الخرّاقة/ سارة الأبيض
عندما صفَقَ الرجل العجوز باب البيت أخيرًا وخرج بصحبة زوجته، كان يتخيل أن الأشياء التي تركها وراءه في البيت تتحدث إلى بعضها بعضًا. يقول إنه يتخيل كيف أن «الخزانة الخشبية تتذمّر من زوجته التي تمسحها ليل نهار بالخل والكلور، وتكاد تسلخ عنها جلدها البني»، وكيف أن «الباب يتألم لأن قبضته المعدنية لم يبق لها سوى برغيّ واحد حتى تسقط، وهو لا يستطيع تحمل معنى وجوده من دونها، لكن يبدو أنه لا يوجد أحدٌ مهتمٌّ بإصلاحها أصلًا».
لا يكفّ الرجل العجوز عن تسلية نفسه بتخيّل أحاديث تدور بين أغراض البيت. ملَّ الوحدة القاتلة التي تغمره، ويعتقد أن أغراض البيت أيضًا ملّت من وجهه ووجه زوجته، بعد أن مرّت نحو سبع سنواتٍ من غياب بقية أفراد العائلة.
عمره نحو خمسة وسبعين عامًا، وزوجته أصغر منه بثماني سنين. يعيشان الآن في أحد أحياء مدينة حمص. يمكن أن يُقاَلَ عن الرجل وزوجته إنهما من بقايا الطبقة الوسطى في المدينة. يعيشان على راتب الرجل التقاعدي، وبعض المال الذي يرسله لهما أولادهما المسافرون من حينٍ لآخر. تفتخر المرأة بنسبها الذي يعود لـ«الأتراك» كما تقول.
كان الزوجان قد عادا إلى بيتهما بعد أن فارقاه لعدة سنوات جرّاء المعارك التي دارت قرب البيت على خط التماس الفاصل بين فصائل المعارضة وقوات النظام. في أحد حوائط البيت فتحة صنعها مقاتلو النظام أثناء وجودهم في البيت؛ تسمّى هذه الفتحات بـ«الخرّاقات». بعد أن عاد الزوجان إلى البيت، قام الزوج بإحضار ورشةٍ لتصليح البيت كانت أولى مهماتها ترميم هذه «الخرّاقة». في جزءٍ من تخيلات الزوج، تَصوَّرَ دائمًا كيف أن الحائط يحلم أن يتم فتح «خرّاقته» مجددًا على الحياة، الحياة التي يحاول تخيلها مرةً بعد مرة كحياةٍ حقيقية عاشها ذات يومٍ قبل أن تحدث الحرب، عاجزًا عن ذلك.
مثل هذا العجوز وزوجته آلاف الرجال والنساء الذين تخطوا الخامسة والستين، بقوا هنا وحيدين في المدينة بعد سفر- أو بالأحرى «هروب»- أولادهما إلى تركيا منذ سنواتٍ عندما كان العبور إلى هناك أسهل بكثير من الآن، حيث لا تجنيد إجباري ولا احتياط ولا اعتقال. فصول حياة كبار السن تلك تتشابه مع بعضها إلى حدٍّ كبير، لكن فيما يخص ذلك الرجل وزوجته، ومن ورائهما كثيرون مشابهون، فإن التكرار والترقب والتمسك بأدق التفاصيل هي سمة الأمور.
****
تتجهّم المرأة عندما تذكر الكورونا. لا تنكر أنها مهووسةٌ بالتنظيف، وباستخدام المعقمات بمبالغة؛ «عندما يكون لديك ضغط عالٍ، ومرض مزمن في المفاصل، لا بدّ أن تخاف على نفسك»، ثم إنّ «أولادي بحاجتي»، تقول. تنكر على زوجها رغبته الملحة في الذهاب إلى المسجد في موعد كلّ صلاة، تخفض صوتها خشيةً منه عند الحديث عن هذا. «فليخف عليّ إن لم يخف على نفسه، لا أريد أن أفقد حياتي».
لا يتفق الرجل مع خوف زوجته، فما يعيشه الناس هنا أقسى من الكورونا بمراحل. يتجادل الرجل مع زوجته حول ارتداء الكمامة. ترتدي واحدةً دائمًا عندما تخرج، «ارتدتها عدة مرات بعد أن غسلتها وكوتها» كما ذكرت. بينما قال الرجل إن من يرتدي الكمامة في الشارع هنا يناله الاستهزاء من الناس. حين صارح أحد معارفه الذين يراهم في المسجد حول قلقه من الكورونا، تركه الرجل ومشى، وهو الأمر الذي أشعره بالخجل، وبالمبالغة في الخوف، ثم إنّ «الأمان بالله».
تحكي السيدة الستينية أن الحظر الليلي الذي كانت تعيشه البلاد لم يؤثّر على حياتهما كثيرًا، لأنهما بطبيعة الحال لا يخرجان من البيت إلا للضرورة، ومشاويرهما محدودة. كما أنّ قليلاً من أقاربهما بقي داخل البلد، لذا فقد اعتادا الوحدة والصمت، وهما يراقبان مرور الأيام من دون أن يتجرأا على عدّها أو حسابها من عمريهما. لكنهما أحيانًا يعانيان من الفراغ القاتل، الذي يبدده العجوز بالكتمان، حتى مع الأرق الكثير، بينما تعبّر عنه زوجته بالمشي وحيدةً في الطرقات وتناول المهدئات وشراء باكيت دخان واحد من نوع «كِنت»، كنوع أخير من المواساة.
*****
يشتري الرجل دخانًا رخيصًا من النوع الوطني اسمه «الحمرا»، يتراوح سعره بين 600 و800 ليرة سورية إن وجد. بينما تشتري الزوجة دخانًا أجنبيًا من نوع «غولواز»، وفي أوقات الحزن تشتري «كِنت» رغم فحش سعره الذي يتجاوز 2400 ليرة سورية. «كل ذلك بحسب ارتفاع سعر الدولار»، كما يؤكد لها بائع التبغ. «الدخان متعتي الوحيدة»، تقول. يتذكر الرجل عندما اضطر لاستخدام الدخان العربي «اللف» حين انقطع الدخان عند حصار الحي منذ سنوات. كانت لأصابع زوجته الرفيعة مهارةُ اللفّ.
يعترف أنه لا يستطيع أن ينام من دون تدخين سيكارتين. بالنسبة لهما، لا أهمية في هذا المقام للكورونا أو لتقدم العمر. هم محرومون من متع كثيرة، لن يكون الدخان إحداها.
يبتسم الرجل حين تحضر الزوجة فنجان القهوة، وتشعل سيكارة ثانية، ثم تمسك جوالها وتتصل بأخواتها الثلاثة المسافرات في شتى بقاع الأرض عبر «سكايب»، حيث يتشاركنَ جميعهنّ زيارة نسائية قوامها القهوة والإنترنت والسيكارة.
*****
بلحيته البيضاء القصيرة المبللة بالماء، وبالمنشفة الصغيرة المخصصة لقدميه، يتجهز الرجل العجوز للذهاب إلى المسجد. الأمر بالنسبة له طقسٌ يتجاوز الديني في معناه، هو أمر لـ«الاستئناس» مثلما هو للعبادة كما يقول، وهذا الأمر بالنسبة له تفوق أهميته أية مناسبة اجتماعية أخرى. فالذهاب إلى المسجد، والمشي في طرقات المدينة، والسلام على من تبقى فيها، كل ما سبق جعله متمسكًا بالبقاء في المدينة رغم كل شيء. ورغم أنه لا يملك أي إمكانية للسفر خارج البلد، لكنه لو خّيّر بذلك، كما يقول، فإنه سيرفض مغادرة البلد، لأنه لن يجد طُرُقًا تشبه الطرق التي أحبها ومشى فيها طوال عشرات السنين، ولن يجد الراحة النفسية التي يشعر بها هنا. ثم إنه يريد أن يقضي سنينه الباقية من حياته في المكان الذي ولد فيه، لكن الأهم من ذلك، يؤكد صارمًا، «لمن نترك البلد إن غادرنا؟ بقاؤنا هنا مثل الرباط على الثغور، وأجرنا محفوظ».
لا تتفق الزوجة مع هذا الكلام. تطلق تنهيدةً طويلةً وتقول بأنّ حلم حياتها أن تسافر خارج البلد وتعيش مع أحد أولادها وتنعم أخيرًا بالأمان، وهو الأمر الذي تفتقده هنا. تتحدث المرأة طويلًا عن فصول الرعب التي عاشتها خلال السنين السابقة. تقول إنها أصبحت تخاف من أي صوتٍ عالٍ منذ بدء الحرب. لا تنسى عندما سقط صاروخ على البناء الذي كان بجوارهم منذ سنوات، حين قتل الصاروخ عائلةً كاملة. «كان يمكن أن نكون نحن»، وتحمد الله أن كل ذلك انتهى الآن.
*****
تنقطع الكهرباء مثل العادة. الناس معتادون هنا على قطع الكهرباء منذ سنوات، لا سيما «بعد انتصار النظام على الحرب الكونية عليه» كما يقول. لا يوجد نظام واضح للقطع، قد يستمر القطع لثلاث أو أربع أو سبع ساعات متواصلة، أو حتى ليلة كاملة، أو حتى يوم كامل. يعني هذا انقطاع الماء أيضًا، لأن وجود الكهرباء ضروري لكي تملأ موتورات المياه الخزاناتِ المخصصة لكل بيت. ناهيك أنّ انقطاع الكهرباء يختلف من مكان لآخر، حيث أنّ الأبنية المتواجدة بالقرب من مراكز الفروع الأمنية يكون انقطاع الكهرباء فيها أقل بكثير، وهذا الأمر معروفٌ هنا.
يشتم الرجل حين تقطع الكهرباء، حيث يعمّ الظلام البيت. يحاول الزوج أن يشعل أضواء «اللدّة» لكن البطارية لا تعمل. يعتمد كثيرٌ من الناس هنا على ما يسمى «اللدّات» التي تُشحَن على بطاريات مخصصة لها مثل بطاريات الدراجات الكهربائية أو حتى بطارية السيارة. يغضب العجوز حين لا يشتعل الضوء. يحضر مفك البراغي ويذهب لتفحّص البطارية. تحضر زوجته شواحن كهربائية عتيقة وشموعًا لتبديد العتمة. مع تحرك العجوزين البطيء، والخيالات التي ترتسم على الجدران بفعل الشموع، يراود المرء شعورٌ بأن البيت تسكنه الأشباح.
يقول الرجل إنّ سعر البطارية الآن مرتفع جدًا بسبب ارتفاع سعر الدولار، حيث بلغ سعرها أكثر من 75 ألف ليرة سورية، وهو أكثر من متوسط معاش الموظف السوري بـ25 ألفًا. يتجادل الرجل وزوجته حول المكان المناسب لشراء البطارية. يتفقان أخيرًا أن يأخذا البطارية الحالية إلى محل الكهربائيات على أمل أن تكون قابلة للتصليح، ويتفقان أيضًا -أو بالأحرى يتفق الرجل مع نفسه حيث لا جدال هنا- أن ينتظر أيامًا أو أسابيع أخرى لشراء واحدة جديدة، «فربما ينخفض سعر الدولار وسعر البطارية أيضًا».
*****
خلال أيام الحجر الطويل، خطر للرجل أن يحضر عصفورين للاستئناس بهما. قال إنه اشتراهما بناءً على سعريهما دون أن يعرف نوعيهما قط. بقيا عنده لأسابيع قليلة حيث تابع الاعتناء بهما، وهو يدرس علاقته بهما من دون تحمّسٍ للأمر مع ندمٍ على دفع ثمنيهما. تابع أخيرًا باشمئزاز كيف قَتَلَ أحدهما الآخر بنقره طول الليل على رأسه وبطنه حتى نفر الدّم منه ثم مات. تخلص العجوز من العصفور القاتل ولم يكرر التجربة. زوجته قالت إنها عارضت أمر العصافير منذ البداية لأنّها تخلّف وراءها كثيراً من القمامة. أمسكت هاتفها، الذي تتمسك به دائمًا، وأشارت إلى صور قططٍ كثيرةٍ في هاتفها، وقالت إنها تحلم أن تحصل على قطة، لكنها زوجها يعارض ذلك تمامًا، لأنه يشمئز من منظر القطط. لكن لو قيّد الأمر لها، لاقتنت واحدةً فورًا لتُبدد بعضًا من الوحشة والصمت اللذين يَغشيان المكان.
*****
دوّت أصوات زمامير عالية يرافقها صوت سيارة الإسعاف. استطلع الرجل العجوز الأمر من خلال شرفة البيت، وسرعان ما لحقته زوجته مَسوقةً بالخوف. قال إنه باصٌ للمساجين، وهو يمرّ أحيانًا من أمام منزلهما. الباص ينقل المساجين من سجن حمص المركزي إلى سجن دمشق للمحاكمة هناك. قال إنّ الباص كان محاطًا من أمامه ومن خلفه بسيارات عسكرية للحماية. كما أن ستائر الباص كانت مسدلة.
لم يترك الأمر انطباعًا جيدًا على وجهه. تكلم عن استشهاد عددٍ من أبناء العائلة، عائلته، في المعتقلات، وعن قريبه الذي فقد ابنه منذ ثمان سنوات ويرفض أن يذهب للسؤال عن مصيره في دوائر السجل المدني، لأنه يخشى الحقيقة التي لا يريد تصديقها، بعدما كشفت الحكومة السورية بصمتٍ شديدٍ عن مصائر بعض المفقودين الذي يتجاوز عددهم عشرات الآلاف في العام 2019.
يؤكد الرجل العجوز أنّ قليلًا جدًا من الناس هنا من يفكرون في أمر كورونا، لأنّ كل أسرة لديها هموم أشدّ إلحاحًا من المرض. يحمد الرجل العجوز الله مرارًا على ظرفه الذي يُعَدّ أفضل من كثيرين. أصابعه التي تمسك المسبحة دائمًا هي مقياسٌ لتوتره. تستعجل الحبات مرورها حين يتحدث عن شيءٍ يكدّره، ثم تبطئ طريقها حين يكون الحديث أكثر ودية. يُجيل طَرفَه في أنحاء البيت وكأنه يودعها أسراره، ثم يمسح بيده الخرّاقة. يقول إنها أصبحت أوضح خلال السنين القليلة الماضية، ويتذكر أنه دفع الكثير لترميمها. ترميم البيت كلّفه كل ما يملك هو وزوجته.
يبتسم الرجل العَبوس. يقول إنه قد لا يشهد انتصار الحق في «حياة عينه». ربما سيشهده أولاده. المهم أنه على يقينٍ من انتصار الحق أخيرًا، وهو الأمر الذي يجعله مطمئنًا ومتفائلًا دائمًا، كما يختم.
أنتجت هذه المادة ضمن فترة الدراسة في الأكاديمية البديلة للصحافة العربية.
الأكاديمية هي برنامج زمالة مكثف مدته عام، يشجع على الإبداع والتفكير النقدي في الصحافة وتشرف عليه 5 مؤسسات صحافية مستقلة هي الجمهورية، حبر، مدى مصر، صوت ومعازف.
على مدار عامٍ كاملٍ من القراءة والنقاش والممارسة والعمل في هذه المؤسسات الصحافية، تحاول الأكاديمية تجريب واختبار مساحات جديدة وخلّاقة للسرد والتعبير، والاشتباك مع الكثير من المسلمات في سياقنا العربي، والتدرب على نهج مختلف في طرح الأسئلة والاستقصاء والبحث، ومناقشة علاقة الصحافة بالتاريخ والمكان والتراكمات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. يتضمن البرنامج 13 دورة.
موقع الجمهورية