عندما يريدون التعليم في سورية إيرانياً/ عمار ديوب
مذكّرات واتفاقات، عقدها أخيراً وزير التعليم والتربية الإيراني مع زملائه في سورية، وظيفتها الهيمنة على جوانب كثيرة من التعليم في سورية “تأهيل وتعديل وطباعة المناهج وتغيير المحتوى، وترميم المدارس، وأن تكون لغتها ضمن المناهج التعليمية، والإشراف على العملية الامتحانية وكيفية قياسها، وقضايا كثيرة”. هذه ليست المرّة الأولى للتدخل؛ فهناك محاولاتٌ كثيرة من قبل، وكانت المستشارية الثقافية في دمشق تتولى تنظيمها، فبنت الحوزات والجامعات الدينية في حيّ السيدة زينب خصوصاً، وأنشأت مدارس دينية في الساحل السوري، وفي مناطق كثيرة. وبعد سيطرتها على مناطق واسعة بعد 2011، راحت تفرض طقوسها الدينية، وأشكالاً من التعليم على تلك المناطق.
لم يعد ذلك كله يكفي إيران؛ فروسيا، المتدخلة بقوة، فرضت لغتها ثانيةً، وأعطت منحاً كثيرة لطلاب الجامعات؛ وإيران، بتوقيعها تلك المذكّرات، تنافس روسيا، تنافسها على مستقبل الأجيال السورية، وتفترض أنها انتصرت في الحرب مع النظام، ومن حقها الهيمنة التعليمية و”تعميق العلاقات الاستراتيجية”، فكيف لو علمنا أن أكثر من عشرة آلاف مدرسة مدمّرة. وبالتالي، هناك قطاع إنتاجي جديد، يحقق لها أرباحاً كثيرةً، إضافة إلى الهيمنة الأيديولوجية والفكرية على العقول.
تتضمّن المذكرات إشرافاً كاملاً على التعليم السوري، وتهيئة للمدرّسين في إيران. وبذلك تتوهم إيران أنها باقية في سورية، وتريد أن تتمدّد، كما أوهام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تماماً. هي تسابق الزمن، وربما أتاح لها فرصةً، قبل أن تشتد العقوبات عليها، أو تتجدّد الثورة الشعبية الإيرانية التي تستهدف النظام بكليته، ومنذ 1978، أو تنتصر الثورة في إحدى الدول العربية، أو تستعاد في سورية؛ هي إذاً أوهام العقائديين، ولا شيء أكثر من ذلك.
قلت أوهام. فلنراقب ما يحصل في العراق ولبنان، لنفهم أن إيران تتحرّك ضمن استراتيجيتها السابقة، أي فرض نفوذها على العالم العربي؛ ولكن ماذا لدى إيران لتفيد به العملية التعليمية في سورية؟ في سورية أغلبية عربية، وفيها قوميات عديدة، ليست بوفاقٍ مع الإيرانيين، ودينياً فيها أغلبية سنيّة، وهناك أقلياتٌ دينية، وأقلية شيعية صغيرة العدد. بلاد كهذه، كيف ستتقبل دعماً في العملية التعليمية، يستقي مرجعيته من عقيدة وليّ الفقيه واشتراطاتها، ومن عنصرية إيرانية رافضة للعرب، وتصوّرهم في مناهجها التعليمية همجاً وبدائيين. أيضاً، ماذا تشكل إيران مقارنةً بالصين أو روسيا أو أية دولة أوروبية؟ النظام التعليمي في أيّة دولة هو أداة أيديولوجية للنظام السياسي، وهذا يشمل كل الدول، المتقدمة والمتخلفة، وترفض أية دولة هيمنة دولة أخرى عليه، وبالتالي المذكّرات تلك تأتي في لحظةٍ تاريخيةٍ تشهد فيها سورية أضعف حالاتها؛ فالنظام “يتكتك بتفاهة” من أجل ديمومة سلطته، والمعارضة ليست واعية لخطورة أن تسيطر تارة تركيا على قطاع من الشباب السوري، وتارة روسيا، وثالثة إيران، ورابعة دولة أخرى، وهي لا تواجه ذلك أبداً.
إيران الفاشلة في ترميم مدارسها، وفي تطوير العملية التعليمية فيها، وغير قادرة على تأمين فرص عمل للمتعلمين، دولة كهذه لا يمكنها النهوض بالتعليم في سورية. إنها في أحسن الأحوال تريد قطاعاً إنتاجياً مربحاً، وستحاول جاهدةً فرض بعض المناهج والتأثير في الوعي والعقول. محاولتها تلك فاشلة للأسباب التي ذكرتها، وكذلك لأنها تتجاهل أنها هي سبب مركزي وأساسي في كل الدمار الذي حلَّ في سورية. ولهذا سيرفضها السوريون، وبكل معتقداتهم الدينية وقومياتهم. صمتهم حالياً متعلقٌ بالصمت حيال النظام كذلك، بينما وحينما يحصل أي تغيير في سورية سيكون رافضاً الوجود الإيراني بكل أشكاله، وبالتأكيد ستُشطَب أية مذكراتٍ واتفاقاتٍ تخصّ العملية التعليمية وسواها؛ فهو مجال الوعي والنشوء والأجيال والمستقبل، أي يبتغي التأثير في التوجه العام للمجتمع، وهذا مرفوضٌ بالكامل؛ رُفضَ الأمر في العراق، وفيها أغلبية شيعية، فكيف الحال في سورية!
تجنبت القول بتشييع التعليم في سورية، على الرغم من أن النظام الإيراني يُشيع نظامه التعليمي، ويستقي من ولاية الفقيه فكرته الأساسية، وكذلك من قيم الثورة الإسلامية؛ ذلك التجنب لأن لدينا شيعة عرباً كثراً، وهناك عربٌ في إيران متضرّرون من نظامهم التعليمي ذاك، والقصد أن هناك ضرورة للتمييز بين المشروع الإيراني، بتعدّد أشكاله، (ومحاولته السيطرة على المنطقة العربية، وضرورة استعادة “الشيعة” العرب؛ فهم عرب أولاً) والأيديولوجية الشيعية في إيران، وهي على الرغم من أنها مصدرٌ تشريعي لكل مؤسسات الدولة، فلا يمنعنا ذلك من التمييز السابق. إذاً، إيران مرفوضة في الدول العربية، ورفض أيديولوجيتها وتخريبها للتعليم في الدول العربية لا يعني بحال رفضاً للمعتقد الشيعي؛ حيث هناك عرب كثر يدينون به، وهو جزء من تراثنا في كل الأحوال. إن العرب يرفضون دور إيران في الهيمنة، منها الهيمنة على الشيعة العرب. في كل الأحوال، تنطلق الثورة في العراق حالياً بصورة رئيسية من المناطق ذات الأغلبية الشيعية، وهذا وحده يوضح فشل كل محاولات إيران للسيطرة على هذا البلد، وفشلها يشمل التعليم الديني بالتأكيد، ومحاولة سلخ شيعة العراق عن عروبتهم وهويتهم الوطنية. الثورة العراقية مثال دقيق لتوضيح أوهام إيران في الهيمنة في هذا البلد أو ذاك.
إذاً، تعلم إيران بفشل إمكانية السيطرة على التعليم في سورية، ولكنها توقّع اتفاقيات ومذكرات، وهي بذلك تغامر على أرضية الانتصار المفترض على السوريين. إيران بذلك تنافس روسيا في قطاع إنتاجي مربح، وهيمنة أيديولوجية وهمية، وزيادة أوراقها السياسية في التفاوض بشأن سورية مستقبلاً.
كان التعليم أداة أيديولوجية بيد النظام من قبل، واستهدف فيه تشكيل الوعي وتنميطه ضمن سياساتٍ وأطر محدّدة، وبما يجعل الفرد خاضعاً خضوعاً كاملاً، وهي وظيفة العملية التعليمية في الدولة الشمولية، وإيران مثالاً، وليس سورية فقط. على الرغم من ذلك، لم يستطع النظام منع الثورة الشعبية في 2011. طبعاً، شوّه الوعي كثيراً، ومنع تشكيل عقلية نقدية، وعلمية، وهذا أربك السوريين كثيراً، في نظرتهم إلى أنفسهم وأدوارهم وعلاقتهم مع الآخرين، وبالتأكيد إيجاد مشكلات فكرية وسياسية وسلوكية كبرى، عانى منها السوريون حينما تخيّلوا أن ثورتهم غير قابلة للانتكاس، وحينما أصبحت أوهاماً كبرى، اعتبروها واقعاً يستحيل تغييره! وكان لذلك أثر كبير لدفعهم نحو العزلة والوحدة والشعور بالإحباط والتعاسة والاكتئاب وسواه، وافتقاد الإرادة في التغيير من جديد.
يحتاج السوريون فعلاً إلى عمليةٍ تعليميةٍ جديدة، تنهض بهم مما أصبحوا عليه. إيران لا يمكنها ذلك، والنظام فاشل من قبل وحالياً، وبالتالي مواجهة المشكلات السابقة، ومواجهة التدخلين، الإيراني والروسي، يجب أن تكون من أهداف المناهج التعليمية السورية المستقبلية. إذاً، محاولة الاحتلالات السيطرة على التعليم ستفشل بالضرورة، وبالتالي ليس من أيرنةٍ أو ترويسٍ للتعليم في سورية؛ فقط سورنته من جديد، هي الحل وهي الضرورة، وهذا سيتحقق حينما يستعيد السوريون بلادهم من النظام ومن الاحتلالات.
العربي الجديد