للمرة الأولى منذ انطلاقة الثورة السورية العام 2011، تصل المظاهرات إلى ساحة الأمويين وسط العاصمة دمشق. المختلف هذه المرة أن المظاهرة التي دعي إليها، الثلاثاء، لم تكن تطالب بإسقاط النظام أو بإصلاحات ديموقراطية، بل رفعت صور الرئيس بشار الأسد، وطالبت فقط بدورة تكميلية لطلاب الجامعات في البلاد.
اعتقال الطلاب الذين شاركوا في المظاهرة كان أمراً حتمياً، فالنظام السوري حذر عبر صفحاته التشبيحية من التظاهر بوصفه فعلاً غير مرخص، كما أصدر بيانات رسمية خلال الفترة الماضية، بشأن الدورة التكميلية. فيما حرضت وسائل إعلام رسمية وعشرات الصفحات والحسابات الموالية للنظام ضد الطلاب المطالبين بالدورة بوصفهم خائنين وناكرين للجميل، لاعتبارات تخص الخدمة العسكرية الإلزامية.
المثير للدهشة فعلاً، هو الدعوات للتظاهر وإيمان موالين للنظام السوري وغيرهم ممن يعيشون تحت حكم النظام، بإمكانية التعبير عن آرائهم بهذه الطريقة الديموقراطية. ويشعر المتابع لمشهد قمع المظاهرة والدعوات إليها والتحرك النشيط عبر مواقع التواصل خلال الأسابيع الأخيرة، بأن أولئك الطلاب يصدقون فعلاً دعاية النظام المتكررة بأن هنالك ديموقراطية في سوريا وأن التعبير السلمي عن الرأي والتظاهر وغيرها، حقوق يكفلها الدستور السوري.
لا يهم هنا الموقف السياسي لأولئك الطلاب، الباحثين على الأغلب عن فرصة نجاة من الخدمة العسكرية الإلزامية، على اعتبار أن عدم حصول الدورة يعني انتهاء الحياة الجامعية لآلاف الطلاب وبالتالي إلزامهم بالالتحاق بجيش النظام حسب القوانين المتبعة في البلاد. ويقدر ناشطون عدد الطلاب المهددين بالخدمة العسكرية بنحو 96 ألف طالب جامعي. علماً أن المشكلة بدأت بعد قرار وزارة التعليم العالي في 18 آب/أغسطس بإلغاء الدورة التكميلية لطلاب الجامعات السورية، باستثناء طلاب سنة التخرج ممن يحملون أربعة مقررات فقط، وذلك بحجة أن “وضع الجامعات في سوريا عاد إلى ما كان عليه قبل الحرب”.
والحال أن صفحات موالية مثل “دمشق الآن” قادت حملة مكثفة لتخوين الطلاب، من قبل الدعوة للمظاهرة أصلاً، وتم وصفهم بالخونة والتلاعب بالقوانين والاستهتار بدم الشهداء والتهرب من خدمة الوطن وصولاً للقول أنهم يثيرون البلبلة التي يستفيد منها “أعداء سوريا”، فيما قالت صفحات مثل “سيريا تودي” الموالية أن على الطلاب “الشعور بالخجل” لأن الدورة التكميلية هبة من القيادة وأنها “ليست حقاً مكتسباً للمطالبين بها من الكافتيريات، بينما يرابط جنودنا على أحلامهم بالعودة مكللين بالنصر إلى بيوتهم وأهلهم”!
على أن هذا الضخ الرسمي أدى لزخم مماثل لدى الموالين للنظام أنفسهم، من الأشخاص العاديين، الذين شاركوا في عملية التشبيح ضد الطلاب “الخونة”، مطالبين بـ”شحطهم” إلى معسكرات التجنيد في منطقة الدريج. فيما طالب آخرون بتعذيب الطلاب من الفتيات والشباب على حد سواء قبل إرسالهم للخدمة العسكرية وجعلهم مثالاً لكل من يحاول تحدي السلطات!
ويحاول إعلام النظام ومؤسساته المختلفة هنا الاستمرار في الترويج لفكرة انتهاء الحرب في البلاد وعودة الحياة لطبيعتها بعد سنوات “الحرب”. طبعاً هذا المنطق لا يعترف بوجود الثورة السورية أصلاً ويراها مجرد مؤامرة على البلاد. ولعل المشهد في ساحة الأمويين واعتقال 30 طالباً “تجرؤوا” على “تحدي السلطات”، يصبح دليلاً قاطعاً على أن البلاد ليست بخير وأن النظام أيضاً ليس قوياً مثلما كان قبل العام 2011.
يستند ذلك إلى حقيقة استحالة تخيل مظاهرة مماثلة من هذا النوع وسط العاصمة قبل الثورة السورية التي كسرت حاجز الخوف مع النظام من جهة، وأدت لخطاب مختلف لدى النظام حول الحريات في البلاد من جهة ثانية، وبغض النظر عن كون الخطاب مزيفاً وكاذباً إلا أن وجوده شجع الطلاب في النهاية على المطالبة بحقوقهم الأساسية، مدفوعين باعتقاد خاطئ أن النظام قابل على تحقيق تلك المطالب طالما أنها لا تمس المحظورات السياسية، ولعل من سخرية القدر هنا أن يمتلك الموالون للنظام الجرأة للتعبير عن أرائهم بهذه الطريقة بسبب الثورة السورية التي قام بها المعارضون في الأساس.
والحال أن خطاب النظام لا يستطيع تمييز تلك التغييرات في المجتمع السوري ويراهن كما هو واضح على حكم البلاد بقبضة حديدية مثلما كان عليه الحال خلال ثمانينيات القرن الماضي. كما أن النظام يثبت بشكل قاطع، شموليته وعدم قابليته للتغيير نحو الديموقراطية، بإصراره على أن الإصلاح أو الاستجابة للطلبات الشعبية يجب أن تكون هبة من الأعلى للأسفل، من دون الاستماع للشعب السوري، أو فئة الموالين منه فقط، ولعل ذلك كان السبب الأول للثورة السورية من الأساس.
يمكن الاستدلال على ذلك، من أن مطالب الطلاب بدأت أصلاً بشكل منشورات وتعليقات في صفحة “رئاسة الجمهورية السورية” تناشد الرئيس بشار الأسد بوصفه “أباً وقائداً للمجتمع” من أجل مساعدة الطلاب عبر مرسوم رئاسي يعطيهم الحق في الدورة التكميلية، وصولاً لمناشدة مفتي النظام، أحمد بدر الدين حسون، من أجل إيصال المطلب للأسد شخصياً، وانتهاء برفع صور الأسد في المظاهرة نفسها.
ويجب القول أن حفاظ الموالين على موقفهم السياسي الداعم للنظام يجعلهم يفرّقون بين النظام السياسي وبين الحكومة بشكل غير مفهوم، وهو ما يمكن وصفه باللغز الأكبر ضمن سياق الحرب السورية. أي أن الموالين يمتلكون معاناة المعارضين نفسها، مع “الحكومة”، على المستوى المعيشي والظروف الاقتصادية والخدمية والفساد، لكنهم يتنافرون عنهم في الموقف السياسي. فبينما ثار المعارضون على هذا الواقع البشع من أجل تغييره إلى الديموقراطية، مازال الموالون ينظرون إليه بشيء من القصور أو الإنكار لاعتبارات مختلفة، اقتصادية واجتماعية وأمنية، ومؤمنين، على أفضل تقدير، بأن النظام نفسه قابل للإصلاح الديموقراطي، وهي فكرة يتجاوز خيالها مطالبة سمك القرش مثلاً باتباع حمية نباتية من أجل الصالح العام.
المدن
