الناس

مصادرة أموال فنانين ومثقفين سوريين..لتحقيق “التجانس”؟!/ راشد عيسى

 

 

تداولَ السوريون أخيراً، في مواقع التواصل الاجتماعي، صورة عن قرار (يصعب التأكد من صحته) صادر عن وزارة مالية النظام يقضي بالحجز على أموال بعض الفنانين والمثقفين السوريين، من بينهم المفكر والأكاديمي الفلسطيني يوسف سلامة، والكاتب حازم نهار، والكاتب والمترجم بدر الدين عرودكي، والكاتب سمير سعيفان، والمخرج المسرحي وكاتب السيناريو التلفزيوني غسان جباعي، والمخرج مأمون البني، والكاتب نادر جبلي، والممثل عبدالحكيم قطيفان، وآخرون.

الحجة التي يسوقها القرار تقول: “لثبوت تورطهم في الأعمال الإرهابية التي يشهدها القُطْر”. لكننا سنجد، بالإضافة إلى تلك الأسماء البارزة، أن القرار شمل زوجات وأولاد المصادرة أملاكهم (كالممثلة والمخرج واحة الراهب، وعازفة البيانو رشا عرودكي)، ومن بينهم أطفال لم يتجاوز بعضهم العشر سنوات من عمره.. فكيف تسنّى للنظام التأكد من “تورطهم في أعمال إرهابية”!

لا يزيد القرار على إجرام النظام شيئاً يذكر، وكذلك ليس من الواضح أنه سيثني المعارضين المصادرة أموالهم، فبعضهم تداول الوثيقة كما لو أنها لائحة شرف ودليل على رعب النظام من أسمائهم، هم الذين لا يملكون شيئاً حياله سوى الكلمة أو العمل الإبداعي. نحسب أن لسان حالهم يقول إنها أقلّ الخسائر، خصوصاً أمام من دمّر النظام بيته، وقتل بعض أو كلّ أفراد أسرته.. إذاً ما رسالة قرارات من هذا النوع؟ وهل هي مجرد تنكيل زائد بمن تجرأ وطالب بالحرية؟

مصادرة أملاك الغائبين من السوريين، هي جزء من خطة عبّر عنها رأس النظام بوضوح في أحد خطاباته عندما تحدث عن مجتمع متجانس، بعدما دمّر البلاد وهجّر حوالى 11 مليون سوري من دياره (هنالك ستة ملايين سوري نازحين داخل البلاد، وخمسة ملايين ونصف المليون خارجها)، واعتبرَ أن من بقي في البلاد يمثل شعباً متجانساً، ولم يتورع ذات مرة عن وصف عملية الحرب على شعبه وكأنها عملية تطهير الجسم لنفسه من الجراثيم.

المصادرة إذاً هي حلقة بدأت بالقتل والاعتقال والتدمير والترحيل، ثم إحلال سكان جدد محل أولئك اللاجئين، كما يحدث في دمشق ومحيطها من تغيير ديموغرافي (التغيير الديموغرافي هو اسم مهذب لعبارة “امحوها، حوّلوها إلى حقل بطاطا”…). وقد وصل النظام أخيراً إلى إصدار مرسوم (الرقم 10) بإحداث مناطق تنظيمية فألزم الناس بالتصريح عن ممتلكاتهم أو منح أقاربهم توكيلات للقيام بذلك، الأمر الذي لا يتسنى لكثير من اللاجئين الذي هاجروا ولم يبق لهم وكيل. وما القرار الأخير الخاص بمصادرة أموال بعض الفنانين والمثقفين سوى خطوة لاستكمال مشروع، ولا ندري إن كان هذا القرار يحمل بُعداً رمزياً أبعد من الاستيلاء على أموال الناس، من قبيل إغلاق الباب على كل من يفكر بالعودة إلى “حضن الوطن”. فإذا كان فنانون وأطفالهم على قائمة من ثبت تورطهم في الإرهاب.. فأي تُهم تجهّز للباقين؟

لكن ما هذه الإشارات المتناقضة؟ يتظاهر النظام بسياسة إعادة اللاجئين، فيما يطلق أحد ضباطه المعروفين بالإجرام – بحسب فيديو متداول – تهديداً ينصح اللاجئين بعدم العودة! ويطالب معارضون بارزون تحت سقف الوطن (أي مُدَّعي المعارضة) مواطنيهم بالعودة مع وعود وضمانات، ثم تصدر وزارة المال قراراً يطيح جهودهم!

يجد البعض أن هذا التخبط بخصوص ملف اللاجئين، بين مَن يُبدي حرصاً على إعادتهم وإثبات أن “الأزمة خلصت وسوريا بخير”، ومَن لا يرى فيهم سوى جراثيم ويستقتل في اختراع التهديدات والاتهامات، ما هو إلا تعبير عن تنازع إرادات بين مختلف القوى على الأرض، بين ما يريده النظام والروس والإيرانيون و”حزب الله”… وتتعد التحليلات.

في كل الأحوال يثبت القرار الأخير، عبر استسهال الاتهام وإصدار الأحكام، أن النظام، حتى وإن أراد بالفعل للناس العودة إلى البلاد، فإنه يريد لهم أن يعودوا مواطنين “متجانسين” على الآخر، مجرَّدين من أي حق في التملّك أو أدنى شروط الحياة وبالطبع من دون حق بالحرية.

لكن ألا يحرج القرار، الصادر عن واحدة من مؤسسات الدولة، أنصار النظام “العاقلين” الذي يحاولون التمييز بين مؤسسات الدولة والنظام؟ ألا يحرجهم أن تُتهم طفلة عمرها عشر سنوات بالتورط في الإرهاب، هكذا من دون محاكمات أو شهود أو حق الدفاع؟ أي دولة مؤسسات هذه؟

قرار الحجز هذا يعيد تسليط الضوء على الفنانين والمثقفين السوريين، دورهم ومكانتهم. كما يذكّر هذا الجهد الاستثنائي لاحتوائهم أو إرهابهم، بفزع النظام عندما أصدروا، مع بداية الثورة السورية بياناً، أسماه أنصار النظام تهكماً بـ”بيان الحليب” وطرح أبسط المطالب. فبعد حصار درعا القاسي، طالب الموقّعون على البيان، بفتح الباب لمنظمات إغاثية كي توصل الحليب والأدوية إلى المحاصرين من سكان المدينة، فانفتحت أبواب جهنم، تهديداً واتهامات، بل وصل الأمر إلى إجبار بعض الفنانين على الظهور في شاشة التلفزيون الرسمي للتنصّل وتلطيف الموقف.

هذه سبع سنوات قد مرت الآن، لا النظام غيّر مستوى إجرامه ووحشيته (لم تردعه البتة دولة المؤسسات!)، ولا معارضوه تراجعوا عن المطالبة بالحرية والعدل والكرامة.

أكثر ما يلفت في قرار النظام هو أن مستوى البطش قد طاول المستقبل أيضاً، فإن فات المعارضين أن يحمّلوا أولادهم رسالة ما، فإن النظام كفيل بذلك عندما يتهم أطفالاً بالإرهاب. إنها من دون شك صعقة وعي مبكر للأجيال.

المدن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى