حكايات الخوف والعشق/ وائل السوّاح
الكتاب والجريدة والراديو تتحوّل جميعا إلى اعتياد، وتفقد بعد فترة بهجتها، فتبدأ وأنت في قيظ سجن تدمر اللاهب أو قرّه القارص تبحث عن أشياء أخرى تسرّي عنك قليلا. أفضل الأوقات قاطبة تلك الجلسات التي تصغر أو تكبر في الأمسيات، بعد تناول الطعام، حين يأوي كلّ إلى عازله، ثمّ يلتمّ ثلاثة أو أربعة حول حكاية ماتعة يرويها أحدهم، بصوت هامس، بسبب جلال الحكاية أولا، وبسبب قانون الهمس الذي كان يسري علينا بعد الساعة التاسعة ليلا. وغالبا ما تكون الحكاية قصة حبّ قديمة أو حكاية مع معلّم أو جار.
كنت أشارك أحيانا بقصة عشق قديمة، وحين أوغل في التفاصيل قليلا، أرى التماع العيون حولي في الجو شبه المعتم. وحين أرشّ بعض الفلفل على القصة، كان علي الخطيب بقول بصوته المجلجل: “حلوة. بعرفك مَ تكذّب، بس حلوة.” ومع ذلك لم تكن حكاياتي تقارن بحكايات هيثم يوسف، أبو عزيز. كنا نتحلق حوله ساعات يحدثنا عن شخصيات خارقة من قريته الجبلية الجميلة. أهم هذه الشخصيات كان عزيز، رجل في الخمسينات من عمره، أعزب، يرتدي على الدوام سروالا بجيبين وسترة بأزرار نحاسية كبيرة وأربع جيوب كان عزيزي يقفل بيته بمفتاح قديم وكبير يربطه بخيط ثخين مع مفتاح آخر ويضعهما سوية في إحدى جيوبه الستة، ثمّ يتفقد المفتاح كل خمس دقائق خشية أن يستلّه أحد فيسرق بيته، الذي كان يتألف من غرفة واحدة قديمة لا تحتوي على شيء سوى فراش وطنجرتين وكأس وصحن وملعقة وبابور كاز وسكين. حين يتحسّس المفتاح كان يضرب بيديه معاً على جيبي السروال ثم جيبي السترة السفليين ثم العلويين، وحينلا يجده كان يصيح: “يلعن بيّي كن ما انسرقت”، ويسارع راكضاً إلى بيته ليضبط اللص، فقط بيتذكر أنه قد وضعه في مكان ما. ولقد أمضينا ليالي كاملات ونحن نصغي إلى قصصه الغريبة. ومن هنا نال أبو عزيز كنيته تلك. والذي أطلق عليه تلك الكنية كان عماد الذي أسمى نفسه أبا مشعل وأسمع عمادا الآخر أبا سعيد الخدري، لاهتمامه بالتاريخ، ثم أسمى “منصور” أبا خلف.
أبو عزيز هو خلاصة السجن. لم يكن سياسيا ولم يهتمّ بالسياسة فعلا، وهو اعتبر تنظيمه في الحزب واعتقاله خطأ غير مفهوم، ولم يخفِ ذلك أو يجمّله. حين كنا نستمع إلى الرفيق المكلّف بإعداد نشرة الأخبار، كان ينام، وحين يذكّره أحد بأنه مناضل، كان يصيح به: “أخي، أنا ماني سياسي، ولاني مناضل. بدك أدق الباب وأطلب نقلي للمهجع 7؟” كان المهجع 7 مهجع المعتقلين غير السياسيين.
وكان يفيق صبيحة كل يوم، مبكّرا، ليشرب المتّة، ويرتدي ملابسه، ويجلس بانتظار إخلاء السبيل. جعل ينتظر ذلك سبع سنين طوال، ولم يشأ أن ييأس.
” يا الله يا شباب عالسخرة.”
” بكير يا أبو عزيز.”
” لَهْ.. لَهْ.. لا تغلط. ماذا لو جاء إخلاء السبيل قبل أن ننهي السخرة؟”
بعد انتهائه من كل أعماله، يبدأ أبو عزيز يحدثنا عن قريته وعزيز وحبيب وخدمته العسكرية والرفيق الذي نظّمه في الحزب والمحقق الذي حقق معه. وفي كل يوم يزيد شعره شيباً ويخسر سناً جديدة من أسنانه، وتبرق عيناه الجميلتان المسيحيتان بألق جديد. ومع ذلك، حين سيُطلَق سارحنا بعد سنوات، سيأخذه ذلك على حين غرّة. كان نائما على غير عادته، فأفاق ولم يدرِ ما الذي يجري، مثلنا جميعا.
أما طارق شبيب فكان يحكي لنا يوميا عشر نكات جديدة، لم نسمعها من قبل. يجلس على الأرض بجانبك، ثم يلفّ رجلا فوق أخرى ويمسك بيدك بقوة كي لا تهرب ويبدأ بقذفك بسلسلة من النكات يضحك عليها هو قبلك. من المستحيل على المرء الطبيعي أن يتذكر كل هذا العدد الهائل من الطرف، لذلك أعتقد أنه كان يؤلف معظمها. وأجمل الطرف كانت ما يؤلفها عن واحد منا، وخاصة عن شريكه في الجريمة أبو أسامة. كلاهما كانا ضابطين في الجيش حيناً، لسبب لا أفهمه أبداً، قررا مع زميليهما صلاح الدين سليمان وخضر جبر الانضمام إلى تنظيم سياسي ماركسي محظور، دون أن يكون أي منهم قد قرأ كتاباً لماركس أو لغيره. وهكذا استمدوا نظريتهم من نشرات ضحلة كان الحزب يصدرها. ولم يكونوا قد أمضوا في التنظيم أكثر من أشهر حين جيء بهم إلى السجن، فأمضوا أربع عشرة سنة، قبل أن يعودا ثانية إلى العالم الخارجي. لا أدري من كان العقل “الجبار” وراء توريط مثل هؤلاء الضباط. أتذكر الآن أحمد جمول، وكنا نسير سوية في أروقة مشفى ابن النفيس، آنذاك كان مصحاً للأمراض الصدرية فقط وكان الأطباء قد شخصوا إصابته بالسل. قال لي:
“ضمّ العسكر لأي تنظيم عمل أخرق، يورطّك ويورطّهم.”
حكايات الرعب كانت أيضا مصدر تسلية وتسرية. كنا نتحلّق في بعض الليالي لنتبادل قصص الرعب والجن. ورغم أن أحدنا لم يكن يؤمن بها، فقد كنّا نشعر بالرعدة وهي تسري في أوصالنا.
على أن تاج اختراعاتنا كان إعادة إنتاج المسرح. الفكرة بدأت، في فرع التحقيق العسكري، عندما حدثّت الرفاق مرّة عن مسرحيات شاهدتها، أو شاركت فيها أو كتبت عنها. ثم جاءت فكرة أن نقدم عملاً مسرحياً، في المهجع. بدت الفكرة مجنونة بحد ذاتها. فأنت تريد تقديم عمل مسرحي، دون نصّ ولا ديكور ولا مكياج ولا منصّة ولا مكان للتدريب. ولكن الفكرة راحت تلحّ أكثر، فاقتطعنا من المهجع، زاوية صغيرة سترناها ببطانية، ورحت أستحضر من الذاكرة نصاً مسرحياً لصديقي وأستاذي فرحان بلبل، “الممثلون يتراشقون الحجارة”.
تعرّفت على فرحان بلبل عندما كنت في السادسة عشرة، عندما كنت أتردّد على نادي دوحة الميماس العريق في حمص، وانضممت إلى فرقته المسرحية دون أن أظهر على المسرح أبدا. ورافقت أعماله جميعها منذ “الجدران القرمزية” وحتى “الممثلون يتراشقون الحجارة”، ثمّ توقّفت بعدها بسبب ابتعادي عن حمص وابتعادي الفكري عن فرحان، الذي كان أقرب إلى الحزب الشيوعي الرسمي، بينما كنت أنا أشارك في تأسيس الحلقات الماركسية ومن ثمّ رابطة العمل الشيوعي. ومع ذلك تعلّمت من فرحان الكثير: تعلّمت أن الثقافة جهد وتعب وحفر في الصخر، وأن المسرح حياة والحياة مسرح. عنه أخذت ستانسلافسكي وتذوّقت إبسن وأحببت جيرودو وآنوي وكاسونا ولوركا. تعلّمت منه أن الحوار والإصغاء، وتأملت نبله ووسامته وأخلاقه وترفّعه. تأثّرت باحترامه العميق للمرأة وانتمائه الحقيقي للعاديين من البشر ورفضه الدائم للسوبرمان. لم يكن فرحان بالنسبة لي رجلا عالما كاملا، ومن “معطفه” تخرّج كثيرون: فطمة ضميراوي ونجاح سفكوني وأحمد منصور وصباح ضميراوي وعمر قندقجي ومنصور قندقجي وعبد القادر الحبال وعفراء بلبل وزينب سواح وغيرهم كثير. ولا تزال رائحة “العيون ذات الاتساع الضيق” تعبق في أنفي، وذائقة “الممثلون يتراشقون الحجارة” تحت لساني. لا تزال “لا تنظر من ثقب الباب” و”لا ترهب حدّ السيف” تراودانني كلما رجعتْ إليَّ حمص أو رجعتُ إليها.
ولا مبرّر للقول إننا لم يكن لدينا النص لنتدرّب عليه. (كنّا في عالم ما قبل الكتاب). فرحت أعيد صياغة النص من ذاكرتي. توازعنا الأدوار، وحفظنا الحوار، وتدربنا على البروفات. ثم جاء دور العرض، بعد أسابيع. سيبدو ذلك الآن خاليا من كل معنى ما لم أصف لكم مهجعنا آنذاك. كان المهجع عبارة عن غرفة بطول ثمانية أمتار وعرض ثلاثة. يقتطع الحمام منه أربعة أمتار مربعة، فيظل معنا عشرون مترا مربعا، ينحشر فيها أربعون سجينا. وإنما من هذه الأمتار العشرين اقتطعنا ثلاثة أو أربعة للتدريب والعرض. وحين جاء موعد العرض، شعرنا برهبة كتلك التي يكنها الممثل والمخرج قبل رفع الستارة عن العرض الأول، أمام نظارة نقادة ومتابعة. حان الوقت. كان ذلك بعد تناول العشاء، وهو على الأغلب بطاطا مسلوقة نضيف لها مما نشتريه من البهار والزيت. أزحنا البطانية الستارة وبدأ العرض. والآن أشعر بدهشة، حين أتذكر الأداء الرائع لعدد من الممثلين، الذين لن أقول إنهم لم يشاركوا في عمل مسرحي من قبل ولكن أقول إنهم لم يروا واحدا قط. كان الديكور عبارة عن سطول بلاستيكية وبطانيات وعلب حلاوة فارغة. وكانت الملابس من الشراشف وقطع القماش الأخرى التي تأتينا من الزيارة. انتهى العرض الذي اضطررنا إلى إيقافه كلما اقترب السجان من نافذة المهجع. وحيانا الجمهور بتصفيق حقيقي. كنت أتابع وجوه البعض الذين كانوا يتابعون في البدء بابتسامة ساخرة على وجوههم وأرقب كيف اختفت السخرية وتحولت الابتسامة إلى اهتمام واستغراق حقيقيين.
تلفزيون سوريا