الروائي البريطاني جورج أورويل في مذكراته: المتنبئ بأحداث الزمن وتقلباته/ هاشم شفيق
كان جورج أورويل كاتباً من طراز خاص، له رؤياه وعالمه الغريب وفرادته النادرة، في زمن لم يكن يتقبل الغرابة والندرة والصوت المميز، وفي عالم كانت تسوده حينذاك، المطابقات والتشابهات والتماثل والذوبان في نطاق القوى الأعلى، إن كان على الصعيد السياسي والاجتماعي والطبقي المتمثل بالرموز والرعاة الكبار، والسيادة البطريركية .
وُلِد إريك آرثر المعروف بجورج أورويل في موتيهاري البنغالية عام 1903 لأبٍ كان يعمل نائب وكيل لدى إدارة الأفيون المدنية ـ الهندية، وعاد مع عائلته وأخته مارجوري الى إنكلترا، بعد عام على ولادته، ليستقر في بلدة هنلي على ضفة التيمز .
عُرف أورويل بتعدده الكتابي، وانشطاره الإبداعي، فهو روائي، وكاتب مذكرات، وصحافي لامع، وقاص، ومزارع، وبائع، ومعد برامج إذاعية، وإذاعي، بالرغم من خفوت صوته، وعدم تميزه على صعيد الأداء والنبرة والإلقاء، غير أنه رغم ذلك، كان يقدم برامجه من البي بي سي، أشهر قناة إذاعية في العالم. كان شيوعياً في فترات شبابه، تابع نشاط الحزب الشيوعي البريطاني عن كثب، إلى أن حدث الانفصام، ولكنه ظل وفياً لأصدقائه الشيوعيين البريطانيين، وهم كثر ومتنوعون، ففيهم المثقف، والشاعر، والناقد، والروائي، والعامل، والصحافي، والنقابي، كما ترد أسماء الكثير من هؤلاء الصحاب، والشخصيات الأدبية، والفنية، والفكرية، في هذه المذكرات المتنوّعة، والمثيرة، والجذابة في بعض الفصول منها .
عاش جورج أورويل حياة متقلبة، ومغامرة، ومليئة بالإثارة، والجاذبية حد الانسحاق، فهو ابن عائلة مرموقة على الصعيد الاجتماعي، بيد أن ابنها إريك المعروف بجورج هجرها، وهو شاب في مقتبل العمر، معتمداً على نفسه، خائضاً في عالم البوهيميات، سائراً في دروب النهلستية، فوضوياً، شريداً، لا يملك قوت يومه، جائعاً، مطعوناً بهوام الشارع، وبرده وتقلب الأنواء، وهو ملازم للشارع، أو مصاحب للمشردين، والمنبوذين والخارجين على القانون، هذا بدون أن ينسحق هو كلياً، ويتحول إلى شخص يمس بالقانون مطلقاً، بل كان في كل أحواله ويومياته الشريدة، المختومة بالفاقة، والحرمان، والمآسي، كان أقرب إلى حكيم بوذي، أو إلى راهب، وناسك، ومتصوف، يُحسن التصرّف مع الأفعال، تلك التي يأتي بها الزمن، وسوء الحال، والحظ الذي لطالما أكد وألحف في تمجيده وتقريظه، كونه هو من يرسم مقادير الكائن الإنساني .
وبمناسبة الحديث عن الحظ، فأورويل الروائي الشهير، والصحافي المرموق، والمثقف النابه، كان يؤمن بالسحر والخرافة، وبالشطحات الباطنية، رغم إيمانه الراسخ في بعض محطات حياته بالاشتراكية، والمشاعية، والماركسية، والماوية.
لجورج أورويل كتب كثيرة، لعل أهمها روايتي “مزرعة الحيوان” و “1984” تلك الرواية التنبؤية، رواية الخيال القافز والمتوثب، والحافل بما سوف يحدث ويقع، ففي روايته هذه تنبأ جورج أورويل، بنهاية الشيوعية، وقد كشف عبر أبطالها ومنها “الأخ الأكبر” الرؤيا الميكافيلية، ذات الجموح البطريركي، المتسق مع الكلانية، والبعد الشمولي لكل مجاري الحياة العامة، كشف ذلك في وقت مبكر، في أوج الصعود الشيوعي الماركسي والماوي، وقد جاء ذلك بعد احتدام الديالكتيك، في تجارب خاضها شخصياً، مع بعض القادة الشيوعيين البريطانيين، وكذلك مع بعض الأصدقاء الشيوعيين، الفرنسيين والإيطاليين، وقد توج ذلك الانفصال بُعَيْد زيارته لموسكو ومراقبته للحياة وملامستها عن كثب .
بعودة جورج أورويل سرَتْ بعض الشائعات، وهي شائعات يؤكدها هو، بعمله مع جهاز المخابرات البريطاني، واعتَبَر ذلك عملاً وطنياً، يعود بالفائدة لمصلحة البلاد، وأمنها القومي والوطني .
الكتاب الآخر المثير للمخيلة، والباقي بعد كل مرور هذه السنوات، هو رواية “مزرعة الحيوان”، وهو يحاكي خيال الصغار والكبار، وفيه كمية كبيرة من الرؤى المستقبلية، وشخوصه وديعون وأليفون وغريبون، كونهم ينتمون إلى عالم الغرابة والخيال .
أما الكتاب الثالث الذي قرأته له، فضلا عن الكتابين الآنفين، فهو “متشرداً ما بين باريس ولندن”، وهو نوع من الذكريات القاسية، والأليمة، والجارحة، تلك التي عاشها كاتب بحجم جورج أورويل، إنه عبارة عن يوميات جوعه الكبير، والقحط الذي أصاب حظه، وهو رجل متوقّد الذهن والحس، مثقف بارع، ومبني الهيكل من الناحية الجسمانية، طويل، ومقبول الطلعة، يبحث عن العمل، واللقمة، والمأوى الدافئ، في عالم بارد، وقاس، وجاف ليس فيه ثمة رحمة، لمن هم من طبقته، وأمثاله من المسحوقين والمنبوذين والمشرّدين، ولكن أيضا الواعين والعارفين والسابرين لأبعاد ذلك العالم، أولئك الذين عركتهم التجارب، والمحن، والمصائب، والمشاكل المتوالية، واليومية دون توقف لها .
لعل هروب أورويل الفتى الشاب، والغض، وطري العود من عائلته، كان بدافع كسب التجارب وتحصيلها، ونيلها بالحس، عبر اللمس باليد والروح والقلب، ثمّ الذوبان في أتونها، مهما جاءت تلك التجارب، من واقعات مأسوية تفوق الواقع، وتقترب من عامل الخيال والأحلام الطوباوية .
تنقسم مذكرات جورج أورويل هذه، الى قسمين كبيرين، بالرغم من وجود إضافات وإدخالات، إدخالات من يوميات أخته الصغرى أفريل، بعد رحيله عن الدنيا، وهي يوميات معدودة الصفحات، تتمثل أسلوب أورويل في كتابة اليوميات، وثمة إدخالات من مفكرتين منسيّتين لأورويل، مع عودة الى المذكرات المنزلية، بعد سبعة شهور من الغياب، بسبب دخول أورويل المستشفى لغرض العلاج والمكوث فيها كل هذه الفترة .
تحتل اليوميات المنزلية ثلثي مساحة الكتاب الكبير والضخم، والقسم الباقي يذهب الى مذكرات الحرب ويومياتها، والمقصود هنا الحرب العالمية الثانية، وكان أورويل الكاتب، والصحافي، والإعلامي في القلب من أتونها، ولهبها الذي غطى على العالم، وحوّله الى خرائب، وقتلى وضحايا، وأبرياء، بين الأطراف المتصارعة، والمتحاربة، والمفتوحة شهيتها على التهام العالم جميعه، كما تمثل ذلك بمشروع النازية، والفاشية، ومن دار في فلكهما.
لقد دوّن أورويل في مفكرته الحربية كل شيء، لقد ظهر المبدع الكامن فيه، وبدا مثله مثل همنغواي، دقيقاً في وصف الشأن الحربي، صحيح أنه خدم في بورما كشرطي في المستعمرة البريطانية، ولكنه في يوميات الحرب يُبدي نوعاً من أدب المعركة، وقلمه يتموّه بالظلال، ويصطبغ بألوان العسكرة، وأيضاً تلوح عليه ملامح التنبّؤ بالآتي :
” جميع المفكرين قلقون الآن من التهدئة بعد هذه النهاية من الحرب، إذ يشعرون بالثقة من أن هناك شيئاً شيطانياً جديداً يُحظر لهم، لكن التفاؤل الشعبي سيزداد مجدداً على الأرجح وسيكون لتوقف الغارات، ولو لبضعة أيام فحسب مخاطره. عندما كنت أستمع لمحادثة هاتفية لأشخاص آخرين في ذلك اليوم، مثلما يفعل الجميع في الأيام بسبب تقاطع الأسلاك، سمعت امرأتين تتحدثان بما معناه … لن يطول الأمر أكثر الآن … وفي اليوم التالي وأنا في طريقي إلى دكان السيدة ج علقتُ عرضياً بأن الحرب ستبقى دائرة على الأرجح لثلاث سنوات أخرى، فاستغربت السيدة ج ، وارتعبت”.
وكما هي حالة انقسام الناس في أية حرب، أو أزمة، أو محنة ومُلمّة، تحل على بلد ما، يقول في موضع آخر، من تدوينة مكتوبة بتاريخ 7 ـ 2 ـ 1941.
” ثمة الآن انقسام في الآراء يزداد يوماً بعد يوم، السؤال ضمنيّ من البداية لكن الناس لم يدركوه إلا مؤخراً، ما إذا كنّا نحارب النازية أم الشعب الألماني”.
تكشف المذكرات عمق الثقافة والمعرفة الإنسانية لدى أورويل، فهو ملم وخبير في علم الزراعة، وأيضاً في علم الحيوان الى حدّ ما، فهو يعرف أنواع المئات من الزهور والنباتات والأشجار، ولكأنه عالم نبات وطبيعة، وله مقدرة استثنائية على معالجة التربة والحيوانات التي كان يربّيها في مزرعته، ولكأنه طبيب بيطري، فهو كان يجمع أكثر من شخصية فيه، فهو بائع للبيض الذي كانت تبيضه له دجاجاته، وكذلك كان يبيع محصول البطاطا والطماطم والفراولة والخضراوات الأخرى، فضلاً عن استغنائه للشراء من السوق، فالحليب كانت تدرّه عليه الماعز، فهو يعرف كم ستدرّ عليه المعزاة من الحليب، ويعرف كم هو موجود في ضرعها، وهل هو صالح للشرب أو متعفّن، أو بائت في ضرعها، ولم يحلب منذ فترة؟ وكان يراقب عبر تحوّلات الفصول والأنواء، كلّ نبتة، ووردة، وشجرة فاكهة، لديه دفاتر للبيض وعددها، وأخرى للثمار وعدد التفاحات المجتناة، دفاتر حسابات، تنضاف إليها دفاتر كتاباته، من يوميات وروايات، وأورويل إضافة إلى كل هذا، رجل علم وأدب وسياسة، وشخصية جذابة لأصدقائه، فهو مدخن ومتعاط للشراب بحدود، وجليس حانة مميز .
ومن يومياته المنزلية نختار هذا المقتطف:
5ـ 7 ـ 1939
“غرستُ نبتتين إضافيّتين من الكوسا الكبيرة ونزعتُ الغطاء من الأخريات، أزلت مزيداً من الحشائش الضارة، اختفى اللفت تماماً ولم يتبق إلا القليل من نباتات البصل … وصلت المعزاة الجديدة، كان من الواضح أنها لم تحلب منذ مدة فحلبتها، حصلت على باينت ونصف، الى جانب نصف آخر هذا المساء … بعت 40 بيضة بسعر 2 شلن”.
شاب اليوميات المنزلية الكثير من التشابه والتطابق والتماثل الواضح، وكان يمكن الاستغناء عن قرابة الثلاثمئة صفحة، دون أن يخل ذلك بمحتوى هذا الكتاب الشيّق.
“مذكرات جورج أورويل”
ترجمة مريم عيسى
دار المدى، بيروت 2019
772 صفحة.
القدس العربي