أولادكم أبناء الحياة.. أو أبناء الدولة!/ عدنان نعوف
“الأطفال أحبابُ الله”.. هكذا تقول ثقافتنا الشعبية. لكنّهم قد يكونون أيضاً “أحباب مِحفظة نقود أبيهم المُهاجر” المُعتمِد على الإعانة المالية المُقدّمة من الحكومة الألمانيّة عن كلّ طفل.
ما بالُكُم تأتونا بـ”كَيْد عزّاب” (جمع أعزب) للطعنِ بمُجتمعات المهاجرين؟! مُصادفةٌ كوميديّة تَطابُقُ الشكلِ والمعنى إلى هذه الدرجة: عزّاب وعزّال. في الحالتين هناك مغتاظون مِن تقارب حبيبَين: شاب وفتاة، زوج وزوجة، أهل وإعانة ماليّة!
يبدو الأمر وكأنّ الإنجاب فَقدَ وظيفتهُ الطبيعية. رغم ذلك لن تَجِدَ ناشطين ينتقدون ذلك التفكير الماديّ، ويُطالبون بحماية الطفولة من الاستغلال. لا أحدَ من أصحاب اللياقة وخبراء مَزج الكلمات الأجنبية بالعربية، بحركة مدروسة للشفاه عند النطق، سيُضيّع وقته بظَوَاهر تحدُث خارج المخيّمات.
لعلّ الحق معهم! فلمَ الذهاب بعيداً طالما أن هنالك ملايين النازحين ينتظرون الناشط كي يُطبّق عليهم “برنامج تحديد نسل”، فيوبّخهم ويَدعو المنظمات لتوزيع “حبوب مَنع حمل أو واقيات ذكرية” عليهم كمساعدات؟ توبيخٌ يستند إلى منطق متماسك نظرياً، لكنه طريقة لتفريغ عُقد فوقية.
نترُكُ العُقَد جانباً، ونتجاهل خُبث الأسلوب، ونغطّي بسبّابة اليَد اسم القائِل، لنقفَ أمام الحقيقة: “إنجابُ الأطفال في ظلّ انعدام أساسيات الحياة يمثل سلوكاً أنانيّاً آخر لا يختلفُ عن تحويل بعض المهاجرين في أوروبا أطفالهم إلى باب رزق”. وإذا كان التعميم مرفوضاً، و”الشذوذ” محدوداً، ولا يُعبّر عن المجتمع، فقد يكونُ السبب هو منظومات السلطة والحُكم.
أتذكّرُ تماماً ما قاله يوماً أصدقاءٌ ينتمون إلى حزبٍ تقدّميّ، خلال إحدى الجلسات الوديّة، حين عرَضوا رؤيتهم المذهلة لرَفدِ سوريا بأجيال جديدة: “حبّذا لو نَستنسِخُ تجربة حزب الله في إعداد الأطفال عقائدياً منذ سنواتهم الأولى، كي يكونوا جيشاً يَحملُ فكرنا في المستقبل”.
عفواً! هل قُلتم “مستقبل”؟ ما دام الأمر كذلك، فلماذا الاستحياء؟ أرى أنْ تقتدوا بالنموذج الأشهر؛ الحركة الفاشية لصاحبها “الرفيق” بينيتو موسوليني، الرائد على مستوى العالم في تسييس الطفولة، وتجنيد الصغار، وإعدادهم ليكونوا وقوداً لحروبه وطموحاته، بل والتشجيع على الإنجاب لهذا الغرض!
سيتّضحُ حجمُ الكارثة أكثر عند إدراكِ أنّ كلّ الأحزاب والميليشيات في سوريا، ذات الوجه الحداثي منها أو السلَفي، والتي ترى في نفسها بديلاً من حزب “البعث” لقيادة الدولة والمجتمع، جميعها مُعجبةٌ بتجربة “حزبٍ إلهيٍّ” حَوَّلَ فكرة استمرار النسل البشري إلى “خطّ إنتاج مَعمَليّ” ينفي الخصائص الإنسانية عن المواليد، ويرى فيهم “يَرقات” تنتمي لنوع من الكائنات الحية ذات الحياة القصيرة. “فدا السيّد”، “فدا القضيّة وآل البيت والصحابة والأنبياء وسوريا وفلسطين”، “لبيكَ يا …..”!.
ليستْ المفاضلةُ إذاً بينَ “طلائع البعث” و”شبيبة الثورة” و”الكشافة”، أو بينَ “أشبال الأسد” و”أشبال الخلافة”. بين تجنيد إجباريّ يُبرّرُ الانتهاكات، وبين جِهادٍ يُحدّد شكلهُ وكلاء الله على الأرض. المشكلة أكثر جذريّة. إنها في النظرة إلى الطفل بِعَينٍ ثالثة. بسَلبِ الإنسان خياراته قبلَ وبعدَ أن تتكوَّنَ لديه خيارات. باستثمار الكائن البشري في مجال ماديٍّ أو معنوي مثلما تُستثمر الأغنام والدجاج. بإحضاره إلى الدنيا في لحظة مَللٍ ومَلء فراغٍ تحت سقفٍ أو خيمة.
كثيرٌ منَ المفكّرين أنفقوا وقتاً وأعماراً للبحث في جوهر العمليّة الإنجابيّة، وطرحوا الأسئلة الصعبة في هذا المجال، وبعضُهم لم يتردّد في وَصف السلوكيات والأدوار التي تتسلّق على “الجنس الطبيعي” بأنها أشكال من “الشذوذ” تجعلُ التناسل وسيلةً لأهدافٍ أخرى، مع إقرارهم بأنّ في ذلك جانباً مفهوماً يعودُ إلى تطوّر الحياة ومفرزات حضارتها.
لا يُهمُّ هنا وَضعُ المسألة بفي عُهدة الأحكام الأخلاقية الجماهيرية، خصوصاً أنّ فكرة الأخلاق التقليدية باتت تتحلّل وتذوب في القانون، والعُرف، والحق والباطل، وقواعد النشر في “فايسبوك”، وصناعة “القُضاة” من محترفي التبليغ عن محتوى غير لائق.
والحال كذلك، فالأسلمُ عدم رفعِ الصوت أو فضح المنتهكين بالطرُق الرّدحية التي تُشيعها حالياً “جماعات وقادة التغيير”، المُدرّبون والمُدرّبات في خمسة أيام أو خمس ساعات، فهؤلاء يعتاشون على التأزيم وخلقِ وعيٍ عبثيٍّ مأزوم يُنتج أكداساً منَ “المُذنِبين” و”المفضوحين” و”المُعتذِرين” ضِمن دائرة مغلقة، ومن دون نتيجة ملموسة، سوى هيامٍ في عالم غير واقعي ينسف الدولة والقانون والمجتمع.
ربما يكون الأجدى تسمية الأمور بأسمائها ووضعها في سياقها. “أولادكم ليسوا لكم… أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها”. كَتَبها جبران خليل جبران في أحد أشهَر أعماله الأدبية “النبي”، وتحوّلت إلى مقولة عابرة للأزمنة في إشارة إلى قدسيّة النّسل، وضرورة أن يكون الأبناء منذورين لذَوَاتهم، لا لأهواءِ آبائهم وأمهاتهم.
وبينما يتكرّر استعمال هذه العبارة بنبرةٍ موسيقيّة حالِمة، لِمَ لا يتمُّ استبدال كلِمتيّ “أبناء الحياة” وما يليها بكلماتٍ أكثر واقعية تبعاً لكلّ موقف، لتوصيف الحالة بدقّة؟
“أولادكم ليسوا لكم… أولادكم أبناء الدولة التي تُقدّم إعانة ماليّة باسمِهم”. أو مثلاً “أولادكم ليسوا لكم… أولادكم أبناء الطاقة الفائضة التي تفرغونها حين تشعرون بالملل”. أو مثلاً “أولادكم ليسوا لكم… أولادكم أبناء الأحزاب والميليشيات والمشاريع السياسيّة والسلطويّة العظيمة”!
المدن