“زجاج مطحون”: أن تكون محجورًا مع ذاتك/ عبد الكريم بدرخان
سواءً بسبب الاستبداد أو الحرب أو انتشار الأوبئة، فإنّ عزلة الإنسان واحدة. أما السجونُ فمهما اختلفتْ ظروفها من سجون “خمس نجوم” إلى سجون أشبه بالمسالخ، فهي كلّها سجون. ومهما حاول الإنسانُ النأيَ بنفسه عن الكوارث الكبرى، والبحثَ عن حلّ فردي ينقذ به نفسه؛ فإن الكوارث سوف تتبعه أينما ذهب وتصل إليه. هذا ما تخبرنا به رواية “زجاج مطحون” للكاتب إسلام أبو شكير.
جاءتْ هذه الرواية القصيرة (منشورات المتوسط، ميلانو 2016) في فصلين رئيسين، فصل تدور أحداثه قبل الحرب وفصل بعد الحرب. فجأةً، يجد أربعة أشخاص أنفسهم محجوزين في مكان غريب، مكانٍ تتراوحُ تفسيراتهم له بين كونه معتقلاً أو مخبأً وُضِعوا فيه بعد خطفهم كرهائن، ويتراءى لكل واحد منهم أنه يحلم ويشاهد كابوساً غريباً. تلك الغرفة (الزنزانة) التي وجدوا أنفسهم محتجزين فيها؛ واسعة جداً وتتوفّر فيها وسائلُ الرفاهية من طعام وشراب وثلاجة وتلفاز وكتب وأسرّة وحمّام نظيف. لكنّ ما يشغل بالهم ويثير ذهولهم أكثر، هو أن الغرفة بلا أبواب أو نوافذ، جدران شاهقة وسقف فقط، فلا يعرفون كيف تمَّ إدخالهم إليها. أما الهاتف الموجود فيها فمعَطّل، والتلفاز لا يلتقط أيّ إشارة. وكأن الكاتب يقصد بهذي الغرفة البلادَ المحكومة من قبل نظامٍ مستبدّ، إذ يجد الإنسان نفسه قد وُلد في سجن كبير من دون مخارج أو مداخل، سجن معزول عن العالم بشكل مقصود. صحيحٌ أنّ فيه ما يساعد على استمرار الحياة، لكنه يظلُّ سجناً أو قبراً في كل حال.
تبدأ حبكة الرواية بالصعود عندما يكتشف الأربعة المحتجزون أنهم يحملون الاسم ذاته، فيبدأ كلُّ واحد منهم باتهام الآخر بأنه انتحل شخصيته. ثم يتّهم كل واحد منهم الثلاثة الآخرين بأنهم يتآمرون عليه، وأنهم اختطفوه ويريدون منه شيئاً ما. وهكذا تدور الاحتمالات والتفسيرات في حلقة مفرغة، فربيبُ السجن الكبير يفسّر كل شيء بنظرية المؤامرة. بعد ذلك يكتشف الأربعة أن ملامحهم متشابهة، بل إنهم نسخٌ متكررة من الشخص ذاته مع فوارق في الأعمار، فهم رجلٌ عشرينيّ وثلاثينيّ وأربعينيّ وخمسيني من الشخص ذاته. ففي ظلّ انعدام الحرية والخيارات، يتشابه البشرُ في السلوك والمواقف وحتى في الأشكال.
يحاول الأربعة إحداثَ فجوة في جدار السجن، لكنْ عبثاً يستطيعون ذلك، فجدرانُه فولاذية كتيمة. تظهر لدى الشخص العشريني أفكار ثورية، لكن الثلاثة الأكبر منه يقمعونه ولا يوافقون عليها. ثم يدخل الأربعة في حالة من انعدام الأمل، ويستسلمون لمصيرهم المحتوم. ويوماً بعد يوم، يبدأ المقيمون في السجن بالاعتياد على ما لا يمكن اعتياده، فيتصرفون متل البشر الطبيعيين، يأكلون ويشربون ويغنّون ويضحكون. ثم يقرّرون بأنه لا جدوى من البحث عن تفسيرات لما يحدثُ لهم، فلا يهمُّهم معرفة مَن اختطفهم أو مَن يُدير هذا السجن ويتحكّم فيه. المهمّ بالنسبة إليهم هو “إنقاذ الضحية فقط”، المهمّ هو تأمين الخبز لا الحرية أو الحقوق.
في الفصل الثاني من الرواية تبدأ حربٌ ما في الخارج، يستدلّون إليها عن طريق آثارها الاقتصادية، إذ تتغيّر نوعية البنّ الذي يصل إليهم، وتنقطعُ السجائر وأصناف أخرى من المواد. ثم يكتشفون في إحدى الصباحات أنّ أصواتهم قد اختفت بالكامل، ففي الحرب تُكَمّ الأفواهُ ويزداد عنف السلطة وقمعها. والحربُ تحصد شريحة الشباب بالدرجة الأولى، ولهذا تكون أولى ضحايا الحرب من الأربعة المحتجزين في الغرفة هو الشابُّ العشريني صاحب الأفكار الثورية. وبعد عشر سنوات من الحرب، يكون قد مات ثلاثة منهم، وبقيَ الأكبر سناً وحيداً. وكأنّ أولئك الثلاثة كانوا مراحلَ من عُمر شخص واحد، وكلما قطعَ عقداً من الزمن؛ ودّعَ صديقاً قديماً كان يعيش في داخله.
تمتاز هذه الرواية العبثية بخفّتها وانفتاحها على عددٍ غير محدود من التأويلات، فأنا أميلُ إلى أنّ الغرفة/السجن الذي بلا أبواب أو نوافذ هو سوريا، والحرب التي تجري في الخارج هي الحرب السورية. لكن هذا لا يعني أن تفسيري أكثرُ صحّة من غيره، فقد يكون السجنُ هو سجن الأحلام أو الأوهام الذي يعيش فيها الإنسان طول حياته، ويكون موتُ الأشخاص المقيمين في السجن دلالة على موت الأحلام واحداً تلو الآخر مع التقدم في العمر.
وأنا جالسٌ في الحجر الصحي المفروض على معظمنا بسبب جائحة الكورونا، تذكّرت رواية “زجاج مطحون” بعدما كنتُ قد قرأتها في الصيف الماضي. فحالُ الشخصيّة الوحيدة الواحدة/المتعدّدة؛ تشبه حالي وحال الكثيرين ممن يعيشون لوحدهم، فرغم توفُّر الوسائل الضرورية للمعيشة؛ إلا أنهم مسجونون بشكلٍ أو بآخر. فالرواية قابلة للتأويل بهذا المعنى، بأنْ تكون رواية عن العزلة الفردية المفروضة على الشخص من قوى خارجية، وعن آثار العزلة عليه، وما تُراوده من أفكار ورؤى وأحلام خلالها. وهي تقول -أيضاً- إنه مهما حاول الفردُ النأيَ بنفسه والهرب من الكوارث الكبرى إلى مكان بعيدٍ ومعزول، فإن الخلاص الفردي في هذه الحالات غير مُجدٍ، لأن الكارثة سوف تصل إليه بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا حلَّ للكوارث الكبرى كالحروب والجوائح إلا الحلّ الجماعي الذي يتعاون فيه الجميع.
هذا وقد سبقَ للكاتب السوريّ إسلام أبو شكير أنْ أصدر عدة مجموعات قصصية، منها “استحواذ” و “أرملة وحيد القرن” و “الـ O سلبي الأحمر والمشعّ”، كما صدرتْ له رواية “القنفذ”.
تلفزيون سوريا