“مقاومة الصمت”.. أصوات ناجيات من جحيم المعتقلات السورية/ ضاهر عيطة
أنكر نظام الأسد قتله للمتظاهرين بالرصاص الحي، واستمر هذا الإنكار حتى عندما راحت طائراته تلقي براميلها على بيوت وأحياء الناس الآمنين رغم حجمها الكبير ورصدها من قبل العديد من وسائل الإعلام، ورغم تسريب آلاف الصور لضحايا التعذيب في المعتقلات السورية كرر الأسد عملية الإنكار وادعى أنه ما من معتقلين في فروعه الأمنية، غير أن أصوات الضحايا تدحض مزاعمه، كما يرد في تقرير “أصوات في مقاومة الصمت” والذي اشتغلت عليه كل من وجدان ناصيف وجمانة سيف وصادف أن نشر مع بدء تفشي وباء كورونا حول العالم، وقد ضم شهادات ثلاث وعشرين امرأة عشن تجربة الاعتقال في السجون السورية، وأتين على سرديات تعجز المخيلة الإنسانية عن الإحاطة بها نظراً لفداحة المأساة، فجاء البوح كشكل من أشكال مقاومة الصمت جراء ما يحدث في المعتقلات السورية، فها هي لمى تتحدث عن معاناة النساء في المعتقل في فترة حكم الأسد الأب: “في سجن كفر سوسة كانت معنا طبيبتان… طبيبة من الإخوان وطبيبة شيوعية… كنا حوالي 22 امرأة في مهجع صغير.. كنا ننام على جانب واحد، فلا مساحة للحركة، ولم يكن يوجد نوافذ، كانت في المهجع حنفية عند المرحاض نستخدمها للحمام وللشرب ولغسل أدوات الطعام ولكل شيء… طالبناهم بفوط نسائية، فرفضوا وكنا نمزق ثيابنا الداخلية ونستخدمها ثم نغسلها لنستخدمها مرة ثانية…”.
“تأتي هذه المرويات الواردة على لسان الضحايا بمثابة صرخة تحرك السؤال عن مصير المعتقلين والمعتقلات في السجون السورية، الذين أنكر التنظيم الأسدي وجودهم لديه”
وتستأنف شارحة تفاصيل اعتقالها من مدرستها الثانوية في حلب عام 1981 وهي بعد لم تكمل السادسة عشرة من عمرها، لتقضي تسع سنوات من عمرها في المعتقل “حاصروا مدرستي وطوقوها بالدبابات، حتى الآن أذكر أنني كنت أقدم امتحاناً في مادة القومية… حين عرضوني على المحكمة الميدانية كان عمري 15 عاماً وأربعة أشهر”. ونسمع سردية جديدة على لسان سوسن، معلمة في مدرسة ابتدائية في اللاذقية، تتذكر فيها لحظة وصول عناصر الأمن لاعتقالها في عهد الأسد الأب أيضاً، وحين لاحظت وصولهم من نافذة الصف، حاولت ألا تبدي قلقها أمام تلامذتها الصغار، وأن تكمل الدرس، لكنهم سرعان ما طلبوها إلى غرفة مدير المدرسة ليتم اعتقالها من هناك. وتروي ليال مشهد اعتقالها كأنه يحدث الآن: “على جسر الرئيس في دمشق توقف رجلا أمن وطلب أحدهما هويتي… بدآ بضربي في الشارع… كان الازدحام شديداً، جروني إلى “البراكيّة” التي تبعد عشرات الأمتار، ولم يتوقفا عن ضربي… سيدة مسنّة كانت تمرّ إلى جانبي… صارت تبكي.. حين وصلت “البراكيّة” قال أحدهم: جيد أنك صرت هنا فنحن منذ زمن طويل لم نلمس نساءنا”… وللمرة الثانية عام 1980 اعتقلت الأم عزيزة مع أولادها الثلاثة، ولم تخضع لمحاكمة أسوة بغيرها من نساء الإخوان، فهي اعتقلت في المرتين كرهينة لزوجها، وبمقدار ما كان وجود طفلها معها يخفف من قلقها كأم، حسب قولها، بمقدار ما كان يسبب لها كماً مرعباً من الإحساس بالذنب تجاهه. “بقيت في سجن حلب المركزي سبع سنوات وبقي صغيري معي، فقد كان رضيعاً حين اعتقلوني للمرة الثانية… أعطيته لأمي بعد أن أتم سنته الرابعة. كان ذلك خياراً صعباً فوجوده معي كان يؤنس وحشتي ويقلص الوقت الطويل”. وتقول لينا، التي اعتقلت أيضاً كرهينة لزوجها القيادي في حزب العمل الشيوعي عام 1987: “كنت أرى ابنتي في منامي منكوشة الشعر، متسخة الثياب… في إحدى المرات ومع انتهاء الزيارة وبعد أن مضت مع جدتها إلى الباب المفضي إلى خارج الفرع وكان السجان يقودني من ذراعي في الاتجاه الآخر، صرخت «ماما!» استدرت لأجيبها، علّي أهدئ من روعها وأعدها بأني سأعود قريباً، لكن السّجان منعني وأمرني ألا ألتفت … أعتقد أن الوضع الذي عاشته في غيابنا ما زال يصم ذاكرتها…”.
ومع انطلاق الثورة لم يعد التنظيم الأسدي يكتفي باعتقال النساء كرهينات بل أصبح يستخدمهن كوسيلة انتقام من البيئة الحاضنة للثورة، حيث قام باعتقال أعداد كبيرة من النساء على الحواجز لهذا الغرض، ولم يكتف باعتقال النساء كوسيلة لمعاقبة البيئة الحاضنة للثورة بل للإمعان في التمييز الطائفي، وإحداث الفتنة، للتأكيد على الهوية الدينية التي ألصقها بالثورة منذ بداياتها. وتروي نبال التي اعتقلت على خلفية دعمها لمناطق ريف دمشق المحاصرة: «لم يستخدموا معي أساليب التعذيب التي استخدموها مع الأخريات… كنت أتألم حين يرجعن من التحقيق وأيديهن متورمة وتنزف بسبب الآلة التي يضغطون بها على الأصابع، كنت أتوجع في كل مرة أرى علامات التعذيب بالكابل واضحة على أفخاذهن.. أنا لم يعذبوني.. قالوا لي: أنت منا ومعنا”، بينما تروي هالة: «التقيت بصبية من المنبت العلوي خلال فترة اعتقالي… كانت هذه الصبية أكثر من تم تعذيبهن بيننا».
“رغم تسريب آلاف الصور لضحايا التعذيب في المعتقلات السورية كرر الأسد عملية الإنكار وادعى أنه ما من معتقلين في فروعه الأمنية، غير أن أصوات الضحايا تدحض مزاعمه، كما يرد في تقرير “أصوات في مقاومة الصمت””
وتضيف “..حين التقيت بها كانت قد أمضت أكثر من خمسة أشهر في الفرع…. كان هناك سجان يأتي بين الحين والآخر ويشتمها بأقذع الشتائم لأنها «انفصلت عنهم» وفق تعبيره”. تقول عبير وهي ناشطة سلمية في الثورة: “كانت لدي فكرة عما يمكن أن يحدث في الاعتقال… لم أكن أخاف.. كنت أتوقع النتائج… وصولاً إلى الاغتصاب، لذلك حضرت نفسي؛ حلقت شعري وصبغته بالأبيض وتركت الشعر على جسدي… أردت إن حدث واغتصبوني ألا يكون الأمر ممتعاً لهم…”. وتتحدث سحر عن إحساسها بالمرارة من سخرية عناصر الفرع الذين حضروا تعذيبها “فور إدخالي لمكتب الضابط رئيس الفرع قاموا بنزع حذائي وجواربي ووضعوني في الدولاب ودفعوه بقوة فاصطدم وجهي بالأرض، ثم انهالوا عليّ بالضرب.. كانت الأرض مبللة… ومع كل سؤال كانت وتيرة الضرب تشتد… حين انتهى التعذيب لم أستطع الوقوف على قدمي… بدأت أقفز من الألم… كانوا يضحكون ويهزؤون بي: «يلله عالدبكة.. يلله عالدبكة». أكثر ما آلمني أنهم كانوا بأعمار أولادي…”.
وتقول سلام “…أكثر ما يؤلمني ويشعرني بالإهانة هو محاولتهم تعريتي…”. ولم تستطع يارا أن تمنع نفسها من الصراخ إثر رؤيتها لمشهد اغتصاب صديقها من نافذة زنزانتها «صباح عيد الأضحى سمعت صراخاً لا يشبه صراخ الآدميين، بل يشبه صراخ وحش يموت… كان صديقي عارياً تماماً… كانوا يدخلون في مؤخرته سيخ حديد ثخين.. مشهد فظيع… كانت روحه تكاد تخرج من شدة الألم… إلى جانبه كان صديق له يقف منتظراً دوره وهو يرتعد خوفاً.. مشهد لن أنساه ما حييت».
“مع انطلاق الثورة لم يعد التنظيم الأسدي يكتفي باعتقال النساء كرهينات بل أصبح يستخدمهن كوسيلة انتقام من البيئة الحاضنة للثورة”
تأتي هذه المرويات الواردة على لسان الضحايا بمثابة صرخة تحرك السؤال عن مصير المعتقلين والمعتقلات في السجون السورية، الذين أنكر التنظيم الأسدي وجودهم لديه، بحكم منهجية الإنكار التي يتبعها، كحال نكرانه في الوقت الراهن وصول وباء كورونا إلى الأراضي السورية، علماً بأن السياح الإيرانيين والمرتزقة والشبيحة منهم يتوافدون يومياً بالعشرات على الأراضي سورية، ليساهموا في تكريس هذا الوباء، كما سبق أن كرسوا القتل والعنف من قبل.
ضفة ثالثة