هكذا دمّرت الدعاية السورية المضادة أحد مؤسسي “الخوذ البيضاء”
قبل شروق الشمس بقليل في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، كانت إيما وينبرغ نائمة بعد ليلة مضطربة في مدينة إسطنبول التركية، لكنها استيقظت في ذلك الصباح على صوت طرقات قوية على باب منزلها، لتكتشف بعد لحظات زوجها، جايمس لو ميسورييه، مؤسس منظمة “ماي داي ريسكيو” البريطانية، وأحد مؤسسي فريق الدفاع المدني السوري الشهير “الخوذات البيضاء”، قتيلاً على الأرض تحت شرفة المنزل.
وتحدثت وينبرغ للمرة الأولى إلى الإعلام قبيل مرور عام على “انتحار” لو ميسورييه، في حديث مطول مع صحيفة “غارديان” البريطانية، واصفة اللحظات الأولى لاكتشاف جثة زوجها ورجال الشرطة الخمسة الذين أخبروها بما حصل، وكيف لم تستطع تغطية الجثة بغطاء رغم أنها كانت تستطيع رؤيتها عبر الباب: “كانت أسوأ لحظة في حياتي”.
بعد ساعات كان خبر وفاة لو ميسورييه ينتشر بسرعة ليصبح حديث الدوائر السياسية في إسطنبول وشمال سوريا قبل أن يصل الخبر إلى موسكو ولندن حيث حظي بشهرة واسعة. تم إطلاع كبار المسؤولين في العاصمتين، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، قبل الإفطار. كان الحدث خبراً عالمياً بتداعيات واسعة النطاق، خصوصاً أن جونسون التقى مع لو ميسورييه أثناء عمله كوزير للخارجية العام 2014، وبقي داعماً لعمل مجموعته غير الربحية.
وبحسب “غارديان”، كان لو ميسورييه منذ أواخر العام 2013، يساعد في تنسيق فرق المتطوعين في شمال غربي سوريا، حيث يتمركز معظم أولئك الذين عارضوا الديكتاتور المحلي بشار الأسد. كانت المنطقة بعيدة عن متناول رجال الإنقاذ التابعين للحكومة السورية، وبالتالي بدأ السكان المحليون من معلمين ونجارين ومدنيين بسطاء، بتنظيم أنفسهم في مجموعات لإخراج أفراد عائلاتهم وأصدقائهم وجيرانهم من تحت الأنقاض التي تخلفها الغارات الجوية العنيفة.
وهنا طلب بعض رجال الإنقاذ المساعدة من شركة “آرك” للاستشارات الإنسانية، ومقرها الإمارات العربية المتحدة، حيث كان لو ميزورييه يعمل. وكان الرجل يشعر بخيبة أمل متراكمة طوال عقد من الزمن أمضاه في الشرق الأوسط، واكتشف خلاله أن شركات الأمن الأجنبية ذات الميزانية الكبيرة، عملت على إثراء المقاولين الأجانب بدلاً من تمكين السكان المحليين. وكان يعتقد أن المنظمات المحلية التي يعمل بها مدنيون على الأرض يمكن أن تقدم المزيد من الأفعال الصالحة. ولهذا السبب وجد أن عمل فريق الدفاع المدني السوري الناشئ مناسب له تماماً، ولهذا استقال من عمله وانتقل للإقامة في تركيا.
والحال أن الفكرة نمت بسرعة، حيث كان لو ميسورييه الذي خدم كقائد في الجيش البريطاني خلال تسعينيات القرن الماضي، يساعد في تدريب رجال الإنقاذ المتطوعين وتأمين التمويل الدولي لعملهم. وفي أوائل العام 2014، أسس منظمة “ماي داي ريسكيو” (Mayday Rescue) كمؤسسة توجه المساعدات إلى رجال الإنقاذ، وجعلها شاغله الوحيد إلى حين وفاته.
وقالت “غارديان” أن المفهوم الذي أسسه لو ميسورييه أصبح بسرعة وكأنه “علامة تجارية”، ففريق “الخوذ البيضاء” مثلما بات يعرف في وسائل الإعلام، بدأ باستخدام كاميرات مثبتة على الرأس لتسجيل ما يحدث على الأرض، وانتشرت صور متطوعي فريق الدفاع المدني السوري وهم يتدافعون بين الأنقاض لإنقاذ الأرواح، ووصل صداها إلى أنحاء اعالم. وكانت صور إنقاذ الأطفال من تحت الأنقاض مثيرة للمشاعر حقاً، كما احتفل صانعو الأفلام ومشاهير العالم بجهود المنظمة، التي كانت ترعى نحو 200 فريق محلي في أنحاء سوريا، يتطوع فيها 4000 منقذ وطبيب، كما وفرت المنظمة شاحنات الإنقاذ وسيارات الإسعاف ومعدات الحفر.
وبحسب المعلومات المتداولة، تبرعت بريطانيا والدنمارك وألمانيا وهولندا وقطر وكندا بما مجموعه حوالى 30 مليون دولار في السنة، لصالح فريق الدفاع المدني السوري، بموازاة تعرض مئات آلاف المدنيين في شمال غربي سوريا لقصف عنيف وممنهج من قبل الطائرات السورية والروسية، علماً أنه بحلول منتصف العام 2015 كان نحو 500 ألف شخص قد فقدوا حياتهم بالفعل في الصراع، علماً أن أرقام القتلى ازدادت بشدة مع تكثيف الضربات الجوية الروسية في السماء السورية أواخر العام 2015.
وبينما كانت سوريا تتفكك، فإن دول العالم كانت تخشى من التدخل المباشر في البلاد كي لا تنجر إلى كارثة مشابهة لكارثة التدخل العسكري البريطاني الأميركي المشترك في العراق العام 2003، وبدا أن تمويل “الخوذ البيضاء” وسيلة خالية من المخاطر لتقديم المساعدة، وعليه أصبح التعاون بين الحكومة البريطانية ومنظمة “ماي داي ريسيكو” واحداً من التدخلات البريطانية العلنية في الحرب السورية. علماً أن عمل “الخوذ البيضاء” حاز على جوائز عالمية عديدة، بما في ذلك ترشيح المنظمة مرات عديدة لجائزة نوبل للسلام. وفي العام 2016 حاز لو ميسورييه على وسام رتبة الإمبراطورية البريطانية، وفي العام التالي فاز فيلم وثائقي عن “الخوذ البيضاء” من إنتاج “نتفليكس” بجائزة “أوسكار”.
لكن، بموازاة تنامي شهرة المنظمة، فإنها اجتذبت أيضاً أعداء أقوياء عازمين على تدمير سمعتها ومطاردة الأشخاص الذين يقفون وراءها. وكان التعامل مع وفاة لو ميسورييه قبل عام، على أنها جريمة قتل محتملة، منطقياً. خصوصاً أن الرجل وفريق “الخوذ البيضاء” كانا محوراً لحملة تضليل واسعة عبر الإنترنت خلال السنوات الأخيرة، قادها مسؤولون روس وسوريون، روجها المدونون المؤيدون للنظام السوري وشخصيات إعلامية من اليمين المتطرف يصفون أنفسهم كمعارضين للإمبريالية، من بينهم الكندية إيفا بارتليت والبريطانية بايلي والفرنسي بيار لوكوروف.
وليس من الصعب فهم الدوافع الكامنة وراء حملة العداء هذه، فالمنظمة الإنسانية كانت تعمل في مناطق سورية خارجة عن سيطرة النظام، وتساعد في إنقاذ ضحايا الهجمات المروعة التي قام بها النظام وحلفاؤه، وفي الوقت نفسه، فإن الصور التي كانت تبثها المنظمة قوضت رواية النظام وسرديته لما يجري في البلاد، وأظهرت أن النظام لا يقاتل الإرهابيين بقدر ما يقصف المدنيين في بيوتهم. ووصلت غارات الطيران على المناطق المدنية إلى مستويات غير مسبوقة منذ أيلول/سبتمبر 2015، عندما تدخلت روسيا في الحرب السورية بشكل مباشر لإنقاذ الأسد من الهزيمة. وكذبت اللقطات الحية للرجال والنساء والأطفال الذي يعانون من إصابات مروعة، المزاعم الروسية والسورية بأن حملتهم العسكرية لاستعادة محافظة إدلب وضواحي دمشق استهدفت فقط الإرهابيين الإسلاميين والمتعاطفين معهم.
وبحسب “غارديان”، نمت حملة التضليل الإعلامي بسرعة، وكان هدفها زرع الشكوك حول “الخوذ البيضاء” ونشاطهم التوثيقي للحرب السورية. ومع مرور الوقت، أصبح شمال غرب سوريا نقطة جذب للمتطرفين العازمين على استخدام الفوضى لشن جهاد عالمي. واستغل المروجون للبروباغندا الرسمية حالة التشويش الحاصلة على الأرض. وسرعان ما ظهرت مزاعم عبر الإنترنت بأن تنظيم “القاعدة” اخترق “الخوذ البيضاء” وأن التنظيم الجهادي استولى على الجماعة كطريقة بسيطة للحصول على أموال أجنبية. وبرزت أيضاً اتهامات بأن المجموعة أنشئت من قبل حكومات غربية متؤامرة لإزاحة الأسد من السلطة لأهداف استعمارية، بموازاة الحديث عن أن متطوعي “الخوذ البيضاء” يفتعلون الأزمات الإنسانية من أجل تشويه سمعة الكرملين ونظام الأسد على المستوى الدولي.
وتم الترويج لنظريات المؤامرة السابقة عبر الإعلام الرسمي السوري والروسي، بالإضافة لتوظيف “الأغبياء المفيدين” من الشخصيات الرائجة في “يوتيوب” و”تويتر” لبث هذه الاتهامات الكاذبة. وكان لو ميسورييه شخصياً هدفاً يومياً للتلفزيون الروسي الرسمي، حيث وصف بإنه إرهابي وجاسوس يمارس الجنس مع الأطفال ويتاجر بالأعضاء البشرية، من بين اتهامات أخرى. كما تم وصفه بأنه عميل للاستخبارات الغربية ويستخدم المنظمات الإنسانية كـ”حصان طروادة” من أجل تغيير الأنظمة السياسية المستقرة، ووصل الأمر حد التشهير به في مجلس الأمن التابع للأمن المتحدة، عبر لجنة شكلتها موسكو.
وكان الهدف هو تشويش الفضاء الإعلامي بأكاذيب من شأنها تقويض ثقة الداعمين لـ”الخوذ البيضاء” بالمنظمة، وخصوصاً الحكومات المانحة. وأثرت حملة التضليل بالفعل، على سمعة “ألخوذ البيضاء” والروح المعنوية لمتطوعيها. وفي أيلول/سبتمبر 2018، تحدث “لو ميسورييه” مع مراسل “غارديان” مارتن شولوف عن عن العبء المتزايد والتوتر النفسي الناجم عن حملة التضليل. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الجغرافيا السياسية للصراع السوري وطبيعة الحرب نفسها أكثر صعوبة من أي وقت مضى. حيث بات شمال غرب سوريا الركن الأعلى كثافة بالسكان في البلاد، لأن النازحين واللاجئين والهاربين من كافة المناطق استقروا هناك ضمن المجتمعات المحلية، التي تمركزت فيها أيضاً بعض الجماعات الإسلامية المتشددة. وأصبحت مسألة من يسيطر على إدلب جوهرية بالنسبة للحكومات التي أرادت توضيحاً بشأن اليد التي تتلقى منحها المالية.
وقال مدير البرامج السابق في “ماي داي ريسكيو” إيثان ويلسون أن المنظمة تعرضت طوال العام 2019 لضغوط متزايدة. وواجه الدبلوماسيون الذين يتعاملون مع المنظمة مزيداً من الأسئلة التي طرحها السياسيون حول كيفية ومكان إنفاق أموالهم. وكانت هنالك مخاوف من أن المنظمة لا تمتلك أنظمة وهيكلية كافية لمراقبة تدفقات التمويل والحسابات العديدة. وتم طلب إجراء تدقيق من قبل وزارة التنمية الدولية في الحكومة البريطانية أواخر العام 2018 وتم تسليمه في حزيران/يونيو 2019.
وفي الأسبوع الأخير من حياة لو ميسورييه، بلغ التوتر حده الأقصى. وفي 7 تشرين الثاني/نوفمبر، قبل أربعة أيام من وفاته، اجتمع مع فريق جديد من مدققي الحسابات، وبات يشعر بأنه يفقد السيطرة على “ماي داي ريسكيو”. وبات يفكر أن كل ما كان يعمل من أجله طوال سنوات، يواجه تحديات مفاجئة وصادمة بطريقة لا يمكن أن يفهمها. والأسوأ من ذلك، كانت سمعة مؤسسته وفريق “الخوذ البيضاء” على المحك. وصار يخشى أن يحكم عليه التاريخ بأنه الرجل الذي دمر الإرث الإنساني للفريق وعرض المساعدة للسوريين المحاصرين للخطر. وكان ذلك الضغط لا يطاق ودفعه للانتحار، تحت وطأة اتهامات ثبت أنها محض افتراءات كاذبة.
وفي مطلع العام الجاري، تم استدعاء الخبير الهولندي المخضرم كورنيليس فريسفيك (62 عاماً) لفحص الحسابات المالية لمنظمة “ماي داي ريسكيو” بناء على طلب المانحين الذين كانوا منزعجين من بريد إلكتروني أرسله لو ميسورييه لهم قبيل وفاته، وأثار فيه العيد من القضايل المالية. وكانت المنظمة تواجه أسئلة حول عمليات اختلاس محتملة قام بها لو ميسورييه وزوجته طوال سنوات، فيما كانت المعاملات المالية في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا، شديدة الصعوبة من ناحية التوثيق لكونها تجري بشكل نقدي وليس عبر معاملات بنكية. وكانت المنظمة الممولة من قبل عديد من الحكومات، كل منها مسؤولة أمام سياسييها، معقدة بما فيه الكفاية بشكل يترك أثراً على مستقبل المساعدات الإنسانية في سوريا عموماً.
وبحلول منتصف شهر آذار/مارس الماضي، بدأ كورنيليس يشك في سردية الاختلاس التي كانت شائعة حول المنظمة، وقال: “أصبح من الواضح تدريجياً أن هذه المزاعم لا يمكن أن تكون صحيحة”. وأضاف: “لم نتمكن من العثور على فلس واحد تم إنفاقه بصورة غير مبررة”، وأشار التقرير النهائي وتقارير أخرى مشابهة إلى نفس النتيجة مع انتقاد الهيكلية الإدارية والتنظيمية للمنظمة، التي جعلت هذه الاتهامات تنتشر في المقام الأول.
من جهته، قال إليوت هيغينز، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ”بيلينغكات”، وهي منظمة صحافة استقصائية ركزت على النفوذ الروسي في سوريا وأماكن أخرى: “جايمس، من دون أن يشعر أيقظ جيشاً. كان جوهر المحرضين ضده مجتمعاً هامشياً مناهضاً للإمبريالية، موجوداً بالفعل. وقامت روسيا برعاية هذا المجتمع تحت جناحها واستخدمت أفراده لبث معلومات كاذبة بشأن الخوذ البيضاء”، موضحاً أن التعامل مع أولئك النقاد كان صعباً “لأنه كلما تفاعلت معهم زاد عدد الأشخاص الذين يسمعون ما يقولونه”.
المدن
———————————–
كيف دمّرت حروب المعلومات المضلِّلة في سوريا حياة أحد مؤسّسي “الخُوَذ البيض”؟
ترجمة – The Guardian
خلال السنوات التي سبقت وفاة جيمس، أصبح هو ومنظّمة “الخوذ البيض” محورَ اهتمام حملة تضليل إلكترونيّة يقودها مسؤولون سوريّون ورُوس، ويروِّج لها مدوّنون موالون للأسد وشخصيّات إعلاميّة يمينيّة متطرِّفة …
في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وقبل شروق الشمس مباشرة على إسطنبول، استيقظت إيمّا وينبرغ من غفوة قصيرة على صوت طرقٍ مدوٍّ متكرّر على باب بيتها الحديديّ. تحسّست إيمّا بهلعٍ المساحة الفارغة بجوارها على السرير، بعيونٍ نصف نائمة. نهضت سريعاً وارتدت سروالاً على عجلٍ، وتعثّرت بالمصباح الذي بجوار السرير أثناء ركضها إلى المطبخ المجاور لغرفة النوم. قالت إيمّا، “لم يكن جيمس موجوداً هناك. وأدركت لحظتها ما حدث”.
نامت إيمّا لفترة قصيرة بعد ليلة مضطربة. وبينما كانت تغطّ في النوم، في حدود الساعة الرابعة والنصف صباحاً، رأت زوجها ينظر إليها وهو يقف بالقرب من نافذة غرفة النوم في شقّتهما التي تقع في الدور الثالث. وبعدما استيقظت فزِعة، توجّهت إلى البقعة التي كان يقف فيها، وكان فزعها يزيد مع كلّ خطوة تخطوها. تقول إيمّا، “نظرت إلى الأسفل وقلت لنفسي: شكراً يا إلهي، جيمس ليس هنا. ثم نظرت إلى اليسار”.
كان جيمس لو ميسورييه، الذي شارك في تأسيس “الخُوَذ البيض”، المنظّمة التي تكرّس جهودها لإنقاذ المدنيّين العالقين في الحرب السوريّة، يتمدّد عارياً في الأسفل وسط العتمة. وقد التفّ مصلّون كانوا في طريقهم لأداء صلاة الفجر، في جامع “قليج علي باشا” القريب، بصمتٍ حول جثّة الأجنبيّ الممدّدة على أرضيّة الزقاق المرصوف بالحصى. وتبعثرت الضمادات والأغلفة البلاستيكيّة التي خلّفها المسعفون وراءهم في موقع الحادث.
في مكان ليس ببعيد، كانت سفن الشحن المحمَّلة ببضائع تشقّ طريقها عبر مياه البوسفور التي بدت رماديّة اللون. ووقفت نوارس على حائط تراقب المشهد، بينما واصلت جموع المتفرّجين ورجال الشرطة ازديادها. حينها بدأت شمس الخريف تتسلّل ببطءٍ فوق الأفق.
وصلت إيمّا أسفل الدرج وهي تتعثّر، وفتحت أحد البابَين الأمنيَّين، وعندما همَّت بفتح الثاني هُرِع خمسة رجال شرطة إليها. أخبرَتني إيمّا راهناً في المرّة الأولى التي تحدّثت فيها علناً عن وفاة زوجها قائلة، “سمعتُ بعدها من شخص آخَر أنّني كنت أبكي وأردِّد: لا، لا، لا. أحضرتُ بطّانيّة لأنّني كنت أريد أنْ أغطّيه. كنت أستطيع رؤيته وأنا واقفة عند الباب، لكنّهم لم يسمحوا لي بلمسه. حاولتُ إقناعهم بأخذ البطّانيّة لوضعها عليه وتغطيته، لكنّهم رفضوا أيضاً، وأجبروني على الصعود إلى الأعلى. ثم بدأت بعد ذلك أسوأ لحظة في حياتي”.
سرعان ما انتشر خبر وفاة جيمس، وأصبح محورَ حديث الأوساط السياسيّة في إسطنبول وشمال سوريا. واستيقظ الناس في لندن وموسكو -حيث كان أكثر شهرةً- على تقارير وفاته بعد ساعتين من الحادثة. اطّلع أيضاً كبارُ المسؤولين في البلدَين، بينهم بوريس جونسون شخصيّاً، على الخبر قبل إفطارهم. كان هذا خبراً عالميّاً بتداعيات واسعة النطاق. التقى بوريس جيمس خلال زيارة سابقة قام بها بوريس إلى تركيا عام 2016 عندما كان وزيراً للخارجيّة، وظلَّ داعماً لعمله من ذلك الحين.
منذ أواخر عام 2013، كان جيمس يساهم في تنسيق فريق من المتطوّعين في شمال غربيّ سوريا، حيث يتركّز معظم المعارضين لحكم بشّار الأسد. كانت المنطقة خارج تغطية رجال الإنقاذ المدعومين من الدولة؛ ولهذا -وبدافع اليأس- بدأ سكّان المنطقة -من مدرّسين ونجّارين ومدنيّين آخرين- تنظيم أنفسهم وتشكيل مجموعات لانتشال أفراد أسرهم وجيرانهم من تحت الأنقاض بعد القصف الجوّيّ. وقد التمَس رجال إنقاذ المساعدة من مؤسّسة “أرك” Ark الدوليّة للاستشارات الإنسانيّة في الإمارات، التي كان يعمل جيمس فيها حينذاك. وبعد عشر سنوات في الشرق الأوسط، أصيب بخيبة أمل إزاء شركات الأمن الأجنبيّة ذات الميزانيّات الضخمة، التي شعر بأنّها تعمل على إثراء المتعاقدين الأجانب أكثر من سعيها إلى تمكين السكّان المحلّيّين. وتصوَّر أنّ المنظّمات ذات القواعد الشعبيّة، التي تتشكّل من مدنيّين يعملون على أرض الواقع، يُمكن أنْ تقدم أداءً أفضل بكثير. وبدا له أنّ عمل رجال الإنقاذ السوريّين المدنيّين مثاليّ للغاية. لذا استقال من “أرك”، وأخذ فكرة المشروع معه، وانتقل للعيش في تركيا.
سرعان ما كبرت الفكرة. وبدأ جيمس، الذي كان ضابطاً في الجيش البريطانيّ خلال التسعينات، يساعد على تدريب رجال الإنقاذ المتطوعين ويؤمّن التمويل الدوليّ لِعملهم. وأسّس في مطلع عام 2014 “مؤسّسة مِيْدِي للإنقاذ” Mayday Rescue Foundation، ويعني اسمها مؤسّسة “الاستغاثة للإنقاذ”، لتدريب المدنيّين المتطوّعين وتزويدهم بالمعدّات اللازمة، وجعلها شغله الشاغل خلال آخر خمس سنوات من حياته.
بعد فترة قصيرة تحولت الفكرة إلى منظّمة ذات اسم بارز. وبدأ المتطوعون في “الخوذ البيض” -كما باتوا يُعرَفون- استخدام الكاميرات المثبَّتة على الرأس لتسجيل ما كان يحدث على أرض الواقع. كان لصور المتطوعين السوريّين، الذين يرتدون خُوَذاً بيضاً عليها كشّافات ويضعون أقنعة واقية من الغازات، وهم يجاهدون وسط الأنقاض لإنقاذ الأرواح، وقعٌ كبير في جميع أنحاء العالم. واستطاعت مَشاهدُ الرضَّعِ الذين يُنتشَلون أحياءً من تحت أنقاض المباني المقصوفة والأطفالِ الذين يُنقَلون إلى سيّارات الإسعاف من وسط حطام المنازل المحترقة، أنْ تضع حدّاً لحالة التخاذل العامّ المحيطة بالحرب. احتفى صنّاع الأفلام والمشاهير وزعماء العالم بمجهودات “الخوذ البيض”. كانت المنظّمة، في أوجها، تُموِّل 200 فريق في مختلف أنحاء سوريا، بإجمالي 4 آلاف رجل إنقاذ ومُسعِف، مع توفير شاحنات إغاثة وسيّارات إسعاف ومعدّات حفر أيضاً.
انهالت الأموال على المنظّمة، إذ تبرَّعت بريطانيا والدنمارك وألمانيا وهولندا وقطر وكندا بمبالغ وصل مجموعها إلى 30 مليون دولار سنويّاً، عندما كانت الطائرات الروسيّة والسوريّة تقصف مئات آلاف الأشخاص في شمال غربي سوريا. فقد وصل عدد القتلى في الصراع إلى حوالى 500 ألف شخص في منتصف عام 2015. وارتفعت هذه الأرقام في أواخر العام نفسه عندما تكثّفت الغارات الجوّيّة الروسيّة. ومنذ ذلك الحين وعدد القتلى آخذ في الارتفاع.
كانت سوريا تنهار بالكامل، في كارثة عالميّة أخرى أعقبت الغزو الأميركيّ-البريطانيّ المشترَك للعراق والإخفاقات الجسيمة التي حدثت خلاله، والتي لطّخت سمعة الحكومة البريطانيّة (ودفعتها للاعتذار لاحقاً). بَدَا أنّ تمويل “الخوذ البيض” يُمثّل وسيلة مساعدة مأمونة خالية من المخاطر للدول التي لا ترغب في التدخّل عسكرياً. لذا أصبح تعاوُن الحكومة البريطانيّة مع “ميدي” من التدخّلات المعروفة القليلة التي قامت بها بريطانيا في الحرب السوريّة.
حصد عمل “الخوذ البيض” لاحقاً أوسمةً وجوائز عالميّة. ورُشِّحت المنظّمة أكثر من مرّة لنيل جائزة نوبل للسلام. وعام 2016، حصل جيمس على وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة برتبة ضابط “لحمايته المدنيّين في سوريا”. ثمّ في العام التالي، فاز وثائقيّ “الخوذ البيض” الذي أنتجته “نتفلكس” بجائزة أوسكار. لكن مع تعاظم شهرة المنظّمة دوليّاً، اجتذبت أيضاً أعداءً أقوياء كانوا مصمِّمين على تشويه سمعتها ومطاردة مَن يقفون خلفها.
وبَينما كان خبراء الطبّ الشرعيّ يُشرِّحون جثمان جيمس، وصل مزيد من رجال الشرطة إلى مقرّ “ميدي”، الذي يقع في الطبقة الثانية من البناية التي كان جيمس يسكن فيها؛ وسرعان ما عجَّ المكان بالمسؤولين. في الدور العلويّ، الثالث، كان المحقِّقون يباشرون العمل مع إيمّا، فقد أخذوا بصماتها وعيِّنات من حمضها النوويّ، وعامَلوها كمشتبهٍ بها في جريمة قتل. في الطرف الآخَر من المدينة، حيث يقع مقرّ منظّمة “الخوذ البيض” ومكاتبها، استيقظ الموظّفون على الأخبار المروِّعة التي تتحدّث عن وفاة جيمس. وكذلك كان الحال على الإنترنت، حيث طُعِنَ في عمل المؤسّسة -وعمل جيمس نفسه- منذ اللحظة الأولى لتأسيسها.
عام 2016، حصل جيمس على وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة برتبة ضابط “لحمايته المدنيّين في سوريا”. ثمّ في العام التالي، فاز وثائقيّ “الخوذ البيض” الذي أنتجته “نتفلكس” بجائزة أوسكار
خلال السنوات التي سبقت وفاة جيمس، أصبح هو ومنظّمة “الخوذ البيض” محورَ اهتمام حملة تضليل إلكترونيّة يقودها مسؤولون سوريّون ورُوس، ويروِّج لها مدوّنون موالون للأسد وشخصيّات إعلاميّة يمينيّة متطرِّفة ومَن يصفون أنفسهم بأنّهم معادون للإمبرياليّة. فمع اتّساع رقعة عملهم في سوريا، أصبحت المجموعة واحدة من أكثر المؤسّسات في العالم التي تتعرّض لحملات تشويه السمعة والتمحيص الدقيق.
كان الدافع وراء ذلك واضحاً. فهذه مجموعة تعمل حصراً في مناطق سوريّة تخضع لسيطرة المعارضة، وتساعد في إنقاذ ضحايا الهجمات التي ينفّذها أنصار الأسد. في الوقت ذاته، قوَّضت مشاهد عمليّات الإنقاذ سرديّة النظام وحشدت تعاطفاً إنسانيّاً كبيراً مع ضحاياه. اعتبر النظام أنّ هذه استفزازات لا تُغتفَر.
التدخل الروسي
بدءاً من أيلول/ سبتمبر 2015، عندما تدخّلت روسيا في الحرب لدعم الأسد والحيلولة دون هزيمته، وصلت الغارات الجوّيّة على الأحياء المدنيّة إلى مستويات غير مسبوقة. وأظهرت المشاهدُ الواضحة للرجال والنساء والأطفال المصابين بإصابات مروِّعة كذبَ ادّعاءات الأسد والروس أنّ حملتهم لاستعادة السيطرة على محافظة إدلب وريف دمشق لا تستهدف سوى “الجماعات الإسلاميّة الإرهابيّة” والمتعاطفين معهم، بل أكّدت، مثلما تُظهِر مقاطع الفيديو المسجَّلة، أنّهم كانوا يقصفون الأحياء المدنيّة قصفاً عشوائيّاً.
سرعان ما تضخّمت حملة التضليل، وكان هدفها إثارةَ الشكوك حول منظّمة “الخوذ البيض” والصور التي تسجلها. مع تطوّر الحرب، بات شمال غربي سوريا مرتَعاً للإسلاميّين المتطرّفين العازمين على استغلال الفوضى لتدشين فكرة “الجهاد العالميّ”. استغلّ مروِّجو حملات البروباغندا الارتباكَ على أرض الواقع؛ وبعد فترة وجيزة انتشرت مزاعم على الإنترنت بأنّ “الخوذ البيض” أصبحت مخترَقة من تنظيم “القاعدة”، الذي يزعم أنّه استولى على المجموعة كوسيلة للحصول على تمويلها الأجنبيّ. انتشرت اتّهامات أيضاً بأنّ المنظّمة أسستها حكومات عقدت العزمَ على الإطاحة بحكم الأسد، وأنّ المتطوِّعين في “الخوذ البيض” كانوا “ممثِّلي أزمات” يفبركون مشاهد تمثيليّة لتشويه سمعة روسيا وسوريا.
أفسحت وسائل الإعلام الروسيّة والسوريّة المجالَ لبعض المغفّلين المُفيدين الذين يروِّجون نظريّات المؤامرة تلك على “يوتيوب” و”تويتر” ومواقعهم الشخصيّة الهامشيّة، ومنحتهم تغطية جذّابة. كان جيمس نفسه هدفاً لسلسلة شبه يوميّة من الهجمات الروسيّة التي ترعاها الدولة على التلفزيون الرسميّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، والتي وُصِف خلالها بافتراءات كثيرة ملفَّقة كالإرهابيّ والجاسوس والمُتحرِّش بالأطفال ومهرِّب الأعضاء. سموه أيضاً “عميل الاستخبارات الغربيّة”، الذي يستخدِم مؤسّسة إغاثيّة وسيلة خفيّة لتغيير النظام. بل إنّ تلك الاتّهامات وصلت إلى مجلس الأمن الدوليّ خلال اجتماع مغلَق دعت إليه موسكو.
كان الهدف هو إغراق جميع المنافذ الإعلاميّة بالأكاذيب لزعزعة الثقة في أوساط داعمي المنظّمة، بخاصّة الحكومات المانحة. وبالفعل آتَت هذه الاستراتيجيّة ثمارَها في ما يتعلّق بسمعة “الخوذ البيض” وأخلاقيّات المتطوِّعين فيها والداعمين لها ونزاهتهم. في أيلول 2018، عندما التقيتُ جيمس للمرّة الأولى، تحدَّث معي عمّا تسبِّبه له حملة التشويه تلك من إرهاق وإجهاد. ومنذ ذلك الحين أتابع قصّته عن كثب.
خلال السنوات القليلة الماضية، اتّسمت الطبيعة الجيوسياسيّة للصراع السوريّ، وطبيعة الحرب ذاتها، بتحدّياتٍ كبيرة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. فقد بات شمال غربيّ سوريا هو المنطقة الأكثر كثافةً سكّانيّة في البلاد بأسرها، والتمس المُهجَّرون المشرَّدون من جميع المناطق ملاذاً آمِناً لهم وسط سكّان المنطقة الأصليّين. وجدت أيضاً جماعات إسلاميّة متشدِّدة طريقَها إلى المنطقة واتّخذتها مقرّاً لها. وعلى نحو متزايد أصبح التساؤل حول مَن يسيطر على إدلب -المحافظة التي كانت “الخوذ البيض” تنتشر فيها أكثر من أيّ منطقة أخرى- يشغل الحكومات المانحة، التي طالبت بتوضيح الجهات التي تذهب مساعداتهم الماليّة إليها.
قال إيثان ويلسون، مدير البرامج السابق في “ميدي”، “أصبح الوضع على الأرض أكثر تعقيداً. فبين عامي 2017 و2019، أدّت عوامل مُجتمعة تتمثّل في النفور العالميّ المتزايد من سوريا، وحملة التضليل الروسيّة، وتزايُد سياسات اليمين المتطرِّف الانعزاليّة والارتيابيّة في الغرب، إلى التدقيق الشديد في أوضاع المؤسّسات الإغاثيّة أكثر ممّا كان الحال عليه في عامي 2015 و2016”.
طيلة عام 2019، كانت “ميدي” تتعرّض لضغوط متزايدة. فقد واجه الديبلوماسيّون الذين يتعاملون معها أسئلة كثيرة للغاية من السياسيّين تتعلّق بكيفيّة إنفاق أموالهم والجهات المستفيدة منها. أصبح من الضروريّ التدقيق في كلّ قرش من أموال المانحين، وأُثيرت مخاوف من أنّ “ميدي” لا تمتلك النظم والهياكل المناسبة لمراقبة حساباتها ومصادر تمويلها الكثيرة. وفي أواخر عام 2018، طالبت وزارة التنمية الدوليّة في بريطانيا -التي كانت وقتها الدائرة الحكوميّة المسؤولة عن إدارة المساعدات الخارجيّة- بإجراء مراجعة للحسابات، سُلّمت في حزيران/ يونيو 2019.
في الأسبوع الأخير من حياة جيمس، تصاعدت حدّة التوتّر الذي مرّ به لسنوات. ففي السابع من تشرين الثاني، وقبل أربعة أيّام من وفاته، اجتمع مع فريق جديد من المُراجِعين في اجتماعٍ مصيريّ. وكان قد ابتعد خوفاً من أنّه بشكلٍ ما فقدَ السيطرة على “ميدي”. ففي ذهنه كان كلّ ما عمِل من أجله على وشك أنْ يُواجه تحدّيات مفاجئة وصادِمة بأساليب عصيّة على الفهم. الأسوأ من ذلك أنّ سمعةَ منظّمته، إضافةً إلى “الخوذ البيض”، بدَت على المحكّ. وقد خشِي أنْ يحكم عليه التاريخ أنّه كان الرجل الذي دمّر ميراثها، وعرَّضَ المساعدات المقدَّمة إلى السوريّين المُحاصرين للخطر. وعند وفاة جيمس، أو ما يعتقد أصدقاؤه وأسرته والشرطة التركيّة أنّه كان انتحاراً، كانت الضغوط النفسيّة التي تعرّض لها أصبحت لا تُطاق.
مثّلت حياة جيمس لو ميسورييه ووفاته قصّة إنسانٍ أصبح كبشَ الفداء ومحورَ النقد في حرب السرديّات حول الصراع السوريّ؛ فهو إنسان ساهم في بناء إحدى أبرز المجموعات خلال الحرب السورية، وأصبح من حيث لا يدري شخصيّةً محوريّة في حرب المعلومات العالميّة الدائرة على أنقاض النظام العالميّ المنهار. وهي أيضاً قصّة انهيار منظّمة أدارت إحدى أنجح محاولات التدخّل التعاوُنيّة لتقديم الدعم في الآونة الأخيرة، وتحكي أيضاً كيفيّة انهيار جيمس في أيّامه الأخيرة تحت وطأة حِملٍ من المزاعم التي ثبت لاحقاً كذبها.
حين وصل كورنيليس فريسفيك إلى إسطنبول في الأسبوع الثاني من كانون الثاني/ يناير 2020، لم تكن لديه فكرة عمّا عليه توقّعه. كان كورنيليس، المخضرَم في مجال الأعمال في هولندا، قد اشتُهر بإنقاذ الشركات الواقعة في ضوائق ماليّة. وعلى مدار مسار مهنيّ طويل في قطاع الشركات، صار كورنيليس نسخةً لقطاع التمويل من مستر وولف في فيلم “خيال رخيص” Pulp Fiction، وهو شخص يمثّل وجهة مَن يبحثون عن حلٍّ لأكثر المشكلات تعقيداً. بدَت هذه المهمّة ملائمة تماماً لكورنيليس.
درج
—————————-