الغابة الوسنى/ عدي الزعبي
(1)
أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ وَجَوىً يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
أَبَني أَبينا نَحنُ أَهلُ مَنازِلٍ أَبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنعَقُ
وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ وَالمُستَغِرُّ بِما لَدَيهِ الأَحمَقُ
وَالمَرءُ يَأمُلُ وَالحَياةُ شَهِيَّةٌ وَالشَيبُ أَوقَرُ وَالشَبيبَةُ أَنزَقُ
أبو الطيب
(2)
ينبع الأرق من الداخل، من الروح التي لا تُرى: كالندم والموهبة والغرور. لا يهاجم من الخارج، ليس فيروساً أو بكتيريا أو جرحاً أو أوراقاً رسمية تُذلّك أو حرباً لا نهاية لها أو مخابرات لا تخاف الله. يهاجمك منك وفيك وبك: هو الخصم والحكم. يتحكم بأعصابك وبعضلاتك، كالشهوة الجنسية. لا تعرف كيف تمسك به، أو من أين ينبع: المعدة، على الاغلب؟ أو على الجفنين مباشرة؟ رجفة اليد، ربما؟ تسارع ضربات القلب؟ أو في الدمع الذي يصاحب التثاؤب؟ الأرق، بالتأكيد، شيء مادي، كالمعاد الجسماني عند الشيعة والحنابلة: كلما طال العذاب تأكدت من ماديته الفجة. يعتاش الأرق على فكرك وخيالك وشوقك وكبدك وبؤسك وطفولتك وهمجيتك: يعتاش على كل ما لا تبوح به: هو، في الحقيقة، أنت بدون أقنعة، بدون تهذيب: أنت بالضبط كما لا تريد أن تزهر للناس، كما تحيا وحدك حياتك الداخلية الخاصة التي لا يعرفها أحد: ليس مرضاً أو إصابة: هو كشف روحاني لما تعانيه وتخفيه. الأرق جاسوس وصديق كشفتْه، بخبث ومحبة عابثة، إميلي ديكنسون الساحرة الساخرة: “الروح لنفسها / الصديق الملكي/ أو الجاسوس الأكثر إيلاماً / الذي قد يرسله عدو”. الأرق روحك التي لا تتخلى عنك: تلك التي كانت موجودة قبل الولادة، على ما يقول أفلاطون؛ أو التي تناسخت مئات المرات معذّبةً بالرغبات المادية، على ما يقول الهندوس والبوذيون؛ أو التي خلقها الله من العدم في بداية الكون وسيحاسبها يوم الحشر، على ما تقول الأديان الإبراهيمية: صورة الله في العالم المادي؛ أو التي ستتحد بالعقل الفعال بعد الموت لا تنتظر القيامة، على ما يرى آرسطو وابن رشد: الأرق روحك التي لن تتخلى عنك.
يجلب الأرق كل ما لا تريد في صحوك أن تفهمه: طفولة حزينة، ومراهقة تائهة عنيفة معنّفة، وشباباً ضائعاً، ومستقبلاً أسود بعد طريق مسدود مسدود، وعشيقات هجرنك، وصديقات لم تبح لهن وأخريات تتمنى لو لم تبح لهن، وكل ما يجرحك تذكره: كذباً أبيض وأسود، وسرقات صغيرة، وخيانات متفاوتة الحجم، وحسداً وغيرة، ورعباً من أشياء لا تجرؤ على الاعتراف بها عن نفسك لنفسك، وقلقاً من الفشل القادم والماضي، وأناك الخاصة الهشة المبهمة تتفرفط أمامك مع اقتراب الفجر.
لا شيء ينفع مع الأرق: الركض والسباحة والمشي لساعات؛ قراءات لحكماء يعرفون كل ما يمكن معرفته: إيسا والمعري، أو لكتاب مدّعين متحذلقين: بول أوستر وديريدا؛ سيجارة حشيش؛ أفلام أوزو ونيكيتا ميخالكوف؛ كونشرتو البيانو الثانية لرحمانينوف أو مهرجان “عود البطل”؛ عادل إمام أو”عيلة خمس نجوم”؛ يوغا خفيفة. أعد القهوة، وأجلس منتظراً فجراً يتأخر كثيراً في الشمال البارد.
كتبت مارينا تسفيتاييفا، الشاعرة الروسية قليلة الحظ التي لم يرتم على قدميها الرجال كثيراً، قصيدة طويلة عن الأرق: عشرة مقاطع متفرقة غير مترابطة: عن الليل والحب والنوافذ والمدن والتجوال في شوارع فارغة والجسد والظلام والموت والوحدة. عانت الصبية الأرق، بعد أن انفصلت عن حبيبتها. لم تترك زوجها: مخابرات ستالين جندت ذلك الرجل الذي حارب مع البيض وهرب إلى باريس: ما إن عاد حتى اعتقلوه ثم قتلوه، كما اعتقلوا ابنتها خمس عشرة سنة. لم يطبعوا أشعارها ولم يوظفوها في أشغال ثقافية. عملت في الجلي وتنظيف البيوت. لم تكن ضد الثورة، لم تكن معها: أشهر شعراء الثورة تغنّت بهم: يسينين وماياكوفسكي، وارتبطت روحياً ببوريس باسترناك. بعد عقود من حياة قاسية في منافٍ لم تتمنّ فيها شيئاً سوى أن تطأ أرض الوطن، شنقت نفسها بعد سنتين من عودتها إلى الوطن، لتنهي حياتها البائسة جداً، ذلك البؤس الذي لم ينعكس في أشعارها الشجاعة الأصيلة المرنة النورانية.
لا يبدأ الأرق ليلاً، بل يعيش معك طيلة اليوم: الرعب من ساعاته الطويلة لا يفارقك. في الغسق، تكاد تبكي، وأنت تشاهد الشمس الغاربة، تأخذ معها الظلال والأشكال والألوان والأصوات: تتركك وحدك في وحدة لا أنيس فيها ولا سمير. يحل موعد النوم المقدس كصلاة الجمعة، وتدخل غرفة النوم نصف ساعة، لتخرج بعدها مهزوماً متسللاً إلى غرفة الجلوس، حيث يتأفف منك الديوان والكراسي والطاولة والمصباح والحيطان والأرضية والسقف والسجادة والنافذة والكتب والحاسوب. تعتذر لهم، وتجلس صامتاً ساكناً، لتتأمل ليلك الطويل القادم في ذعر.
كان الشعراء العرب يأرقون عندما يزورهم طيف الحبيبة. ولكنهم كانوا يطلبون الطيف وينتظرونه: يريدون أن يأرقوا كي يلتقوا به. في الحقيقة، كان الطيف مادياً، والموت مادي: النفَس الأخير الذي يخرج من الأنف عند الموت يحمل معه النفْس. كذلك الأمر مع الأشباح والملائكة والجن، والجنة والنار: كلهم ماديون. والله نفسه يسكن في مكان مادي خارج الكون المحدود الصغير، أي ما وراء كرة النجوم الثابتة. التحولات من المادية الفجة إلى نقيضها في الأديان السماوية أتت تحت ضربات معاول الفلاسفة المؤمنين الصادقين وغير الصادقين. أتفلسف وحدي في تاريخ المادية الغريب العجيب، في ليالي الأرق الطويل، متمنياً لو كان أجدادي على حق: لو كانت الاشباح التي تزورني مادية، لو كانت لها صلة حقيقية بمن تمثلهم وتستدعيهم، كما يشرح ويؤكد أشهر الماديين قاطبةً: أبيقور طالب اللذات الزاهد؛ لو لمستهم وكلمتهم وشممتهم وحمّلتهم رسائل وأشواقاً وقبلات. ولكن لا: أشباحي خيالات نفسية روحانية خاوية مريضة، يستحضرها المنفيون في نوبات الاكتئاب والقلق والفزع. أفتح النافذة في ليالي الربيع على برد لا يُردّ ليدخل البيت زملاء الأرق الدائمون: ريح صرصر، ومطر غاضب أحمق، وغيم كثيف شديد الصلابة، وأشباح من كل الأجناس.
الأرق معجزة صغيرة، نقيض النقيضين: نقيض الصحو ونقيض النوم، في نفس الوقت. الأرق فرداني تماماً، كفيلسوف ليبرالي متشائم لا يؤمن إلا بالفرد جوهراً خالصاً أنانياً: لا يستطيع أحد مساعدتك فيه: لا الأصدقاء والعشيقات والعائلة، ولا الملائكة والشياطين والجن والأطياف: مئات الليالي الظلماء والمقمرة أمشي فيها في الشوارع: نورتيش ودمشق ولندن واسطنبول، وكوبنهاغن وبيروت ودبي ومالمو. “قهوة الحجاز” في الرابعة صباحاً. صحن فول في السادسة صباحاً في “الميدان”. لندن بدون ميترو بعد منتصف الليل: مدينة تحرس نفسها من ساكنيها. يقولون المدن لا تنام: ولكنها لا تُصاب بالأرق: تُتخم بالناس فيفيضون فيها. لا يبدو على جسدها صباحاً آثار الأرق الطويل. نوريتش تشعّ بسكينة قروسطية، ودبي صحراء الروح. بحر بيروت يؤنسك، والمدينة بدونه غابة إسمنتية شرسة حزينة.
بعد ليالي الأرق تلك، تمشي كمسرنم طيلة النهار. يتضعضع معنى الخير والشر، ومعنى الحب والصداقة، ومعنى المعنى والوجود والعدم: شبحاً تسير بدون جسد، بدون المعاني كلها التي تتجلى فقط في أجساد من ناموا طويلاً. ينخرك الأرق لتصبح كمصاب بألم الأسنان أو حصى الكلية: لا تستطيع إلا التفكير بالألم. الأصوات والأشكال والألوان والمشاعر والذكريات تبدو كأحلام قرينك الجنيّ: ليست لك تماماً، وليست لغيرك. شمس ساطعة وثلج خفيف وعواصف بحرية: كلهم يعبرون فيك بتساو. نهار طويل تشرب فيه أطناناً من القهوة، قبل أن تعود إلى ليلة أرق جديدة.
ودورات الأرق والاكتئاب والبارانويا لا يحكمها منطق واضح: بدون مقدمات أو أسباب، وبعد أسابيع قليلة من التحرر، يسقط المرء مرة أخرى فريسة سهلة لأعداء غير مرئيين. عندما يعتقد أنه حقق تقدماً ما في معاركه، يفاجئه أحد الثلاثة المتآمرين، عادةً الأرق، لينهكه ليال متتابعة، فيتبعه مباشرة الاكتئاب الراقص كالفتى الجسور يقود دبكة ريفية صاخبة، ثم البارانويا الحنون تترنم بمعرفتها: “أنت وحيد تماماً وفاشل كلياً يا بني، كقط منزلي تخلّى عنه أصحابه في غابة برية لا يعرف فيها كيف يجد قوت يومه”. بعد البارانويا هذه، بالطبع، أرق طويل مديد صارم أخاذ. تهدهد الأعداء الثلاثة وتهددهم، كأطفالك المساكين الطيبين: جزء لا يتجزأ منك، حتى عندما يأكلونك حياً.
إذن، على المرء، وبالتدريج، أن يطوّر أساليب دفاعية كي يدفع الانتحار ويقبل الحياة كما هي: سلسلة متكررة من النوم القلق والصحو الضحل: تتعدد هذه الأساليب، وتختلط أحياناً، وتتناقض أيضاً: أشهرها وأكثرها شيوعاً، الشره في ليالي الأرق: غارات ليلية على البراد وأدراج المطبخ، ليأكل المرء بعد منتصف الليل رزاً بارداً مع طبخة “بايتة” ويلحقها بالشوكولا والمربي ثم الفاكهة وخبز مع جبنة وبسكويت رخيص صحي للريجيم يتبعه علبة طونا ويختم مع تأنيب الضمير بفتح أكياس الزبيب والفستق واللوز المخصصة للطبخ. يعود المرء إلى محاولات النوم متخماً بأحلام ضائعة عن أهمية اللياقة والوصول إلى سن الأربعين (قريباً جداً) بكرش صغير وقلب ليس مصاباً بالكوليسترول والشحوم ودم صاف سيعيش لسنوات طويلة.
تشرق الشمس، كما تشرق في كل مكان. يستيقظ الكون، ذلك الذي لم يصدق ديفيد هيوم أنه سيعود كل صباح: أو، للدقة، آمن بذلك ولكنه لم يجد سبباً عقلانياً مقنعاً لهذا الإيمان. كتب بورخيس قصيدة ساحرة عن هذا الشك في طلوع الفجر. نحن، المصابين بالأرق، لا نشك: الشروق والغروب والفجر والغسق والشفق والغلس، تتوالى علينا بدون رحمة وبدون ترتيب منطقي. أتسلل من البيت قبل أن يستيقظوا. هواء منعش، وبشر طبيعيون ناموا ليلهم يتوجهون إلى أعمالهم: أحسدهم بغلّ؛ وأشتم في سري نفسي وحظي وبرودة قلوب الناس هنا، وأشتم أيضاً الأعداء الخارجيين المتحالفين مع الأعداء الداخليين بعروة وثقى لا تنفصم: حكام الجمهورية السورية ومملكة الدنمارك الفاشية: بلدي وبلد زوجتي اللذين نُفينا منهما لنقضي العمر لاعنين الديكتاتورية والديمقراطية معاً.
أدخل بقالية العراقي النكد الغاضب دوماً، وأشتري “سنيكرز” صغيرة رخيصة، آكلها على عجل، وأتأكد من رمي الغلاف بعيداً، كي لا تضبطني زوجتي كما حصل مرات كثيرة، عندما تعثر على الغلاف في حقيبتي، لتسألني عن محاولاتي المتكررة في التخلص من الاكتئاب. آكل الشوكولا بسرعة، وبدون أية متعة. أمشي في شوارع باردة لا تريدني ولا أريدها، مدندناً بخفة مبتهجة غير مفهومة:
” شو همّ ليل وطار
وينقص العمر نهار
بس اسهار …”
(3)
كما أحب تقبيل الأيدي،
وأن أهب كل الأشياء أسماءً،
أحب أن أفتح الأبواب
على مصراعيها – ليلاً.
رأسي مضغوطٌ بين يديّ
أنصت إلى خطوات ثقيلة
تخفت لتصبح خفيفة
وإلى الريح تهز الغابة الوسنى
والغابة الساهرة أيضاً.
آه، أيها الليل،
نهيرات تجري
وتصب في – النوم.
(تقريباً غفوتُ)
في مكان ما هذه الليلة
يغرق كائن بشري.
مارينا تسفيتاييفا
مجلة رمان