الناس

حين سقط التمثال.. وبقي ظله/ مدى الخطيب

مئات المتظاهرين يتحوقون حول الساحة، يهتفون بكل ما يشعرون من حماس وغضب وتحرر من القيد، وكأنهم كلما رفعوا صوتهم أكثر كسروا القيود أكثر، يتسلق بعضهم منصة الساحة ويقفون عليها ويتدرج الباقون حولهم نزولاً إلى رصيف الساحة.

مشهدٌ يحكي الكثير ويفتح الذاكرة على الأكثر، ففي هذه الساحة عينها وعلى تلك المنصة التي يعتليها المتظاهرون، كان يقف ولعشرات السنين تمثال لمن جاء بالقهر للبلاد ولمن يخرج الشبان اليوم ضد منظومته الحاكمة، التي استمرت رغم موته ورغم ذهاب التمثال. إنه تمثال مؤسس منظومة الديكتاتورية في سوريا حافظ الأسد.

أعود بالذاكرة وأنا أشاهد المتظاهرين يعتلون منصة الساحة، تلك المنصة التي كان عليها التمثال، ماداً يده للأعلى محيياً بها الجماهير المتخيلة، فارداً يده بشكل كان يطلق عليه أهل السويداء وكأنه يلوح لمحل الشاورما المقابل ليوصيه على طلبية خمس سندويشات من الشاورما، حتى اعتاد الكثيرون على تسمية الساحة بساحة “خمسة شاورما”.

في السابق كانت تلك الساحة تعرف باسم ساحة السير، لأنها مركز انطلاق الباصات والعربات إلى القرى المنتشرة حول المدينة، وبقيت كذلك إلى أن جاء عهد الأسد وسماها باسمه “ساحة الرئيس الأسد” ووضع تمثاله الكبير فيها، فاحتل الاسم الساحة بالقوة والترهيب، في حين كان يتنذر البعض بسرهم على تلك الساحة ويسمونها باسم ساحة خمسة شاورما، والغالبية بقيت تطلق عليها اسم ساحة السير، على الرغم من نقل موقف الباصات منها منذ زمن بعيد.

في الثمانينات وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي مرت بها سوريا، حين انفقدت الكثير من المواد الأساسية والغذائية، وفقد السوريون زمناً طعم السمنة، حتى كادت تعتبر حيازتها تهمة، واحتار السوريون بماذا يطبخون موائدهم، قام أحدهم ليلاً بوضع علبة سمن فارغة على يد التمثال في إشارة تهكمية واضحة لفقدانها في ظل حكمه، وسرعان ما انتشرت القصة وعرف بها الجميع على الرغم من مسارعة المخابرات إلى إزالتها فور مشاهدتها صباحاً، لكن القصة كانت قد انتشرت.

بعد ذلك ذهبت الأزمة وظل التمثال رابضاً مكانه، يحاول فرض اسمه على الساحة التي استمر الكثيرون بإطلاق اسم ساحة السير عليها، لكن وكأنه لم يكن يهمه ذلك طالما انه موجود بالقوة والترهيب، لدرجة تشعر إن مررت بجانبه وكأنه ينظر إليك ويتربص بك، أو كأنك مراقب إن رمقته بنظرة غريبة، تشعر وكأن أجهزته الأمنية ترى كل شيء في الساحة وستنقض عليك إن أشرت نحوه بسوء.

بعد انطلاقة الحراك الشعبي في 2011 ازداد حقد الكثيرين على التمثال وصاروا يفكرون في كيفية إزالته تماشياً مع إزالة تماثيل مشابهة له في باقي المحافظات، حادثتني صديقتي عن طريقة معينة لإزالته بأن نأتي بتركتور في الصباح الباكر ونعلق حبل بالتمثال ومن ثم يسير التركتور ببطء إلى أن يخلع التمثال، لكن لم نكن ندري كيف سنؤمن ذلك التركتور وكيف سنهرب دون أن يكشفنا أحد. أحدهم اقترح أن نقوم بتلطيخ التمثال بطلاء أحمر تصعب إزالته حتى يضطروا هم أنفسهم لإزالته، لكنها كانت مهمة صعبة أيضاً إذ إن الأعين الأمنية باتت منفتحة أكثر على التمثال ومراقبة له أكثر من ذي قبل تحسباً لأي اعتداء عليه.

وفي يوم من الأيام جاء أحدهم واعتلى التمثال بمطرقة كبيرة محاولاً طرقه وتخريبه، لكن القوى الأمنية التي ذكرت أنها كانت تراقب التمثال انتبهت له وهجمت عليه قبل أن يستطيع تخريبه خاصة وأنه مبني من معدن صلب. وتم اعتقاله وبات مجهول المصير.

إلى أن جاء اليوم الأسود الذي تم فيه تفجير موكب الشيخ وحيد البلعوس قائد حركة رجال الكرامة في السويداء، حيث انتشر على إثرها مئات المتظاهرين الغاضبين في شوارع المدينة، كانوا يجولون دون معرفة ما يبغون عمله، فاليوم الأسود فجر بداخلهم غضباً جياشاً أبعد عنهم التفكير بعقلانية، إلى أن تجمعوا عفوياً في ساحة السير حيث يربض التمثال، يوحدهم الغضب ويوجههم نحو التمثال في منتصف الساحة، هجموا عليه بأذرعهم، تكاتفوا لإزالته، كم كان عنيداً على الإزالة وكأنه يأبى النزول، حتى جاؤوا بجرافة صغيرة قامت باقتلاعه من جذوره ورميه على قارعة الطريق وتكسيره، فهجم عليه المتظاهرون تكسيراً وتخريباً وشتماً. شعروا وكأنهم اقتلعوه من داخلهم.

بعد عدة أيام وبعد أن هدأت المدينة سارعت القوى الأمنية إلى إبعاد التمثال عن جانب الطريق إلى خلف مبنى الشرطة ولفوه بالعلم، لتغطية ما يظهر عليه من خراب.

وأخيراً باتت الساحة خالية من التمثال، كانت الاتصالات مقطوعة وكذلك الإنترنت، لمدة يومين متتاليين، فلم يسمع بخبر إزالة التمثال أحد في الخارج، وما أن عاد الإنترنت حتى سارعت إلى إرسال رسالة لصديقتي في الخارج والتي كنا نتناقش عن طرق إزالة التمثال وأخبرتها: “وأخيراً زال التمثال، وبسواعد المتظاهرين وعلناً”.

بعد تلك الحادثة بعام تقريباً تجددت المظاهرات في مدينة السويداء تحت اسم حملة حطمتونا، وقد كانت تحمل مطالب معيشية وأخرى سياسية، وقد جابت في بعض مظاهراتها ساحة السير حيث باتت بدون التمثال ووقف المتظاهرون على المنصة التي كانت تحمل التمثال كرمزية للتغيير الذي حصل، وإثبات أن هذا المكان بات مكانهم لا مكان الاستبداد، وقد حمل المتظاهرون لافتة كتب عليها ساحة الكرامة بعد أن أطلقوا على تلك الساحة اسم ساحة الكرامة وقاموا بكتابة الاسم على جدار الساحة، وباتوا منذ ذلك الحين يسمونها بساحة الكرامة لما شعروا به من استرداد كرامتهم في تلك الساحة التي صارت مكاناً للتظاهر بعد أن كانت رمزاً للاستبداد ونُصُبه.

اليوم يتكرر المشهد أمامي، مئات المتظاهرين في الساحة التي باتوا يطلقون عليها اسم ساحة الكرامة، يحملون اللافتات ويهتفون بكل حماس مطالبين بالحرية والكرامة، يتصاعدون على المنصة التي باتت ملكهم، إلى أن تأتي القوى الأمنية ومواليها، لينقضوا على المظاهرة ويعتقلوا قرابة العشرة أشخاص منها، وهم يهتفون سوريا والأسد وبس، وكأنهم لا زالوا مصرين على بقاء التمثال وإن رمزياً ولا يقبلون بأي تغيير، لتبقى تلك الساحة تحمل المتناقضات دوماً الصراع بين التمثال ومنظومته الرابضة فوق صدورنا كالقدر، وبين من أرادوا الحرية والكرامة واجتثاث الاستبداد من البلاد.

زال التمثال ولم يزل النظام بعد، زال التمثال وبقي ظله، لكن طالما هناك من يصرخ بوجه الظلم ويتظاهر ضده، يبقى الأمل بداخلي أن الوقت قريب وهو يقترب في كل يوم أكثر فأكثر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى