نساء سوريات يفرغن المجهول من خزائن الذاكرة/ ممدوح فرّاج النّابي
يقول رولان بارت إن السرد “موجود دائما وأبدا، لأنه يوجد حيثما توجد حياة”، ويمكننا أن نضيف إلى هذه العبارة “وحيثما يوجد الموت أيضا”. هذا ما يدعمه السرد الحاضر في مشاهد الموت والرعب التي وصفتها الرّاويات في كتاب سمر يزبك “تسع عشرة امرأة: سوريات يروين”، الذي يعتبر شهادات حية لنساء عايشن الحرب.
كتاب سمر يزبك “تسع عشرة امرأة: سوريات يروين” عبارة عن شهادات لتسع عشرة امرأة يروين مشاهداتهن على بدايات الثورة وانزلاقاتها. لكن المؤلم هو تجربة الاعتقال التي وقعن فيها. ومن ثم يقدمن شهادات حيّة وموثّقة مكتوبة بالدم والألم عن الاستبداد ووحشية النظام والمعارضة على السواء. والأهم أنها تقدم صورة للشعب الذي خرج في الثورة، فهو أشبه بـ”مارد هائل على رجلين من طين” كما عبر كيركجور في سياق آخر.
حراسة الذاكرة
تسعى سمر يزبك عبر كتاباتها المختلفة إلى توثيق الذاكرة السورية، كما في “تقاطع نيران”، و”بوابات أرض العدم”، و”تسع عشرة امرأة” الصادر مؤخرا عن دار المتوسط والذي يمكن أن يُعدّ الجزء الثالث من عملها على هذه الذاكرة. فاختارت الكاتبة من 55 شهادة، أن تقدّم تجارب 19 امرأة.
وقد بررت هذا الاختيار بأنها اعتمدت على منهج الانتقاء والاختيار، حيث استبعدت المكرّر. وإن كانت تجربة واحدة من هذه التجارب المريرة كفيلة لتجعل من أحلامنا كوابيس. فيكفي أن تقرأ ما كتبته زين ابنة حلب بعد أن تمّ اعتقالها عند الحاجز الأمني من قبل شبيحة النظام، ووصفها بالإرهابية “أدخلوني إليها (أي غرفة الحاجز) وقالوا إنهم سيغتصبونني واحدا واحدا. كان أحدهم يضربني والآخر يُعرّيني من ثيابي، وآخر ينام فوقي وأنا عارية تماما، ويقرصني بعنف في أنحاء جسدي، بخاصة بين فخذي كان ساديّا، يتلذذ بصراخي وهو يكاد يخنقني بيديه”.
نحن أمام عمل وثائقي وإن كان بصياغة أدبية، يُسجل لأحداث الثورة السورية في المدن السورية المختلفة. حيث قدمت الرّاويات خارطة تفصيلية لبدايات الثورة وأسبابها في كافة المناطق السورية، بل قدمن بطريقة لا إرادية أسباب مباشرة لانزياح الثورة وردتها عن مسارها الوطني الذي خرجت من أجله؛ حيث النعرات الطائفية والأيديولوجية، حلت على خطاب الثورة.
ومن ثمّ تأخذ الشهادات مسار المراجعات الفكرية والتقييم لما حدث، دون أن يتسرب إليها أي ندم. فالروايات تغطي أحداث الثورة في مناطق مختلفة: غوطة دمش، حرستا، زملكا، سقبا، دوما، داريا المعضمية، إدلب وريفها، حلب، الساحل السوري، حمص، القنيطرة، الرقة، دير الزور، دمشق وحماة.
قد يبدو حضور المؤلفة واضحا في المقدمة من حيث دورها في حثّ النساء على الكتابة، ومن خلال اللقاءات التي أجرتها مباشرة أو بالسكايب في البلدان المختلفة التي لجأن إليها: تركيا، فرنسا، ألمانيا، كندا، لبنان، بريطانيا، هولندا، وأيضا في الداخل السوري. لكن في الحقيقة حضورها يتجاوز هذا الدور الشكلي، إلى دور فاعل داخل نسيج الحكايات، بكونها مارست أولا المُحفّز الوظيفي للحكي ذاته، أو تقمص دنيا زاد التي كانت تحرض شهرزاد على الحكي.
وثانيا، في سعيها لاستعادة سوريا البعيدة التي كانت تمرّر في كل حكاية. ففي كل حكاية وخاصة حكايات صاحبات التجارب العمرية الطويلة، قدمنّ صورا متنوعة لطبيعة التعايش داخل نسيج المجتمع السوري، وتآلف مكونه السكاني جميعا على اختلاف العقيدة.
والأهم أنها رسمت صورة دقيقة للمجتمع السوري وتشكّله ثقافيا ودينيا (جماعة القُبيسيات) وسياسيّا (بنمو الأحزاب الماركسية التي كانت تُعارض الأسد الكبير، وبالمثل جماعة الإخوان، والسلفيين). فبينما صورة سوريا الحاضر ماثلة في الأذهان، حيث الأسد والموالون له وأيضا الجماعات المتطرفة يسعون لتغيير هويتها وإبادتها، كانت سوريا الحلم تشيّد على أنقاضها عبر هذه الاستعادة، باكتشاف سوريا الحلم التي لم نعد نعرفها تماما.
وقد كشفت الرّاويات عن البنية الاجتماعية لسوريا قبل الحرب وتحولاتها، وكيف كانت مهيأة للانتفاض بسبب الضغوط السياسية وتوغل شبكات الفساد في كل شيء، والركود الاقتصادي بعد أن فتحت الأبواب على مصراعيها للتجارة الوافدة من دول الجوار، وهو ما ترتب عليه إغلاق المعامل، وضياع أسر وانتشار البطالة.
ومن جانب آخر أبرزت الشهادات الوجه المديني للكثير من المناطق البعيدة عن العاصمة دمشق؛ فمعظم العائلات المتوسطة وحتى الفقيرة حرصت على تعليم بناتها وصولا إلى الجامعة وهناك مَن واصلت الدراسات العليا، كما أن حرية الملبس كانت هي السائدة، ولم يظهر التعنت والتمييز العنصري من ناحية الجندر، إلّا بعد سيطرة جبهات النصرة وداعش على الكثير من المناطق.
وقد أدّى الضغط الاجتماعي إلى إكراهات ضدّ المرأة وصلت إلى إظهار الإزدراء من عملها في المقاومة، فكان الثوّار يرفضون تواجد النساء، ويقولون إن مكانهن البيت، ولا يجوز أن تعمل النساء والرجال في مكان واحد. وأيضا تحريم قيادتها للسيارة ومشاركتها للرجل العمل العام. وهي كلها آفات طارئه جاءت مع الفكر المتطرف الذي سعى لنشر فكره سواء في المدارس التي تولّى الإشراف عليها، بما أسبغه على المناهج من أيديولوجية دينية صرفة. وأيضا بما مارسته نساء المعارضة من الإقصاء ذاته، بل مارسن القهر بالإيذاء الجسدي.
حياة في قلب الموت
عمل وثائقي بصياغة أدبيةعمل وثائقي بصياغة أدبية
تدين الرّاويات الطبقة الوسطى التي هربت ولم تتحمل مسؤوليتها، فقد تركت الناس وحدهم. وهربت مع بداية المعارك، ولم يبق إلا الفقراء والمتدينون والجهال، ممّا أدّى إلى انتشار التخلف الاجتماعي، وعبر هذه الفجوة حكمت الطبقة غير المتعلمة البلد، وهو ما كان أحد أسباب انتشار التيارات المتشددة.
تجلت المقاومة عبر صور عديدة؛ للتعامل مع الواقع الجديد القاهر، الذي فرضته أيديولوجيا الكتائب المعارضة على اختلاف أسمائها، جيش الإسلام أو النصرة أو داعش، التي انتشرت وصارت لها قوانينها جعلت المرأة تحتال لا لشيء سوى لتحيا، فكما تقول ديما ابنة حرستا “لقد تنازلتُ عن كل شيء من أجل البقاء، وضعت الحجاب، ورضيت بالجوع، وانتظرت الموت مثل الناس كافة”.
الخيط المشترك بين الرّاويات أن معظمهن لم تكن لهن اهتمامات بالسياسة، وإنما الاشتراك في الثورة جاء من وهج الثورة وترسبات القمع القديمة التي خلفتها سنوات من حكم استبداد الأب، ثم حالة العنف التي قابلت بها أجهزة الدولة شعارات الحرية “سوريا بدها حرية”، فزحفت الجماهير المقهورة التي ما إن فتأت ترى خلاصها، فخرجت في هدير موحد يطلب أن يتنفسها.
خلقت الحرب إنسانها، فجميع النساء ولدن من رحم الحرب، في تحد لمجتمعهن وللسلطة التي وقفن في وجهها. الكثيرات كن أبيّات، بل فرضت عليهن طبيعة هذه المستجدات المراوغة وعيش الحياة في أقسى الظروف بلا كهرباء وبلا ماء وبلا عائل وأيضا العيش مع الموت والتكيف والمجازافة.
غالبية النساء في هذه الحكايات لا يدعين امتلاك الحقيقة المطلقة، فقط كل واحدة تروي حكاياتها وتجربتها الشخصية في تجرد تام، وعبر هذه الحكايات تتجلّى المقاومة في أرقى صورها، فثمة مقاومة للذاكرة والنسيان، أو النسيان الجمعي في المنفى وأيضا مقاومة ضد تشويه الثورة، والأهم مقاومة الأجهزة الأمنية والشبّيحة، ومقاومة الموت.
كاتب مصري
العرب