حياة دلال العالقة بين صفعتين/ سامر مختار
كانت قوائم المعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب في السجون السورية، والتي بدأ النظام الإعلان عنها تباعاً في شهر تموز/ يوليو الماضي، بمثابة صدمة لآلاف العائلات التي كانت تنتظر أن يخرج ذووها من المعتقلات على قيد الحياة.
حملت القوائم أسماء كانت معروفة في الحراك السلمي في الشهور الأولى من الثورة السورية، كان أبرزها الأخوين معن ويحيى شربجي، اللّذين قادا الحراك السلمي في مدينة داريا في دمشق.
ومن لم يجدوا أسماء ذويهم في القوائم، ذهبوا قابضين على قلوبهم، إلى مكاتب السجل المدني، ليتأكدوا إن كان أبناؤهم أو أزواجهم ما زالوا على قيد الحياة.
هكذا ذهبت دلال، سيّدة من حي جوبر الدمشقي، لكي تتأكّد إن كان زوجها المعتقل منذ عام 2012 ما زال على قيد الحياة. وكان من حسن حظي أن عرفت دلال وزوجها وعائلتهما عن قرب، خصوصاً دلال، التي تمتدّ صداقتي معها مذ كنّا صغاراً وحتى الآن.
ما زلتُ إلى اليوم أذكر وأنا في الثانية عشرة، عندما دخلتُ غرفتي، وبكيتُ لمدة ساعتين تقريباً، بعد سماعي خبر إعلان خطوبة دلال ابنة الجيران. كانت دلال تكبرني بـ8 سنوات، وكانت في العشرين من عمرها عندما تمت خطوبتها من شاب وسيم، اسمه عزّام.
كانت عائلة دلال بمثابة امتداد لعائلتي، وبشكل أدق، كانت عائلتي الروحية، خصوصاً دلال ووالدتها سهام. لم يكن يبعد بيت دلال من بيتنا الكائن في حي جوبر الدمشقي سوى ثلاثين متراً. كنت أزورها بشكل شبه يومي، أحبتني منذ أن كان عمري 5 سنوات، وكانت قد قرّرت أن تلعب دور الأم الثانية لي، أمّ في مشاعرها، وصديقة مخلصة بروحها.
عادات كثيرة اكتسبتها من خلال صداقتي لدلال وقتها، منها ادّخار المصروف اليومي. كنت آخذ وقتها مصروفاً يومياً يتفاوت – بحسب تقلّب أحوالنا المادية- ما بين 5 ليرات في أيام التقشّف، و10 ليرات في أيام الوفرة، أمّا دلال فكانت تأخذ 10 ليرات ثابتة من أبيها، بالإضافة إلى 50 ليرة تنتظرها نهاية كل شهر من أكبر إخوتها وليد الذي يعمل نجّاراً، ويملك ورشةً بجانب بيتهم.
لم نكن ندّخر لأجل مستقبل بعيد، بل كنا ندّخر مصروفنا حتى نهاية الأسبوع فقط، من أجل سهرة يوم الخميس. كانت أشدّ لحظاتنا سعادة هو إنفاق 50 ليرة على شوكولاتة من ماركة «داماس»، وبسكويت من ماركة «سبال»، وأكياس الشيبس ماركة «ديربي»، ونأكلها فيما نشاهد البرنامج الغنائي «ما يطلبه الجمهور» على القناة الأولى، ومن بعدها ننتظر فيلماً أجنبياً على القناة الثانية.
***
في محيط اجتماعي اكتملت فيه طبقات القسوة، لا يخلو من لمسات حنان خفيفة لا يعوّل عليها، نشأت دلال وعاشت، مثل كثيرات من إناث مجتمعها. فتاة رقيقة، مرهفة المشاعر، حنون، جميلة، وجهها ناصع البياض، شعرها أسود، ناعم، طويل، تربطه على شكل ضفيرة كل يوم صباحاً، قبل ذهابها إلى المدرسة. لكن أكثر ما يميّزها هو ضبط إيقاع ملامحها، خصوصاً تلك الابتسامة المرتبكة، المتوجسّة أثناء مواجهة كمّ هائل من الذكور في محيط حياتها، والذين بدورهم لا يعبّرون عن ودّهم، إن كان من ناحية الأخوة، أو ممّن تحتكّ بهم في عالمها الخارجي، في المدرسة والشارع ومع بعض الأقارب من الشباب.
عندما كانت دلال في الصف السادس الابتدائي، عادت في أحد الأيام من المدرسة، وعلى خدّها الأيسر علامة يد حمراء، تشير إلى أن أحدهم صفعها بكف يده اليمنى بقوة، وفي موعد الغذاء الذي يتزامن مع موعد انصراف الطلاب من مدارسهم، دخل وليد البيت، ليرى أخته دلال ما زالت في ثياب المدرسة، جالسةً على مصطبة ارتفاعها نصف متر في فسحة البيت السماوية، وحيدةً، تبكي. سألها: «شبك وشبو وشّك؟» أجابته: “طالب معي بنفس الصف، ضربني كف قوي على وشي.
-وليش ما شكيتيه لمدير المدرسة أو الموجّه؟؟
– اشتكيته، بس المدير ما عمله شي”.
في صباح اليوم التالي، رافق وليد أخته دلال إلى المدرسة، وهو بثياب العمل، المغبرة حيث قشور الخشب الملتفّة بشكل حلزوني، «النشارة» التي تبدو من بعيد كنقاط الثلج. كانت المسافة التي تفصل بين منزل عائلة دلال ومدرسة ابن الهيثم الابتدائية في حي جوبر الدمشقي، 300 متر فقط.
دخل وليد برفقة دلال إلى مكتب مدير المدرسة، وتمّ استدعاء الولد الذي صفع دلال إلى المكتب. وبعد خطاب التوبيخ والتحذير الذي وجّهه المدير إلى الولد وإجباره على الاعتذار من دلال، وجّه وليد تهديداً للولد: «سماع ولاه. إذا بتمد إيدك عليها مرة تانية بتعرف شو رح اعمل فيك؟ أنا نجار وعندي منشار كهربا. المرّة التانية رح انشرلك ايدك عليه» ومن ثم نظر وليد إلى المدير – الذي ما زال مذهولاً من جرأته- وقال له: “أنا عم أحكي جد أستاذنا. إذا حدا بيمد إيده على دلال رح علموا الأدب عندي بالورشة”.
***
كبرت دلال ولم تكمل تعليمها وتقدّم لخطوبتها عزّام الذي كان يعمل نجّاراً. أكمل دراسته حتى مرحلة الثانوية، وقضى عامين في الخدمة العسكرية، كانا من ضمن فترة الخطوبة، إذ كان يزور عروسه في الإجازات. عمل عزّام في أكثر من ورشة نجارة، أحب المهنة بشغف فنّان، وبالفعل كان لديه طموح فنّان في تلك المهنة، لم يكن يملك ورشته الخاصة بعد ومع ذلك كان باستطاعته أن يحصل على راتب جيد في أي ورشة نجارة يدخلها، نظراً إلى احترافه. وكان باستطاعته ابتكار تصاميم جديدة لغرف نوم، وطاولات طعام، ومكتبات، ومطابخ. هذا عدا اطّلاعه على أحدث التصاميم العالمية. وبعيداً من النجارة، كان يتقن اللغة العربية إتقاناً يخوّله امتهان مهنة مدرس لغة عربية. بعد أن توطدت علاقتي به، بات يساعدني في دراسة القواعد النحوية والإملائية في أيام الامتحانات عندما كنت في المرحلة الإعدادية.
بعدها، تزوّجا، وأنجبت دلال طفلين، بنت وصبي. وفي تلك السنوات، تعمّقت صداقتنا أنا وعزّام. لم تكن الاهتمامات المشتركة كثيرة بيننا، باستثناء النكات التي لا تنتهي وأفلام السينما التجارية التي كنّا ندمنها، كسلسلة أفلام بات مان «الرجل الوطواط» بقديمها وحديثها، وفيلم «ماتريكس» بأجزائه الثلاثة، وأفلام أكشن وخيال علمي لا تُعدّ ولا تحصى. وأدركت وقتها أن عزّام لا يريد شيئاً من الحياة سوى أن يكون رجلاً ناجحاً في مهنة النجارة، وأن يملك ورشته الخاصة، وسيارة أو سيارتين، واحدة ماركة «جاكوار»، والثانية «بي أم» نظراً إلى عشقه اللامحدود لعالم السيارات.
لا أذكر في كل الأوقات التي قضيتها مع عزّام أنه فتح موضوعاً سياسياً، أو أبدى لي مثلاً اهتماماً بـ«وضع البلد»، حتى إن حياته اليومية لم تكن لتسمح، وكيف تسمح، وهو يقضي أيامه ما بين العمل في ورشة النجارة، ومن بعدها الذهاب إلى سوق الأقراص والأسطوانات المحتوية فيديوات وبرامج للكومبيوتر وأفلاماً، في شارع البحصة وسط مدينة دمشق… ومن بعدها يتمشّى إلى سوق الحرامية، ليمرَّ عند بائع المجلّات والصحف القديمة والنادرة، ليشتري مجلات متخصّصة بعالم السيارات، بسعرٍ رخيص، وينهمك بقراءتها في أوقات الفراغ.
بالتزامن مع بداية الثورة السورية، كان عزّام مشغولاً في ثورته الخاصة غير عابئ بما يحدث في البلد. استطاع أن يشتري آلات نجارة بسيطة، ويستأجر محلاً، ليصبح لديه ورشة نجارة صغيرة في منطقة طيبة في حي جوبر الدمشقي، ويحقّق أولى خطواته في طريق طموحه الشخصي.
***
في بداية عام 2012، ستزداد حدّة الاشتباكات ما بين النظام السوري، وفصائل من الجيش الحر آنذاك الذي كان منتشراً في أكثر من منطقة في ريف دمشق، وكان الخط الفاصل للاشتباكات وقتها، جسر زملكا الذي يفصل ما بين حي زملكا حيث تتمركز فصائل الجيش الحر، وجيش النظام الذي تتمركز قوّاته من على جسر زملكا، ومن تحته من جهة حي جوبر.
أما الحادثة التي قرّر بعدها النظام معاقبة أهالي حي جوبر الدمشقي عقاباً جماعياً، فكانت في عيد الفطر آنذاك، إذ قام الجيش الحر في ثالث أيام العيد، باغتيال أحد ضباط جيش النظام في حي جوبر، وفي الوقت ذاته، نجح مجنّد من جيش النظام، كان متمركزاً على الحاجز العسكري على جسر زملكا، في الانشقاق والهروب إلى حي جوبر، وأهالي الحي خبّؤوه في أحد البيوت، لتأتي الأيام التي أعقبت عيد الفطر حافلة بالاعتقالات الجماعية والعشوائية. كان عزّام وقتها في ورشته الجديدة، منهمكاً في عمله، عندما قامت قوّات الأمن والمخابرات باعتقاله.
***
وكما تلقّت دلال صفعة على خدّها الأيسر في طفولتها، تلقّت خبر اعتقال عزّام كصفعة سيدوم ألمها، وسيحفر أثرها في الذاكرة، لدرجة أنها ربّما نسيت صفعة زميلها في المدرسة. إنها صفعة وجّهت مباشرة إلى القلب.
لم أستطع لقاء دلال وقتها، كنت خارج حي جوبر، وكانت طائرات النظام قد بدأت قصف الحي، ونزح عدد كبير من الأهالي، كان من بينهم عائلتي، وعائلة دلال، ومن بعدها خرجت دلال مع طفليها، وعائلة زوجها هرباً من القصف أيضاً.
في ذلك الوقت، كانت انتهت أيضاً رفاهية أن تبكي من تحبّهم في غرفة مغلقة. كنت أنا وعائلتي المكوّنة من 8 أفراد، نازحين في بيت مكوّن من 3 غرف، وكل غرفة تقيم فيها عائلة مكوّنة من 8 أو 7 أفراد. كانت الدموع تنهمر أمام الجميع، أمام الأب والأم، والأخوة والأخوات، أمام الأصدقاء وفي الشوارع غير الآمنة وفي زحمة الانتظار في مواقف حافلات النقل العامة.
مات والد عزّام بعد مضي عامين على اعتقال ابنه، مات قبل أن يصله خبر عن ابنه يؤكّد إن كان حيّاً أم ميتاً. وبعد 3 أعوام، خرج أحد الشباب المعتقلين من معارف عائلة عزّام من سجن المزّة العسكري، وأخبر أخوته، أنه موجودٌ هناك، وبعد مضي 5 أعوام، تواصل الأخوة مع أحد الضباط، ليقول لهم بكل برودة إنه مات، وعند سؤال ضابط آخر، أكّد لهم إنه ما زال حيّاً.
تبلغ دلال من العمر اليوم نحو 38 سنة، هي أم لطفلين، وزوجها عزّام معتقل منذ عام 2012. ذهبت هي أيضاً مثلها مثل كثيرين ممّن يريدون أن يعرفوا مصير ذويهم في مكاتب السجل المدني.
أخبرها الموظف أن عزّام ما زال «موجوداً»، أي أنه ولحسن حظه، لم يمت بـ«سكتة قلبية»، أو تحت التعذيب.
درج