نوافذ إلى الحب والحرية والألفة/ وائل السوّاح
سنتعلّم في السجن الصناعة والحِرفة والكتابة والحرية. بدأت الصناعة في فرع التحقيق بصناعة الملعقة. حين نُقلنا أنا ومنيف من الزنزانة إلى المهاجع، صُدمنا بمشكلة الملعقة. في الزنزانة يأتيك طعامك في أوان صغيرة. تأكل الأرز أو البرغل بالخبز، وتشرب المرق أو الشاي مباشرة من الإناء الصغير. في المهجع، يأتونك بأوان عملاقة تسبح فيها حبات البطاطا في بحيرة من المرق الأحمر الماسخ، وعليك أن تغوص فيها بنفسك. ثم صنّعنا أول ملعقة. حين جاءت زيارة لأحدنا، استخدمنا علبة طعام محفوظ معدنية فصنعنا منها سكينا، قصصنا بها علب حلاوة على هيئة ملاعق، وتذوّقنا الأكل بالملعقة، وحوّلنا علبا أخرى إلى أقداح لشرب الشاي والماء، فارتقينا من مملكة الحيوان إلى مملكة الإنسان.
ولكنّ الملعقة لم تكن آخر اختراعاتنا، فلسوف نعيد اختراع الطاولات من علب الكرتون وغراء الخبز المنقوع بالماء والسكر، ونستخدمها كمساند لقراءة الكتب؛ وسنعيد اختراع ورق اللعب والشطرنج وطاولة الزهر، وجميعها من عجين الخبز والسكر وورق علب السجائر. سيغير ورق اللعب والشطرنج من حياتنا، فيملأها بهجة وحماسة ومنافسة. كان أمهرنا في لعبة الشطرنج سمير عبّاس، المحامي الطرطوسي القادم من عائلة عريقة في المحافظة. لم أعرف شخصا بأناقة سمير عباس ونظافته الشخصية وتهذيبه. في أحلك لحظات السجن كان يتعامل مع الجميع بأدب شديد ولطف بادٍ. يقدّم حصّته من الفاكهة لأي مريض، ويتخلّى عن حصّته من الشوكولاتة التي كانت تأتينا في الزيارة لمن يشتهيها أكثر. ورغم أنه – كمعظمنا – مدخّن عريق، كان يتخلّى في كثير من الأحيان عن بعض سجائره لجهاد عباس أو رستم رستم. وإلى لطفه ودماثته، كان سمير مثقفا حقيقيا في القانون وفي الاقتصاد بشكل خاص. ومنه عرفت لأول مرّة أن الذهب لم يعد يشكل تغطية للعملة، فالدولار مثلا متحرّر من تلك التغطية، ومنه سمعت لأول مرّة بمصطلح “سلة العملات الأجنبية”، التي تستخدمها بعض الدول لتغطية عملتها. تعلّمت من سمير أيضا مبادئ لعبة البريدج دون أن أقع في غرامها، وبقيت أفضّل لعبة الطرنيب. ومنه تعلّمت النقاش الهادئ والانسحاب من المعركة في الوقت المناسب لكبريائك. كان يضع نظارتين سميكتين، لا يستطيع الحراك بدونهما، ولكن حين كسرتا ذات يوم، بقي أسابيع دونما قراءة، ومع ذلك أصرّ على مشاركته في السخرة والخدمة العامة.
في 1984، ستتدخّل جهات رفيعة من أجل إطلاق سراحه، وحين سيخرج، سيزور أهالي معظمنا، وخاصة من لم يكن أهله يستطيعون زيارته، وسيظلّ يرسل مع من يستطيع الزيارة سجائر وحلوى. وحين سنخرج في عام 1991، سيكون جاهزا في انتظارنا وتقديم المساعدة لمن يحتاج عملا أو مساعدة مادية. ولكنه سيصاب بكارثة مالية حين يضع مدّخراته كلّها في تجارة خاسرة، وحين سيصاب بمرض الباركنسون، سيعيش ما تبقّى من سنوات حياته وحيدا، إلا من زيارات متقطّعة كنا نقوم بها بين الفينة والأخرى له ولزوجته الراقية والمجدّة واللطيفة ربا عمران. كان سمير رابع أربعة جاؤوا إلى الرابطة من تنظيم جبهة النضال الفلسطينية، أربعة مثقفين، مرهفين، وجميلين. سيتصل بي أحدهم في يوم شتائي بارد من شهر كانون الثاني 2012، بعد أيام من آخر زيارة قمنا بها لسمير، وينهي إليّ الخبر:
“البقية بحياتك. سمير عطاك عمره.”
وسينضمّ سمير إلى قافلة الرفاق الذين رحلوا عنّا باكرا، جدا. إحسان عزّو قضى في السجن بعد أن جُرّ من بيننا في سجن صيدنايا، بسبب إضرابه عن الطعام، وعوقب بالسجن في الزنزانة في سجن صيدنايا فمُنع عنه دواء القلب، فقضى بعيدا عن أهله وعن رفاقه. عبد الكريم درويش، شريكي الجميل في لعب الورق وفي أشياء أخرى، سيقضي بإصابة قلبية بعد إطلاق سراحه بسنوات قليلة. وخضر جبر الذي سيطلق سراحه قبل موته بفترة وجيزة، وكذا سيفعل بعد سنوات المثقّف المرهف سلامة كيلة وجمال حسينو وجمال ربيع وفاديا الشاليش ومي الحافظ وعبّاس عبّاس وبسّام العلي
وجفّان الحمصي وأبو ذر الغفاري محمد. ولا أذكر هنا من سقط قتيلا بيد جلّادي آل الأسد، بداية بمحمد عبود، مرورا بمضر الجندي الذي قتل تحت التعذيب، وعماد أبو فخر الذي فصلوه عن رفاقه في سجن تدمر، ثمّ حملوه إلى أهله متكوراً على نفسه كجلسته في سجن تدمر الصحراوي وأجبروهم على دفنه بدون مراسم الدفن والعزاء، وسليمان غيبور، وجمال أضنلي.
على أن الاختراع الأهم كان القلم والورق من عبوة معجون الأسنان وورق علب السجائر. اختراع الكتابة أدّى إلى اكتشاف مواهب مذهلة في الكتابة. وصار لدينا شعراء وقصاصون. وهكذا اكتشفنا منصور منصور، الشاب الجميل الذي يسكب روحه على الورق، وسيغدو بعد سفره إلى السويد روائيا مرموقا تترجم أعماله إلى السويدية ويحُتفَى به في السويد كأحد أهم كتّابها، ومحمد عيسى، الذي تحوّل من مقاتل في الجيش السوري شارك في تحرير مرصد جبل الشيخ إلى شاعر رقيق يكتب قصائد مليئة بالحياة والصور والفلسفة. على هذه الأوراق عدت إلى الكتابة بعد انقطاع سبع سنوات. كان إحساس الكتابة بعد انقطاع يشبه إحساسي حين ملامستي أول امرأة بعد سنوات السجن: رعشة خفية وفرح غامر وألق داخلي.
وصار لدينا منتدياتنا الأدبية، والأمسيات الشعرية والقصصية، ثم تطورت لدينا ملكة النقد، واختلفنا حول الأدب ثم اختلفنا حول النقد، ثم اختلفنا حول وظيفة الأدب في المجتمع. وهنا اخترع عماد الجريدة. وعماد صحفي بالمهنة والدم. ولو حللت عينة من دمه في المختبر لعثرت على خضاب وسيتوبلازما وصحافة. جمع أغلفة كروزات الدخان وحولها إلى جريدة أسماها “الشفاط” والشفاط هو جهاز ضخ الهواء الذي كانت حياتنا وهناءتنا متوقفتين عليه في المهجع. وعلى صفحات “الشفاط” اختلفنا واتفقنا وتبادلنا وجهات النظر والاتهامات والمجاملات وقصائد الحب. “الشفاط” تطورت إلى “مهجعنا” ثم إلى “الأمل.” وفي سجن صيدنايا، تطورت الأدوات، فصدرت “رؤى” على ورق أبيض مصقول، وبإخراج فني عال، وبالألوان أحيانا. وكان عماد دائما البطل الخفي وراء كل ذلك. وحين تعرّفنا في صيدنايا على فوكو وجاك دريدا ومحمد أركون ومطاع صفدي، وقرأنا “الفكر العربي المعاصر”، وتأثرنا بهايدغر وشوبنهاور وتمتعنا بأعمال مانيه وفان غوخ. وراحت شتى المدارس والأفكار والتيارات تتنازعنا وتتقاسمنا، كانت “رؤى” صدى ومرآة لكل تلك الأفكار. وتمتع الجناح “ألف يمين” بحرية لم يعرفها بلد عربي في تاريخه قط. على صفحات “رؤى” كتب الماركسيون والتروتسكيون والستالينيون وأنصار فوكو ويونغ ونيتشه وابن عربي. ولم يكن هناك رقابة
من أي نوع. كانت “رؤى” تُقرأ من أول حرف إلى النقطة الأخيرة في المقالة الأخيرة في الصفحة الأخيرة. وكانت تثير بعد كل عدد عواصف من النقاش والجدل. وعماد لم يكن صحفيا فقط. كان قاصّا ممتازا ومؤرخّا سياسيا، ولكن أيضا.. لاعب كاراتيه.
ثمّ جاء الراديو!
لحظة دخل الراديو المهجع رقم 1 في سجن تدمر، شعرنا جميعا برعشة تشبه تلك الرعشة التي اجتاحت آدم وحواء لحظة قطف تفّاحة المعرفة. وحين أدار أحدنا مفتاحه وتناهى إلينا صوت مذيع ما، أحسسنا وكأن نافذة قد فتحت لنا على العالم. تحلّقنا حول الراديو جميعا كما كنا نتحلق حول رفيق عاد من زيارة. وحينما -بعد أيام- رأينا أن الراديو لا يكفي الجميع، صرنا نعطيه لرفيق واحد ونطلب منه أن يدلي لنا بنشرة أخبار مسائية كلّ يوم، ثمّ يتنقّل الراديو بيننا ككلب مدلّل. وفي الليل، حين ينام الجميع، كان حسين محمد، وأحيانا أنا، نأخذ الجهاز لنستمع بصوت منخفض جدا إلى برنامج “الشعر والليل موعدنا” لجمال الجيش، أو أخبار الـ BBC بالإنكليزية. وعبر الراديو فقط وقعت في غرام أمّ كلثوم، التي لم يكن لدي وقت لسماعها، وتمعنّت في عمق صوت سعاد محمد وفايزة أحمد. أدمنت المسلسلات الإذاعية، ووقعت في غرام هيام حموي، وتابعت كلّ حلقة من برنامجها “يوميات مذيعة في باريس”، من إذاعة مونت كارلو، وحين سألتقيها في باريس، سأخبرها كيف كان صوتها ينقلنا إلى عوالم من الحرية والحب والألفة.
تلفزيون سوريا