الشتاء الثامن، سُبات السوريين لم يتزحزح/ أيمن الشوفي
الموظفون الوزراء، والموظفون أعضاء مجلس الشعب السوري لا يقولون شيئاً عن مكائد الحياة داخل مناطق سيطرتهم، ولا يعتذرون للناس عن رداءة الحياة..
يتثاقل الشتاء، فيمر بطيئاً كأنما يرابط برده بين عظام السوريين المنسيين في بلادهم، المشردين داخل نزوات الطبيعة والسلطة حين تُذِل الباقين منهم على قيد الحياة. يتقاعس الشتاء إذاً، فلا ينقشع آخره، وكأنه بلاءٌ يتمهل بين الحواس ويرميها بلعنة العطالة والخمول، ثم يبحث الناس عن الرثاء اللائق لحالهم، فلا يجدون سوى البرد والعتمة قبرين فسيحين لأرواحهم المعطوبة. يستهويهم ثبات المعنى وإعادة توزيع موسيقاه، فيُبدون الإعجاب بفرقة “تكّات” وهي تعيد توزيع لحن الأغنية الشهيرة “يُمّا الحب يُمّا” بحيث تجاوز عدد مشاهداتها على “اليوتيوب” العشر ملايين مشاهدة، وتستهويهم أيضاً التدابير الدرامية إن استخفت بنصيبهم من البؤس، فيراقبون عُريّهم كوصفة ساخرة داخل مسلسل “ببساطة” الذي أنتجتهُ قناة “لنا” الموالية للنظام، وتعرضه حالياً على متابعيها.
خسائرٌ وصفقات للصمت
تصير العتمة في سوريا حكايةً مثل الضباب، سميكةً كثيفة القوام، والكل ينتظر رحيلها، لكنها لا ترحل. تظل ابنة المكان وظله الذي لا يزول. الفلاحون يشتمون الصقيع العالق فوق زراعاتهم الشتوية، ويشتمون قبله غياب الكهرباء والمازوت. يخسرون مواسماً بمئات ألوف الليرات، ويتجاسرون لمواساة بعضهم البعض. وتاجرٌ يفتح باب ثلاجة داخل محله، يبقيها مفتوحةً دلالة على خسارته الشتائية غير المتوقعة من جراء فساد قطع الدجاج، فالكهرباء تنقطع لأكثر من 16 ساعة في اليوم. يحسب خسارته على آلة حاسبة، ويبصق فوق نار أشعلها داخل صفيحة معدنية مثقّبة من الجهات الأربع.
لكن من قرر أن يكون شتاء السوريين الطويل بلا ضوء، ولا تدفئة؟ يتحدث الناس في مواقف الباصات العامة عن الممثل أيمن زيدان، وكيف تبدل حاله بعدما نعى دولة البرد والعتمة في انتصاراتها الزائفة، وصار يقيم الآن في بيروت، وصار يقدم برنامجاً على قناة “لنا” اسمه “سيبيا” عن عجائز مغمورين لم يسمع بهم أحد، ولا أحد يتابع برنامجه ذاك. وهم إن شتموا دولة البرد والعتمة والانتصارات الزائفة، لن يذهبوا إلى بيروت، بل إلى تدمر أو صيدنايا (مدن في سوريا أعطت اسمها لمعتقلات شهيرة).
شتائم المطر الطائش والخبز الساخن
يتمشّى المطر عجيناً بين السماء والأرض، تنزلق برودته مثل سمك طازج بين الأيادي اليابسة. ويقترب أحدهم منك، وأنت لا تعرفه وهو لا يعرفك، ويشتم النظام ويشتم معه البرد والعتمة، ثم ينصرف عنك بخطوات ليست بطيئة ولا متعجّلة، وأنت تبتسم لأنه لم يحسبك مُخبراً أو “شبّيحاً” ليلتفت إليك. لم يخشَ أن تجشَّ رأسه بهراوة، أو تبقر أحشاءه بمدية. شتم وانصرف مثل غريب يمر من تحت عباءة المطر، وكذلك أنت، غريبٌ ابن غريب في بلد لم يعد يشبهك. تبتسم مجدداً، وكأنه غسل خوفك دفعة واحدة، وأنت الذي لا تعرفه، وهو الذي لا يعرفك.
تتذكر بأنك سمعت الفرّان قبل يومين وهو يتحدث عن تصدير الكهرباء إلى لبنان. تتذكره يقول: “روسيا وإيران تحكمان سوريا”. وتتذكر بأن أحد الواقفين أمام كوّة الفرن الضيقة صحح له، وقال: “يقطعون الكهرباء كل هذا الوقت لكي تشتري الناس المولدات والبطاريات التي يستوردها أحد رموز النظام من الصين”، فتحار أي الروايتين تصدّق. لكنك تبحث عن ملامح آدميّة طازجة بين الوجوه المكسورة، فلا تجد سوى ستائر سميكة منسدلة، تحجب رائحة الضوء عن أرواح الواقفين، وهم يسمعون آلة تقطيع العجين داخل الفرن، وقد تعرّق صوتها فكسا الصمت الطويل، وخدش حياءه عن غير قصد.
حقنة لمغادرة البلاد كل يوم
الموظفون الوزراء، والموظفون أعضاء مجلس الشعب السوري لا يقولون شيئاً عن مكائد الحياة داخل مناطق سيطرتهم، ولا يعتذرون للناس عن رداءة الحياة، حتى أنّ رئيس الدولة وفي آخر كلمة له منتصف شباط / فبراير تحدث عن أربعة أنواع للإرهاب، حاسماً بذلك الجدل الشتائي الطويل بين الناس حين اختلفوا على عدد أنواع الإرهاب، فبعضهم كان يعتقد بأنه نوعٌ واحد، وبعضهم الآخر لطالما اعتقد بأن الإرهاب نوعان فقط، وقلّة كانت تعتقد بأن للإرهاب ثلاثة أنواع.
وبائعُ ثياب نسائية يريد الهجرة الآن. أن يلتحق بأقربائه المقيمين في ألمانيا. إذ يندم أشد الندم لأنه لم يهاجر معهم قبل أربع سنوات، ويعتقد بأن السلطة القائمة تريد من وراء سياسة البرد والعتمة “تطفيش” ما تبقى من عباد الله في الداخل. غير أن الحدود المغلقة بوجه السوريين في لبنان وتركيا منذ سنوات عقّدت مسألة “الهجرة”، ورفعت تكاليفها من ألفي دولار للشخص الواحد إلى أكثر من عشرة آلاف دولار.
لغاتٌ أجنبية ونيزك
يتعلم المهاجرون السوريون لغات أجنبية، كأنما يتعلمون المشي من جديد، ليندمجوا بمجتمعات جديدة عليهم قد تشبههم وقد لا تشبههم بشيء. لعلها أرحم حالاً من سوريا التي صارت سراباً مائعاً وراء ظهورهم حين غادروها. فيما ينتعل سوريو المخيمات الصمت في شتائهم الثامن، لا يجدون صوتاً يزفّون إليه صمتهم ذاك، وهم يغرقون في بحر البرد الواسع، وتمرض يومياتهم بالمياه الآسنة وهي تفيض من تحتهم كلما فاض عليهم غيم السماء.
لا مكان لهم على أجندة عمل السلطة السورية، وليسوا سوى ملف تتسول المعارضة السورية بواسطته الهبات الدولية والصدقات. هم المنسيون داخل حرب الانتهازيين الطويلة، موالاة ومعارضة. وهم الساكنون خياماً لم نختبر شتاءً واحداً تحت قماشها اللّين لنعرف تحت أيّ بلاء يعيشون. نتذكرهم فقط كلما قرص البرد أفئدتنا، ونحن نشاهد على شاشات التلفاز سهل البقاع اللبناني، وصحراء الزعتري في الأردن.
وصبية عشرينية تعمل لدى شركة سورية كبيرة تُحدّث حالتها على “واتس أب” فتكتب “النيزك هو الحل”. تنظر أنتَ بثبات إلى صورتها، إلى عذوبة وسخاء ملامحها، وتتساءل: متى هزمت الحياة هذه الصبيّة، فجعلتها تنتظر في هذا الشتاء جُرماً سماوياً يحطُّ فوق الأرض فيُزيل تضاريسها وأرواح من عليها في ثوانٍ معدودات؟ ثم تتفحّص “البروفايل” الجديد لشاب عشريني على “الفيسبوك”، حدّثه قبل ساعات من اقتياده إلى الخدمة الاحتياطية. عيناه تنظران بتوجّس إلى بعيد قاتم، حيث الأفق المسدود بغيم كسول. متى التقط هذه الصورة، تسأل نفسك؟ هل هي صورة قديمة، أم التقطتها له اخته الصغيرة قبل دقائق؟ تقرأ أيضاً تحديث حالته الجديدة “لا تزعلي يا أمي، هيك الله رايد”.
السفير العربي