس الأب، والألفين عليها صورة الرئيس الحالي، وهو ابنه كما علمت وعلمتم، وكنت محلاً لرسومات وطنية وقومية ودينية وتاريخية، ثم جارت السياسة عليّ ونزلت إلى الحضيض، ولست سعيدة بذلك، أقول إن قيمتي اقتصادية وسياسية انحطت من علٍ، لقد اغتصبت مثل حرائر سوريا في المعتقلات، الخيول التي تجرُّ عربة الدولة ينبغي أن تكون متكافئة السرعة والقوة. مع الحركة التصحيحية صار حصان السياسية هو الذي يجرُّ عربة الدولة، وفرس الاقتصاد الذي أصابته الأمراض من الفساد والرشوة، تحول جثةً يجرها معه حصان السياسة الجامح المسعور. في أمريكا الحصان هو الاقتصاد والفرس هي السياسة.
وكان ذلك الموظف الذي احتفظ بي كما يحتفظ أهل أوروبا بليرة الحظ للذكرى في بطن كتاب منسي، ينتظر حتى يجيء زمان، يعرضني فيه مثل لوحة قديمة لفنان مجهول، ويبيعني بثروة في سوق الذكريات الوطنية، مثل تحفة، لكني بقيت ليرة واحدة، فالنظام سعيد بما جرى لي، وقد حوصر الشعب كله كما حوصر أهل الغوطة، فالمجاعة تدهم الشعب كله، ويئست الناس من دعم النازحين بعملتهم الصعبة التي تراقب رقابة شديدة، ثم تفرم إلى آلاف الليرات فتعوم وتطوف فهي مثل غثاء السيل.
لم أعد شيئاً مذكوراً، لولا حضُّ النظام للتجار أمس على الاعتراف بي، فصرت أشتري فروجاً كاملاً سعره خمسة آلاف، بليرة، لمد ة ساعة أو ساعتين، فأصحاب المحلات السورية غير مقتنعين بهذه البدعة، ازدحم الناس على المحلات بعد أن فتشوا مطامير أولادهم القديمة وانقلبوا حاشرين أمام محلات الألبسة والطعام، فلم ينالوا خيراً وعادوا مهزومين، فكأنما يعاقب القدر النظام بما اتهمت به الثورة التي ثارت من أجل سندويشة، وتقول الحكومة إنها تريد جمع الليرات وصهرها، وأن تُبلغ مطابع العملة في سويسرا بحاجتها إلى ليرة جديدة ، ذات قوة وهيبة، ويعتقد أن المسألة “فنكوش”، والنظام الذي هزم مئة دولة يزعم أن التجار هم الذين يجوعون الشعب، والتجار المقصود بهم السنّة، فالعلويون ضباط مخابرات وعساكر جيش ومرابطون على محور المقاومة، وهمهم هو تحرير القدس!
لغد تغيرت أمور كثيرة، بعد إقرار قانون قيصر، وكان النظام قد خسر ثروات الجزيرة من ذهب أسود وأصفر، وانهيار البنية التحتية بنزوح الملايين وبوار المزروعات ، ودمار الصناعات الصغيرة التي نجت من التدمير البطيء عبر عشرات السنين، وانكفاء إيران على جروحها وتوقف معوناتها، وتجميد المصارف اللبنانية للأموال السورية، التي كانت أموال ناهبي الشعب قد نزحت إليها، وانقطاع الأموال المذهبية التي كانت تغذي النظام السوري من العراق، يضاف إلى ذلك عدم وجود آمال في الأفق المنظور برضى أمريكا على إعادة الاعمار، والسبب الأساس لهذا التفقير، هو أنَّ النظام نظام غدر، لا يأمن أحد فيه على نفسه وماله، موالياً كان أو معارضاً، النظام قدوة، الشعب والجميع ينظرون إلى الرئيس ومن حوله ويقلدونهم، فيزداد الفساد أضعافاً مضاعفة.
لم تعلن الطغمة الحاكمة الرأسمالية التي تدّعي الاشتراكية أي تخفيض على منتوجاتها، مثل الوقود، أو جواز السفر، أو مقاعد أعضاء مجلس الشعب، أو كراسي الوزارة، بليرة، كما وقع في الأسواق على بعض بضائع التجار، يعني على السنَّة، الطعام وحده الذي نزل سعره لساعة من نهار، ووصلتُ إلى حكمة وقد بلغت مئة سنة هي أنَّ الهزات الكبرى التي تعرضتُ لها كانت الإصلاح الزراعي، وكانت الهزة الثانية مع الحركة التصحيحية ومذبحة الثمانينيات، والثالثة هي مع الثورة، واستشعرتُ خطراً، ورأيت نذر نار، عندما سحب النظام ورقة خمس والعشرين ليرة من الأسواق وأعدمها، وهي إحدى بناتي، عليها صورة صلاح الدين الأيوبي وأتلفها، وكانت تلك المحاولة هي الرابعة لاغتيال صلاح الدين الأيوبي الذي تعرض لثلاث محاولات اغتيال من أسلاف النظام الحشاشين، وكان ذلك إيذاناً بالبحث عن طريق جديد للقدس، ثم تدهورت حال ابنتي الخمسمئة ليرة، وسيقت زنوبيا أسيرة مرة ثانية إلى روما، كما ساقها الرومان في المرة الأولى، وندبتُ حظي ولعنتُ يوم ولادتي عندما رأيت صورة الرئيس على الألف، وتمنيت لو أني لم أولد، وكانت المرة الرابعة، عندما أعلن النظام عن نيته استيراد سيارات بالدولار في الثمانينيات، وكانت خطة لدفع الموسرين من أبناء الشعب إلى التنازل عن قوتهم الصعبة، فاكتتبوا على سيارات لم تستورد إلا بعد عشرين سنة، بالدولار، وكانوا سعداء جداً، وصاروا ضعفاء جدا، وبعضهم سحب مال الاكتتاب على السيارة، بعد أن يئسوا من وفاء النظام بوعده من غير موعد، وكان النظام قد قضى على التنافس الاقتصادي، كما قضى على التنافس السياسي، السباق بين العملات ضروري لحياة العملات وللتجارة، وكذلك بين الأحزاب، ورأيتُ أن غاية النظام بجمع الليرات المعدنية القديمة هي القضاء على الذكريات، فالطغاة يهابونها، وقد دمروها بالبراميل، وغايتهم هي إضعاف الشعب اقتصاديا، وتحويله إلى شعب بونات.
يمكن القول هزواً إن سوريا صارت دولة اشتراكية، يعيش شعبها بالبطاقات الذكية، وإن ليرة واحدة صارت تشتري كل شيء، الثمين والغث، ويمكن القول بعد هذا العمر، إنه ليس بالسيف وحده تحيا الدول.
لم يكن النظام يهتم يوماً بالاقتصاد، ولا حتى باستقبال العملة الصعبة، فهو يضيِّق عليها ويرهبها، فالعمل في داخل سوريا كان ممنوعاً. سوريا معتقل كبير، والنظام حوَّل سوريا إما إلى مقبرة وإما إلى سيرك بمساعدة خبراء المال، ولابد أنه كان يضحك أمس وهو يتفرج على طوابير الناس أمام محلات الطعام والقهوة، وقد نزح التجار الأذكياء باكراً، يقولون إنَّ رأس المال جبان، وهو أيضاً شديد الذكاء والدهاء، وإرسال العملة الصعبة من النازحين في الخارج إلى الأهل كان يمرُّ بالغرابيل والفلاتر ويعلن عن توبته مثل المواطنين المهاجرين المشتاقين، ويباع بغير قيمته الحقيقية مثل الإنسان السوري، قيمته في سوريا غير قيمته في أبعد المنافي، هو مجرد فنجان قهوة ، سكتة قلبية .. النظام كان يعيش على بيع السياسة الخارجية، وأجرته كان ينالها شرعيةً سياسية، لحُسن حراسته السجن السوري الكبير.
حُشر الناس أمس ضحى ووقفوا، ليس احتجاجا على قصف إخوانهم في إدلب، ولا دعماً للقدس على أبواب محلات الفروج من أجل فروجة عاشت على أكل الحصى، حالهم ليس كحال أهل الكهف، قد أُخرجوا حتى يستمتع النظام بالنصر، ولو شاء- والمشيئة ليست له – لجعل الليرة تعادل ثلاثة دولارات بأمواله المنهوبة والمودعة في بنوك بعيدة.
أبشروا بعملةٍ هي البونات، وبعملة أعقاب السجائر كما في السجون.
المدن
———————————–
إنه الفقر ..الذي لا يوحد السوريين أيضاً / وليد بركسية
مجدداً يتحول المشهد في سوريا، كدولة متشظية، إلى انقسام جديد. فالحملات الأخيرة التي أطلقها سوريون في مواقع التواصل الاجتماعي، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بالتزامن مع تظاهرات في محافظة السويداء الجنوبية رفعت شعارات “بدنا نعيش”، اصطدمت بحملات مضادة وخطاب التخوين الذي اختبره السوريون في ثورتهم الأولى العام 2011.
وتشكل حملة “خبز حاف” التي أطلقها سوريون قبل أيام، ودعوا فيها إلى ما يشبه إضراباً جماعياً عن الطعام، عبر تناول الخبز فقط ومقاطعة جميع المواد الغذائية الأخرى التي باتت باهظة الثمن، نموذجاً على ذلك التشظي، ليس فقط ضمن التقسيم الكلاسيكي البائد للسوريين بين موالين ومعارضين فقط، بل أيضاً ضمن تلك الشريحتين الواسعتين، ما يطرح أسئلة عميقة حول الهوية السورية الجامعة، والتي أثبتت الثورة السورية وتبعاتها، أنها كانت أقرب للوهم، بفعل الحكم الشمولي لعائلة الأسد طوال أربعة عقود، والذي عمد إلى تكريس الهويات الطائفية والمناطقية كواحد من أساسات استمرار حكمه.
فالمعارضون الذين جاهروا بمواقفهم السياسية ضد نظام الأسد منذ العام 2011 انقسموا إلى قسم أول يؤيد أي مظهر احتجاجي ضد النظام حتى لو كان الاحتجاج مقتصراً على مطالب اقتصادية ولا يطالب بتغيير سياسي أشمل، وقسم ثان يرى أن الاحتجاجات الحالية تفتقر للكرامة والمشروعية كصفات ترتبط حصراً بالثورة السورية العام 2011. كما يمكن ملاحظة تعاطف أشخاص يعبرون عن ولائهم الصريح للنظام، مع أشكال الاحتجاج، ويتحدون خطاب التشبيح العلني الذي انتهجه راديكاليون موالون.
ولعل نقمة واسعة على الحملة أتت من السوريين في مناطق النظام، بعدما تبين أن الحملة تجري بالتعاون مع وزارة التجارة الداخلية في حكومة النظام السوري، وليست تحدياً لها ولطبقة التجار ورجال الأعمال المرتبطة بالنظام. وبحسب تصريحات منظمي الحملة لوسائل إعلام محلية، فإن الحملة “تنسق عبر الوزارة للتواصل مع الشركات التموينية لخلق منافذ بيع مباشرة من دون حالة دعائية، وبسعر التكلفة الحقيقي بالإضافة لنشر أسعار المؤسسات الحكومية بالمرحلة الأولى، والمادة غير الموجودة نبحث عن بديلها من المنتجات الوطنية”.
وقد يعني ذلك، أن الحملة تشكل في أحد وجوهها مجرد “فشة خلق” وتنفيساً للاحتقان في مناطق سيطرة النظام، مع استمرار الأزمات السابقة المتمثلة بانقطاع الكهرباء والمحروقات عن مناطق واسعة. كما أن هذه النوعية من الحملات، تشكل بديلاً للاحتجاج الأخطر المتمثل بالتظاهر في الشارع مثلما يحصل في السويداء، ورداً ناعماً على الدعوات لتوسيع نطاق المظاهرات إلى كافة البلاد، علماً أن الحملة نفسها بدأت تتداعى مع إعلان منظميها في مجموعات مغلقة في “فايسبوك” أن التواصل مع الشركات في الداخل السوري فشل مع رفض 10 شركات تم التواصل معها الاستجابة للمقترحات رغم إبدائها موافقة أولية على ذلك.
ولعل المشكلة الأساسية في هذه المبادرات، أنها تدعو للتوفير والتقشف كأسلوب للحياة في ظل الفقر الممنهج الذي يفرضه النظام السوري، إلى جانب أنها تتصور إمكانية تقديم السلطة للحل رغم أن السلطة نفسها تتحمل المسؤولية، كما أن الحملة لا تتحدث عن الأسباب الحقيقية لانهيار الليرة والاقتصاد السوري، الذي تسارع في الأشهر الأخيرة، بل تكرر سردية الإعلام الرسمي تقريباً والتي تصل أحياناً إلى لوم السوريين أنفسهم على ما وصلت إليه حال البلاد، ولا يعني ذلك ضمن الحملة، السوريين المعارضين والثورة السورية العام 2011، بل السوريين في مناطق النظام الذين عمدوا إلى “خيارات اقتصادية غير حكيمة” يجب تصحيحها اليوم بموازاة الصبر و”الابتكار في الاحتجاج ضد جشع التجار”.
في ضوء ذلك، بات ممكناً تلمس مستويات جديدة للتشظي السوري، فالسوريون في مناطق النظام السوري اليوم، من المشاركين في حملة “خبز حاف” أو متظاهري مدينة السويداء جنوب البلاد أو الداعين لتوسع المظاهرات بشكل مشابه لما يحدث في دول الجوار، وتحديداً لبنان، يعبرون في مواقع التواصل عن رأيين مختلفين، الأول يتحمس لفكرة الثورة الشاملة والآخر يتحفظ بناء على المخاوف التي خلقها رد فعل النظام العنيف ضد المتظاهرين السلميين العام 2011، واللافت أن الطرفين باتا يتعرضان لخطاب التخوين من قبل شبيحة النظام الذين اعتبروا أي رفع للصوت في الفترة الحالية “تنفيذاً للمشروع الأميركي ومشاركة في الحرب الاقتصادية ضد الدولة السورية التي انتصرت على الإرهاب”.
ونشرت صفحات موالية للنظام، عبر “فايسبوك” منشورات موحدة رجت مشاركتها من قبل “اللي خايف ع البلد”. وتقدم تلك المنشورات مستويات عدة للخطاب الدعائي، الأول يقوم على تخوين كل من يتحدث عن حياته اليومية في مواقع التواصل، مع انتشار منشورات تصف الفقر اليومي المدقع الذي يعيشه سوريون، والثاني يقوم على تمجيد الفقر بوصفه حالة رومانسية تحمل شيئاً من الحنين للماضي عندما كان هنالك “طيبة وخير” لدى الناس، بعكس “جشعهم” اليوم. وهنا يتم وصف كل من يطالب بحياة أفضل بأنه “تابع للمشروع الأميركي” وبأنه متأثر بنمط الحياة الغربية الاستهلاكية بدلاً من الحياة الحقيقية الخاصة بدول شرق المتوسط، ويتم تحويل الخطاب كله فجأة إلى أن “الدولة السورية” و”أبطال الجيش السوري” يحاولون الحفاظ على أصالتها مقابل المحتجين المتأثرين بأفكار العولمة!
واحدة من المنشورات تضمن مثلاً عبارة: “البلد بخير بس بدو صبر وتأقلم. والناس للأسف مفكرة الحكومة هيي الي عم تغلي الاسعار وهيي الي تاركة الدولار يطير هيك. لا يا جماعة الشغلة أكبر من وزير وأكبر من حكومة. الشغلة استهداف وطن. خلونا ندبر حالنا بهالفترة ومناكل خبز حاف وبرغل ومجدرة ومهما أكلنا مامنقدم لهالوطن قطرة من قطرات الدم اللي قدمها الشهيد”.
وبحسب تقارير ذات صلة، فإن هنالك عدداً من الوجوه الجديدة التي باتت تملك الثروة في سوريا، وتقدم الدعم المالي للنظام، وتسهم في بقائه في الحكم بأساليب أسهمت في انهيار ما تبقى من اقتصاد البلاد، فيما تركت الحرب في البلاد الناس منقسمين بين أغنياء أو فقراء، وبات الأغنياء قلة تتربح من الحرب، وتدير اقتصاده الذي لم يعد سوى هيكل عظمي عما كان قبل الحرب، بموازاة تمزق النسيج الاجتماعي أيضاً. وفي مثل هذه الظروف فإن الفقير يزداد فقراً ويزداد الغني غنى، وكان بالإمكان ملاحظة طوابير الناس في دمشق ومدن أخرى منذ أعوان للحصول على زيت الطعام والخبز، وسط انقطاع مستمر للتيار الكهربائي. وقال معلقون في “فايسبوك” و”تويتر” أنهم يأكلون اللحم مرة واحدة في الشهر، بينما نشر آخرون في حملة “خبز حاف” أسعار المواد الغذائية الباهظة.
ويعني ذلك أن الحرب قضت على الطبقة المتوسطة، وتوسعت الثغرة القائمة أصلاً، بين الفقير والغني داخل سوريا، حيث تعيش نسبة 80% من السكان تحت خط الفقر بحسب تقدير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية. وتراجعت ميزانية سوريا من 60 مليار دولار قبل الحرب إلى 15 ملياراً العام 2016، كما أن الحرب والتجنيد واللجوء والموت شكلت عوامل قضت على القوة العاملة، ما أجبر الشركات على البحث عن عمالة، في الوقت الذي يواجه فيه أصحاب الأعمال مشكلات في انقطاع الطاقة، ومحاولات الدولة والميلشيات النافذة الحصول على أموال منها، كما أن التجارة الدولية توقفت بسبب العقوبات على النظام، فيما فاقم الفساد من الأزمة، حيث تصنف منظمة الشفافية العالمية، سوريا كثاني دولة فاسدة في العالم.
ولا تشير الحملات الحالية في البلاد، إلى كل تلك المشاكل، بل تتعامل مع الأمور إما بعفوية كردة فعل طبيعية على الجوع والفقر والظلم أو بطريقة تتوافق إلى حد ما مع الخطاب الرسمي، خوفاً من ردة فعل انتقامية على الأغلب، واقتصرت الحلول التي تم اقتراحها، استجداء “المغتربين” لإرسال قليل من أموالهم للعائلات السورية في الداخل، ونشر ثقافة التعاون والتكافل الاجتماعي، لا أكثر!
—————————–
أربعة عوامل تجعل أيدي “الأسد” مقيدة اقتصاديا
رجمة: محمود العبي
مع استمرار تدهور الليرة السورية، ووصول الوضع الاقتصادي في سوريا إلى أسوأ مراحله منذ عشرات السنين، تسلّط صحف عربية وأجنبية الضوء، على الواقع السيئ الذي يعيشه رأس النظام واقتصاده.
وترى “الواشنطن إكزامينر” الأمريكية أنّه “لدى الديكتاتور بشار الأسد مشكلة كبيرة؛ فعملته في حالة تدهور وسقوط مطلق، وليس لديه ما يفعله لإيقاف ذلك السقوط”.
وتفنّد الصحيفة، ما يروّج له النظام السوري أكاذيب حول متانة اقتصاده وتعافيه بعد سنوات من “الحرب”، إذ تشير إلى أنّ “التدهور في العملة، دفع الأسد إلى فرض عقوبة على تداول العملات الأجنبية. وسيتطلب ذلك الآن سنوات من العمل الشاق”.
وتربط الصحيفة في تقرير نشرته اليوم الثلاثاء، بين تصعيد أجهزة النظام الأمنية قمعها لحركة احتجاج متزايدة بسبب انهيار قيمة الليرة السورية وانهيار الليرة.
وتوضح الصحيفة أنّ الأزمة الاقتصادية تجعل “أيدي الأسد مقيدة”. لأن أربعة مصادر رئيسية خارجة عن سيطرته إلى حد كبير.
أولاً، دخول العقوبات الأمريكية الجديدة التي قيدت وصول سوريا إلى الشبكات المالية العالمية-والعملات الأجنبية.
ثانياً، اضطرابات متزايدة في الاقتصاد اللبناني بسبب حركة الاحتجاج في تلك البلاد؛ لبنان هو القناة الرئيسية لتدفق الدولار غير المشروع إلى سوريا.
ثالثاً، تبخر احتياطي رأس المال السوري بعد تسع سنوات من الثورة السورية.
رابعاً، عجز إيران عن الاستمرار في دعم احتياطيات النظام السوري من العملات بسبب الضغوط التي تفرضها العقوبات الأمريكية.
صحيفة فاينانشال تايمز، قالت أيضاً إن الأسد يجعل الأمور أسوأ من خلال طباعة المزيد والمزيد من الأموال التي لا قيمة لها. إنه يخاطر بسحب سوريا إلى دوامة موت شديدة التضخم.
وتؤكد الصحيفة أنّه ينبغي على أمريكا أن تساعد في تصعيد أزمته. نعم، من المؤسف أن السوريين الأبرياء يعانون من انهيار عملتهم. لكن إذا أراد فلاديمير بوتين التخلص من حزم العملة الصعبة لإنقاذ الأسد، فيمكنه ذلك. ومع ذلك، ينبغي أن تركز أمريكا على زيادة الضغط على الأسد. بالاعتماد على قانون قيصر لعام 2019، يتعين على الولايات المتحدة زيادة العقوبات على المؤسسات المالية التي تدعم الأسد بشكل مباشر أو غير مباشر، وخاصة في لبنان وتركيا وإيران.
وتضيف الصحيفة: “يجب أن نفعل ذلك لأن مصلحتنا الوطنية تركز على موافقة الأسد على تقاسم السلطة السياسية وانتقاله من السلطة. ذبح مئات الآلاف من المدنيين السوريين خلال الحرب، دفع الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس جحافل من المجندين إلى أيدي الجماعات السلفية الجهادية السنية مثل الدولة الإسلامية. لكبح عودة هذه الجماعات، تحتاج سوريا إلى عملية سياسية تزود السنة بوسائل حقيقية لمعالجة مظالمهم. وإلى أن يحدث ذلك، سيستمر التمرد، وستستفيد الجماعات الجهادية.
وتؤكد الصحيفة مجدّداً أن أمريكا تنظر إلى الأسد، بأنه قاتل جماعي، فقد أي شرعيته كحاكم. سوريا لن تكون ديمقراطية نابضة بالحياة في أي وقت قريب، لكن لا يعني هذا أنه ينبغي علينا ببساطة دعم الأسد. باستخدام النفوذ الاقتصادي، يمكن للولايات المتحدة أن تجبر هذا النظام البغيض، وحلفائه الأجانب، على تقديم تنازلات جدية لأولئك الذين تم اضطهادهم لفترة طويلة.
مادة مترجمة عن صحيفة “الواشنطن إكزامينر”
بروكار برس
————————-
“اختنقنا والله”.. سوريون يتحدثون عن تأثير انتفاضة لبنان عليهم/ زينة شهلا
“منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، تحوّل اهتمامي من متابعة أخبار سوريا لملاحقة ما يحدث في لبنان لحظة بلحظة، والذي تبين أن له تأثيراً علينا أكثر مما نتوقع”، تقول ناديا الطويل، وهي سيدة ثلاثينية تعمل موظفة في واحدة من شركات القطاع الخاص في العاصمة السورية دمشق.
تتابع ناديا ضاحكة خلال لقاء مع رصيف22: “بكم سعر صرف الليرة اللبنانية على الدولار؟ مفتوح الطريق من سوريا لبيروت أو مسكر؟ الطرقات مقطوعة؟ مثال على أسئلة باتت خبزنا اليومي هنا في سوريا الآن. نشعر أحياناً وكأننا نراقب الوضع في لبنان أكثر من اللبنانيين أنفسهم”.
تبرر ناديا هذا الاهتمام الكبير بما تصفه “بالتداعيات الهائلة لانتفاضة لبنان على الاقتصاد السوري”، وهي تداعيات بدأت بالظهور بعد أقل من شهر على بداية الانتفاضة، حيث شهدت قيمة العملة السورية انخفاضاً متسارعاً ووصلت إلى حوالي ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، مقارنة بحوالي ستمائة ليرة في تشرين الأول الفائت، وتبعها تدهور اقتصادي غير مسبوق طال جميع مفاصل الحياة اليومية داخل سوريا، والتي يعتبر لبنان متنفسها الوحيد الآمن طيلة السنوات الفائتة، مع سهولة الوصول إليه مقارنة ببلدان الجوار الأخرى، وهي تركيا والعراق والأردن.
“لم يسبق لنا أن عشنا أياماً صعبة كهذه الأيام. تراجع سعر صرف الليرة وارتفعت كافة الأسعار، من سعر السكر والشاي واللبن إلى أكثر الأمور رفاهية، وأصبحنا مجبرين على تقليص نفقاتنا للحد الأدنى. بالتأكيد للحرب التي نعيشها منذ سنوات الأثر الأكبر، لكن الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت الأصعب دون شك. متى ستحل الأمور وتتشكل الحكومة في لبنان؟”، تتساءل ناديا وهي تحاول إضفاء طابع ساخر على معاناة تبدو وكأنها بلا نهاية.
الليرة السورية في أسوأ أحوالها
منذ العام 2011 بدأ تراجع قيمة الليرة السورية بشكل تدريجي، من 50 ليرة مقابل الدولار في آذار 2011، إلى 100 ليرة نهاية 2012، و210 ليرات نهاية 2014، وصولاً لما يقارب 500 ليرة نهاية 2018.
وفي بداية تشرين الأول الماضي، كان سعر صرف الدولار يتراوح بين 600 و650 ليرة سورية، ليتهاوى بعدها وبتسارع غير مسبوق وتزامناً مع بدء الانتفاضة في لبنان، وصولاً لألف ليرة هذا الأسبوع وفق سعر الأسواق السوداء، في حين بقي السعر الرسمي في مصرف سوريا المركزي ثابتاً على 434 ليرة.
ومن أهم أسباب هذا التدهور، وفق الخبير الاقتصادي السوري محمد حبش، صعوبة حصول التجار والمستوردين في لبنان على ما يكفي حاجتهم من الدولار من المصارف اللبنانية التي قيّدت عمليات السحب وتمويل التجارة، ما زاد الطلب على الدولار من سوريا فارتفع سعره. إضافة لذلك، طالت هذه التأثيرات التجار السوريين ممن يمتلكون حسابات بالدولار الأمريكي في لبنان، خاصة أولئك الذين يستوردون سلعاً لا يمولها مصرف سوريا المركزي بسعره الخاص، فاضطروا لشراء الدولار من السوق السوداء، ما أدى لارتفاع أسعار السلع التي يستوردونها.
ووصل التغير النسبي في سعر صرف الليرة مقابل الدولار الواحد إلى 95.00 بالمئة عندما تخطى الدولار عتبة الألف ليرة، كما يشرح محمد في حديثه لرصيف22، وبالتالي “خسر السوريون 95.00 بالمئة من ثروتهم بعد 2011، وباتوا مضطرين لدفع مبالغ أكبر في سبيل شراء ذات السلع والخدمات التي كانوا يحصلون عليها من قبل”.
ومع هذا التراجع، ارتفعت أسعار المواد والسلع داخل سوريا بنسبة تتراوح بين 35 و50 بالمئة، وفق تقديرات العديد من العائلات التي تحدثنا إليها، وتحوّلت مواكبة هذا الارتفاع لما يشبه الكابوس اليومي، فما كان يمكن الحصول عليه وفق حسابات متوسط الدخل الشهري الفردي الذي لا يتجاوز مئة دولار أمريكي لم يعد ممكناً، وبدأت معظم العائلات، حتى تلك التي تنتمي للطبقة الوسطى والتي كانت قادرة حتى اليوم على تدبير أمور معيشتها، بتقليص نفقاتها إلى الحد الأدنى.
“ودعنا اللحوم والدجاج ومعظم أنواع الفواكه والكثير من الكماليات منذ زمن بعيد، واليوم نضع خيارات لما يمكننا توديعه أيضاً من قائمة طعامنا التي يبدو بأنها ستقتصر على الخبز والسكر والشاي، وربما بعض أنواع الخضراوات”، هو لسان حال كثير من الأسر السورية اليوم، والتي بات لها عين على الأخبار في سوريا، وأخرى على تطورات الوضع في البلد الجار، أملاً بأن يكون الحل السياسي والاقتصادي هناك مدخلاً لتحسن -وإن كان جزئياً- في الوضع الاقتصادي داخل بلدهم.
————————————-
بثينة شعبان ومآل الأكاذيب الرئاسية/ مصلح مصلح
كان يمكن لخزعبلات بثينة شعبان على شاشة الميادين، في الـ 25 من كانون الأول/ديسمبر 2019، التي أدعت فيها بتحسن الوضع الاقتصادي الحالي عن مثيله في عام 2011 بمقدار خمسين مرة، أن تمر على أسماع أنصار النظام مرور الكرام، لو لم ينكأ جراحها الدكتور نور الدين منى، أحد وزراء النظام السابقين، بعد مرور العشرين يومًا على تلك المقابلة المشؤومة التي لم ير فيها الدكتور سوى “كلام يضع العقل في الكف”، الأمر الذي جعله يتجاسرعلى مطالبة المستشارة بالاعتذار من الشعب السوري، ربما لاعتقاده الراسخ أن شعبان ليست موغلة في الكذب على الناس فيما يتعلق بحياتهم المعيشية حتى أسفل أذنيها وحسب، بقدر ما أنها تكذب ولا تبالي بذكاء وحصافة من تكذب عليهم.
تبدو الرسالة المفتوحة التي بعث بها الوزير نور الدين عبر صفحته على الفيسبوك إلى زميلته في النظام خروجًا على الأعراف البعثية، التي طالما حكمت العلاقة بين أبناء السلطة الواحدة، في علاقتهم بالنصح والنقد لناحية إبقائه داخل الجدران المغلقة للإجتماعات الحزبية، أو رفعه إلى المستويات الأعلى عبر تقنية التقارير الأمنية. فما الذي دفع بالوزير للتعريض بسمعة المستشارة وحنكتها علنًا، حدّ الذهاب باتهامها بتدليس الحقائق هو العارف بحقيقة أن خطابها عن تحسن الوضع الإقتصادي ما هو إلا صدى لما يردده رئيسها في القصر الرئاسي عن تحسن الإقتصاد وتعافيه في كل مرة يظهر فيها مع وكالة إعلامية ليبيع الناس أوهامًا؟ فهل كانت تلك الرسالة محاولة ذكية من الرجل لتمرير الغضب الشعبي نحو الرئيس عبر المستشارة، بقصد النيل من مكانته وهيبته؟ أم أنها لم تخرج في كونها نوعًا من الاحتجاج العلني على الطريقة، التي تتعامل بها السلطة الحاكمة في مواجهة أزمتها الاقتصادية الخانقة؟
لا تبدو رسالة الوزير لزميلته في السلطة في جوهرها نوعًا من التعريض الشخصي، ولا مؤامرة سلطوية قذرة للإطاحة بها من موقع المستشارية كما أصرت أن تفهمها على ذاك النحو. فبدلًا من مسارعتها لتقديم اعتذار علني للشعب كما نصحها الوزير، سارعت لإرسال بيان صحفي لصحيفة الوطن، أوضحت فيه أن السبب الذي دفعها لاعتبار عام 2011 عامًا لانهيار الاقتصاد الوطني، كونه ترافق مع ظاهرة تهريب معظم الصناعيين لمصانعهم خارج البلاد، كما هجرة الفلاحين لأراضيهم إلى مخيمات اللجوء. كل ذلك دون أن تأتي بالطبع على ذكر مسؤولية النظام عن ذلك، كما على ذكر الوسائل التي لجأ إليها النظام لتدبر الأحوال المعيشية للناس التي شاءت الأقدار أن يعيشوا في ظله، رغم خروج معظم الموارد الإنتاجية عن سيطرته لصالح المعارضة، ربما لأنها لم ترغب بالبوح بحقيقة أن النظام في تلك السنة وما تلالها، كان لديه ما يكفي من الأرصدة المالية الكافية لتأمين مستلزماته من الحاجات الأساسية، ناهيك عن الدعم الإيراني اللامحدود، الأمر الذي حال دون تدهور سعر صرف الليرة على النحو الكارثي التي تتخبط به اللآن.
وضع الوزير الناصح زميلته المستشارة في عين عاصفة الغضب الشعبي من حيث يدري أو لا يدري، فعلى الرغم من حرصه على أن تكون رسالته بعيدة كل البعد عن الطابع الشخصي، فإنها سرعان ما انزلقت إلى عنف لفظي لم يبق ولم يذر، عبر تعليقات أصدقاء الوزير الافتراضيين، الذين لم يوفروا شتيمة مقذعة بحق السيدة إلا وساقوها من شاكلة “سيدة الزهايمر” إلى “سيدة الطمث المفقود”، كل ذلك على مرى ومسمع الوزير المستضيف الذي لم يبادر إلى نهر أحد منهم أو المسارعة لسحب المنشور من التدوال بعد أن صار منشور فضحية بدلًا منه منشور نصيحة، الأمر الذي جلب عليه معركة ضروس مع زوج المستشارة شعبان، جواد خليل، الذي اتهم الوزير بالحقد وحب الشهرة على حساب سمعة ومكانة السيدة، هي المتواضعة النبيلة التي أفنت كل عمرها وهي تذود عن حمى الوطن وسيده.
بعيدًا عن الآثار الجانبية الضارة التي أحدثتها رسالة الوزير على مكانة وسمعة مستشارة القصر الرئاسي، فإنها أبعد ما تكون عن التحريض على مقام الرئاسة السورية ممثلًا ببشار الأسد، فلا الوزير بوارد الإطاحة بالخطوط الحمراء التي تسمح بالنيل من هيبة الأسد، ولا هو بقادر على ذلك. فعلى الرغم من الغضب الهادر في رسالة الوزير فإنه يبقى في إطار التمني على رئيس السلطة ومستشاريه بالتحول عن الطريقة الحالية في التعامل مع الأزمة الحالية، التي تقوم على سوق الأكاذيب والتبجح بعظمة الإنجازات فيما واقع الحال يقول عكس ذلك.
في رسالته المفتوحة إلى المستشارة وربما منها إلى بشار الأسد، لا يطالب الرجل بالكثير، اللهم سوى بالتوقف بالكذب على الناس ومصارحتهم بالحقائق المفجعة، بأن أزمة سعر صرف الليرة ليس سلوكًا احتياليًا من قبل تجار لا ذمة لهم ولا وجدان، وإنما ضعفًا بنيويًا في اقتصاد غير قادر على التصدير ولا حتى على توفير المنتجات البديلة، بدلًا من اللجوء إلى الفذلكة الكلامية التي تجيد بها قريحة السيدة شعبان، في حديثها عن الأثر الوهمي لتغيرسعر صرف الليرة في مواقع التواصل الاجتماعي. فيما الواقع يؤكد أن كل تغير في سعر صرف الليرة على مواقع التواصل الاجتماعي المختصة سرعان ما يرتد سلبًا على سعر المواد المقومة بها.
يخط الوزير المحتج رسالة إلى من يهمه الأمر، فتتلقفها السيدة المحاطة بمؤامرات القصر على أنها نوعًا من تشويه السمعة المفضي لنزعة الثقة الرئاسية، في توطئة لطردها من نعيم السلطة الأسدية التي تحيا فيها. فيما يتلقفها بشار الأسد على شكل استهتار بسلطته المطلقة على قوانين الاقتصاد، فتراه يسارع إلى سن المراسيم الرئاسية التي تشدد العقوبة على كل من تسول له نفسه التعامل بالعملات الأجنبية، أو يساهم في الإعلان عن أسعار صرفها، دون أن يخطر على باله أن ليس بالعنف والقسر تتم إدارة الاقتصاد، وإنما بالسياسة، الإدارة الحكيمة للناس، التي على ما يبدو أنه يفتقد لأبسط أبجديتها، بدليل مسارعته إلى كل ما يمت للقوة العارية بصلة.
——————————-
انهيار الليرة السورية.. هل يوجه لبنان الضربة القاضية لنظام الأسد؟/ سامر القطريب
يبدو نظام الأسد وحيدًا هذه المرة، مع تواصل انهيار الليرة السورية أمام الدولار والعملات الأجنبية، في ظل انتفاضة مستمرة في لبنان الذي يعد مركز ودائع الأثرياء السوريين، وأخرى في العراق الذي هو مثل لبنان وإن بدرجة أقل.
ومن جهة أخرى، يعني ذلك ضغوطًا إضافية على الحليف الإيراني، الذي يعاني عقوبات أمريكية خانقة، أثرت بشكل واضح على الخط الائتماني الذي فتحته طهران مع نظام الأسد لدعمه ومنع سقوطه، بالإضافة لما يعانيه الاقتصاد الروسي على إثر العقوبات الأوروبية والأمريكية.
في مواجهة ذلك، يعتقد مراقبون أنه من الممكن أن توجه الاحتجاجات في لبنان، وانهيار الليرة السورية، ضربة قاضية لنظام بشار الأسد، رغم سيطرته العسكرية على مناطق واسعة.
بنوك لبنان تُقيّد أموال الودائع
تأثر سعر صرف الليرة السورية بالانتفاضة اللبنانية وتداعيات الأزمة الاقتصادية في لبنان، حيث فرضت المصارف اللبنانية قيودًا على سحب الودائع، بما لا يتجاوز مبلغًا محددًا أسبوعيًا هو 1500 دولار، وأي مبلغ يزيد عن ذلك يمكن سحبه بالليرة اللبنانية، وفق سعر صرف يقل بأكثر من 15% عن سعر الصرف في محلات الصرافة.
وبطبيعة الحال، تنطبق هذه الإجراءات على السوريين، ومنهم التجار، ما أدى للجوئهم إلى السوق السوداء السورية لشراء الدولار، مع انخفاض القدرة على تأمين العملة الأمريكية.
انهيار الليرة السورية
أشاع نظام الأسد أجواء توحي بمساءلة أصحاب رؤوس الأموال والمقربين منه، مثال ذلك: الإعلان عن الحجز احتياطيًا على أموال طريف الأخرس، عم أسماء زوجة بشار الأسد، قبل أن تعود السلطات وتلغي الحجز، في ما بدت أنها محاولة لإجبار كبار التجارعلى التدخل والوقوف بوجه الانهيار النقدي، ودعم البنك المركزي بالعملة الصعبة.
وعلى إثر ذلك أنشئ “صندوق رجال الأعمال” بالتعاون مع غرف التجارة والصناعة، بهدف تأمين النقد الأجنبي اللازم للاستيراد “وفق سعر مناسب”، على أن يتحمل رجال الأعمال المساهمين في الصندوق، بعض الخسارة الناتجة عن الفارق في سعر الصرف.
ورغم الإعلان عن وصول حصيلة الصندوق إلى مليار دولار، منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بحسب أحد أعضاء غرفة التجارة، إلا أن مبادرة الصندوق فشلت عمليًا في منع انهيار الليرة، واقتصرت مفاعيلها على تخفيف سرعة الانهيار، مع أخبار لاحقة عن تجميد المبادرة، بسبب تقييد استفادة المستوردين منها بشروط تعجيزية.
كما أن ما يشهده لبنان الآن، أدى لانخفاض حركة تنقل الشاحنات مع سوريا، إلى 10% من حجمها العادي. وينطبق الأمر ذاته على معبر نصيب الحدودي مع الأردن، شبه المتوقف أيضًا، بسبب انتهاء المواسم الزراعية في الأردن، بالإضافة إلى الخيبة من مردود معبر البوكمال الذي عول عليه النظام كثيرًا، مع الانتفاضة التي يشهدها العراق. وقد أعلن النظام مؤخرًا أن الخسارة الناجمة عن كلفة معبر البوكمال التشغيلية تبلغ 100 مليون ليرة شهريًا.
ولا يقتصر تأثير الأوضاع في لبنان والعراق الآن، على توقف حركة الترانزيت والتبادل التجاري، وإنما تجلت بحرمان النظام السوري ورجال أعماله من السحوبات البنكية في لبنان طيلة فترة إغلاق البنوك، وانخفاض كمية المبالغ المسموح بسحبها من العملة الصعبة بعد عودة تلك المصارف إلى العمل.
وكانت وسائل إعلام مرتبطة بالنظام، وشخصيات اقتصادية منهم حاكم مصرف سوريا السابق دريد درغام، قد حثت السوريين على سحب أرصدتهم وودائعهم من البنوك اللبنانية مع بداية الحديث عن أزمة مالية في القطاع المصرفي اللبناني، قبل اندلاع الانتفاضة، محذرة أصحاب الحسابات من تقييدها أو حتى خسارتها بالكامل مع استمرار الأزمة المالية في لبنان.
الدولار.. هل يكون الضربة القاضية؟
بحسب موقع “ميدل إيست مونيتور”، تسببت الأزمة المالية في لبنان بضرب اقتصاد سوريا بشدة، ما أدى إلى اختناق مصدر حيوي من الدولارات وجر الليرة السورية إلى مستويات قياسية من الانهيار.
وبعد فرض الغرب عقوبات على النظام، اعتمد الاقتصاد السوري على العلاقات المصرفية مع لبنان للحفاظ على التجارة والأعمال مستمرة خلال الحرب الجارية منذ أكثر من ثماني سنوات.
لكن مع فرض البنوك اللبنانية قيودًا مشددة على عمليات السحب والتحويل بالعملات الصعبة للخارج، وجد السوريون الأثرياء أن أموالهم لا يمكن الوصول إليها. وتوقف تدفق الدولارات من سوريا إلى لبنان، وفقًا لما أكده ثلاثة رجال أعمال وخمسة مصرفيين في دمشق وخارجها.
وبالتزامن مع اندلاع الانتفاضة اللبنانية، تراجعت قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 30%، ما يعكس أثر الأوضاع في لبنان على الاقتصاد السوري، خاصة وأن مليارات الدولارات المملوكة لرجال أعمال سوريين، مودعة في المصارف اللبنانية، وكانت الفوائد المدفوعة من المصارف على هذه الودائع، مصدرًا هامًا للاقتصاد في سوريا.
هذا وتشير بعض التقديرات، أن حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية، يبلغ حوالي 30 مليار دولار أمريكي، أي ما يقارب خُمس جميع الودائع في البلاد.
بالإضافة لذلك، مثل النظام المالي اللبناني قناة عبور لأموال السوريين في أوروبا ودول اللجوء، الذين كانوا يحولون الدولار والعملة الصعبة من بلدان إقامتهم إلى سوريا، مرورًا بلبنان. هذا التدفق ضُرب الآن، على وقع أزمة مركبة في لبنان.
وعلى نفس المنوال، قالت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية، إن الانتفاضة اللبنانية، ستمثل ضربة قاضية لنظام الأسد من بوابة الاقتصاد، بعد أن تراجعت الليرة السورية إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار الأمريكي، الذي سجل سعره 850 ليرة، أي أنه في حين كانت الـ100 ليرة سورية تساوي دولارين تقريبًا في 2011، باتت تساوي الآن 13 سنتًا فقط.
من جهة أخرى، فإن السياحة، أبرز مصادر العملة الصعبة سابقًا، قد انتهى وجودها في سوريا على إثر الحرب، وكذا النفط الواقع تحت سيطرة قوات أمريكية وأخرى تابعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وفي حين تعامل البنك المركزي سابقًا، مع انخفاضات متتالية في قيمة العملة، ببيع الدولار لمحلات الصرافة بسعر رسمي قدره 435، لم يعد قادرًا الآن على تكرار الأمر، إذ لم يعد لديه ما يكفي من الدولار لمثل هذه التدخلات، فوفقًا لبعض التقديرات، انخفضت احتياطات سوريا من العملات الأجنبية إلى 200 مليون دولار.
توزيع اللوم
لفترة طويلة، والمسؤولون في النظام السوري يلقون اللوم على العقوبات المفروضة على النظام، حتى أن محافظ البنك المركزي السوري، قد صرح سابقًا بقوله: “إنها حملة ممنهجة لتقويض العملة السورية، ودفع الناس للتخلي عن عملتهم الوطنية”.
على مدار سنوات اختبر السوريون في مناطق سيطرة نظام الأسد، تصريحات النظام، التي لم يبد أنها كانت صادقةً تمامًا، بقدر وقوع أكثر من 500 ألف قتيل في سوريا على مدار سنوات الحرب، ولجوء الملايين، ودمار البنى الصناعية والتجارية في أرجاء البلاد، وبالجملة فقد الاقتصاد السوري ثلث ما كان عليه في 2010.
وفي حين سبق للأسد أن أعلن، رفقة حلفائه الروس، انتهاء الحرب، وانتصار النظام، لم يكن هذا الانتصار المزعوم كفيلًا بإعادة الإعمار، أو إحداث ولو انتعاشة جزئية في الاقتصاد على مستوى التجارة على الأقل.
في المقابل، ووفقًا للمركز السوري لأبحاث السياسات، فإن قرابة 90% من سكان البلاد يرزحون تحت خط الفقر، مع عدم قدرة نظام الأسد على تنفيذ إصلاحات هيكيلية لتجاوز الأزمة، الأمر الذي يطرح تساؤلًا متكررًا: إلى متى يمكن للنظام احتواء سخط شعبي كامن في مناطق سيطرته على الأقل؟
من ينقذ الأسد؟
لا تملك روسيا الأموال لبدء عملية إعادة الإعمار في سوريا، وهي تسعى جاهدة إلى حلحلة في الملف السياسي لجذب الأموال الأوروبية والخليجية. لكن موسكو في الوقت الحالي، وعلى غرار طهران، تطمح إلى تحصيل ثمن دعم بشار الأسد والحفاظ على كرسي الحكم.
انهيار الليرة السورية
وفي حزيران/يونيو الماضي، قرر الاتحاد الأوروبي تمديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، لستة أشهر أخرى، وذلك على خلفية الأزمة الأوكرانية، هذا إلى جانب العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن جهة إيران، فالوضع ليس أفضل، مع العقوبات الأمريكية المفروضة من قبل إدارة ترامب على قطاعات النفط والبتروكيماويات والتعاملات المالية، وذلك على خلفية انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني. وقد أثرت العقوبات عميقًا على إيران، التي شهدت احتجاجات متفاوتة لأسباب اقتصادية.
يدعو هذا للتساؤل بإلحاح: من الذي يمكنه إنقاذ نظام الأسد إذًا؟ خاصة أنه وكما هو واضح، يعاني حلفاؤه من أزماتهم الخاصة، في ظل وضع إقليمي يشهد تغيرات عميقة وغير مسبوقة.
=========================