الناس

المُقاتِلة كهوية/ مرسيل شحوارو

ينطوي تقييم العديد من مساحات النقاش العامة، افتراضية كانت أم واقعية، في كثير من جوانبه على محاولة «تمدين» المظلومات والمظلومين والتخفيف من أحقية الغضب عندهنّ وعندهم، بالتركيز على اللغة والصوت وما يعتبر «سلوكاً حضارياً» في الأماكن العامة.

نتيجة الصدمة والإحساس بالظلم، يتولد في الجماعات المقموعة كثيرٌ من مشاعر الغضب، غضبٌ يغدو في كثير من الأحيان محرّكاً لتلك الجماعات ودافعاً لتغيير واقعها. ويحصل أن يُخشى من خسارة ذلك الغضب وأن تجد هذه الجماعات نفسها «مدجّنة»، إما بالاستسلام لواقع الظلم، أو بتغيير سلوكها بحيث تبدو بمظهر أفضل أمام القوى والسلطات التي ساهمت في وقوع الظلم ذاتها. يستحوذ الجلاد حينها ليس فقط على صلاحية توصيف الظلم الواقع عليك فحسب، ولكن أيضاً على القدرة على تحديد ردّ الفعل المقبول منك على ذلك الظلم. 

من المُرجّح أن أخسر مناظرة عامة مع موالٍ لبشار الأسد، «أخسرها» بالمعنى المتعارف عليه في  المناظرات، من حيث ترجيح قدرته على «إفحامي» أو استفزازي، وتمكّنه من امتلاك مساحة الكلام «الرايق». سأدخلُ هكذا مناظرة بتفوقٍ أخلاقي واضح، ولكن أيضاً مع توابع  تجربة اقتلاع من الأرض والمحيط، وخسارات دموية لعدد كبير من الأصدقاء، وذاكرة للقصف والدمار وشعور عميق بالمرارة والخيبة، بينما يأتي الطرف الآخر مسلحاً باستقواء بالعنف، وبزيارة سياحية إلى بلد لا أستطيع أن أحلم بالعودة إليه، ليرمي في وجهي جملاً من قبيل «كنت الأسبوع الماضي في دمشق والحياة هناك طبيعية». سأبدو بالمقارنة معه أكثر غضباً، وبالتالي قد أبدو كذلك أقلّ إقناعاً. نحن الموتورون الغاضبون شديدو الراديكالية.

لا يشكّل ما سبق توصيفاً حصرياً لمؤمنين والمؤمنات بالثورة السورية، بل ربما أن الشريحة الأكثر عرضة لهذا النوع من الاتهام، هنّ النسويات. ومن هنا، أصبحتُ أحمل، على الأقل، هويتين متهمتين بالغضب.

تقول سارة هنيدي في مقالتها «النسوية والحق بالغضب»، المنشورة في مجلة فن: «الغضب هو الشعور الأول الذي يتلو إدراكنا للظلم، هو الشعور الذي يلي الحزن ويجعل له هدفاً محقاً. الغضب، هو حزن ينشط ليغيّر. كما تحوّلَ غضبُنا كشعب سوريّ إلى ثورة محقة ضد نظام الأسد في سوريا، غضبنا النسوي محق أيضاً، بعالميته وبخصوصيته الشرق أوسطية».

أُجبرتُ خلال الثورة على إعادة التفكير بعلاقتي مع اللاعنف. متى يكون اللاعنف أداة للتغيير يهدف للوصول إلى ما نصبو إليه من حرية وكرامة وعدالة، ومتى يكون أداة «اعتذار حضاري متمدّن» أو دفاع عن النفس ضد اتهامات «الهمجية» التي قد تطالنا أو تطال شعوبنا ممن نعتقد أننا نحتاج أن «نستحق تضامنهم»؟ متى يكون اللاعنف لاعنفاً مقاوماً ومُغيراً، ومتى يصبح سلبيةً واستسلاماً في وجه الاستبداد والتطرف وقوى الأمر الواقع؟ لقد حاولت أن أصنع سلاماً إلى حدّ ما مع غضبٍ كان أحد الأسباب الرئيسية لتشكيل شخصيتي «المقاتلة» التي أنا عليها اليوم.

أدافع عن المقاتلِة اليوم، خصوصاً في وجه الذين يحتاجون منّا سلوكاً جذاباً لإعلان تضامنهم مع قضية محقّة، وذلك إقراراً منهم أنهم في موقع مرتاح، وأن ضحايا ذلك الظلم يحتاجون تضامنهم؛ في وجه كل الذين يغفلون ذكر العنف الذي تعرّضنا له في مراجعتهم لأخطاء الثورة السوريّة وكأنهم يدرسوننا في مختبر لا تهبط عليه البراميل، وكأن خيرتنا لم تمت تحت التعذيب؛ وفي وجه أولئك الذين تقتصر مساهماتهم في النضال لأجل حقوق أفضل للنساء في سوريا على محاولاتهم تقديم نقد للخطاب النسويّ السوري.

أدافع عن المقاتلة اليوم، خصوصاً في وجه الذين لا يؤمنون بقضايانا ويستخدمون غضبنا عذراً ليبرروا اصطفافاتهم. ضد كل سلوك ذكوري يبني على غضب النسويّات حجّة لكسل في مراجعة الذات. هم ضدّ قضايانا لأسباب غالباً ما تتعلق بهم أكثر ممّا تتعلق بنا: طبقية، طائفية، عنصرية أو تمييزية من أيّ نوع، ويرددون أن غضبنا سبب ابتعادهم عن الإيمان بقضايانا كي يشعروا بشكل أفضل تجاه ذواتهم.

هل نشأت هذه المُقاتِلة فيّ في ظل الثورة السورية، أم أن كوني مقاتلة سلفاً هو الذي دفعني للمشاركة في الثورة؟ لايمكنني تماماً معرفة الإجابة على هذا التساؤل. 

انتميتُ قبل الثورة إلى مجتمع مسيحي مغلق على نفسه مُطبِّع مع الاختلاط بين الجنسين، ما يعطيه بعداً شديد الخصوصية تجاه حقوق المرأة. يعتقد هذا المجتمع أن شيوع الاختلاط فيه يمنحه صفة الانفتاح، وأنه قد تجاوز مرحلة الحاجة للحديث عن حقوق المرأة، مع أن التمييز في الحقوق والأدوار الجندرية هو مشابه لذاك الموجود في المجتمع السوري الأكبّر.

عندما بدأت الثورة السورية كنتُ فتاة مدللة بمخارج حروف غائمة، وعفوية في توزيع الابتسامات. عايشت منذ الشهور الأولى للثورة معضلة العلاقة مع «الآخر» بطرفيها: الآخر المسلم، بانطباعات متبادلة، يشوبها الكثير من الخوف والوهم، عن مجتمعاتنا المنغلقة؛ والآخر الذكر، بانطباعاته عن الدور المناسب الذي يجب أن ألعبه كإمرأة في الثورة. منذ لحظات التواجد الأولى في ظلّ هذه المعادلات، كان الغضب أداة حماية. كان على الابتسامات أن تخفّ، وعلى الصوت أن يصبح أكثر جدّية ويعلو كثيراً، وكان عليَّ أن أُعيد النظر في العفوية كي لا يساء فهمها على أنها دعوة للغزل أو حتى التحرش (مسؤولية الضحايا في منع التحرش موضوع عميقٌ في دواخلنا، حتى لو كنّا نحن الضحايا). وقد كان هذا الغضب جواباً كافياً على النظرات التي ألقيت تجاهنا في اجتماعات وتظاهرات واعتصامات،  نظرات تتساءل «ماذا تفعلن هنا؟». كان هذا الغضب جواباً لشريك في النضال لا زال يعتبر اهتمامنا بالسياسة والشأن العام متمحوراً حول إثارة إعجابه أو اهتمامه، وكل ما نكتبه في الشأن العام هو دعوة للانخراط معه في علاقة ما. كان هذا الغضب جواباً كافياً لنأخذ القليل من المساحة في الكلام عن الشأن السوري في الاجتماعات العامة كالزملاء من الرجال دون مقاطعة، ودون تصحيح متعال، ودون أن يعتقد أحدهم أن دورنا الوظيفي هو تسجيل ملاحظات وإعجابات بكلامه الحكيم. وكان هذا الغضب جواباً لتكرار السخرية أو الإنكار والتجاهل للتمييز والتهميش والظلم الذي ورثناه كنساء -وعلى الأغلب سنورثّه، مع الأسف-. كان هذا الغضب جواباً كافياً كي نؤخَذَ على محمل الجدّ، ويتوقف ذلك السؤال عن كفاءاتنا، الذي نادراً ما يُطرَح على شركائنا من الرجال.

نحضر كنساء إلى أي مساحة عامة جاهزات إما للدفاع عن أنفسنا أو للانسحاب، مستعدات دوماً لمواجهة التهديد. رُبّينا على ذلك، أن نمشي في الشارع ونحن نبحث عن الخطر لنتفاداه أو نواجهه. نمسح الفضاء المحيط فوراً، سلاحنا ملقّم، ونحتاج غضبنا الحاد أحياناً لوضع الحدود أمام استباحتنا العامة، التي قد تمتد ضمن استباحتنا الخاصة، التي تبيح نقاش ثيابنا وطولها المناسب وعلاقاتنا الأسرية والعاطفية.

كان الوضع أقلّ حدّة بكثير في أيام المظاهرات السلمية، إذ كانت كثرتنا كنساء تلعب دوراً في حمايتنا، ولو جزئياً، من التهميش والتسخيف والتشهير والتشكيك بشرعية مشاركتنا في الثورة. ساهم السلاح بعدها، ومن ثم الأسلمة، في إبعاد الكثيرات منّا عن الفضاء العام. نقاتل الآن لكي نصل إلى الحدّ الأدنى من تمثيلنا، حيث أن نقصنا الحاد على كل المستويات التمثيلية في الثورة السورية، من المجتمع المدني إلى المجالس المحليّة إلى المعارضة السياسية، قد جعل من معارك القلّة التي بقيت أكثرّ حدّية بالضرورة.

نقاوم ابتزازنا بأولوية الدم السوريّ كلما حاولنا الحديث عن حقوق للنساء. ويجادلنا أولئك الذين يتحدثون في كل شيء -ولا شيء في قضايانا- وكأنها ليست قضايا وطنية، كأنها قضايانا وحدنا، وليست بأولوية. وكأن سوريا الديمقراطية التي نموت لأجلها ممكنة دون حقوق للنساء. 

يخبرني العديد من الأصدقاء مازحين أنني أُخيفهم، وكأنني لا أعرف ذلك، وكأن ذلك لم يكن جزءاً من استراتيجيتي لحماية نفسي. يقول لي آخر «ما حدا بيسترجي يحكي معك كلمة برا الطريق»، وكأن في هذا الأمر مديحٌ أستحقّ التصفيق عليه، وكأن الكلام «برا الطريق» هو مسؤولية من تتعرّض له، لا من يُطلقه، يبدو أنه من واجبها أن تكون أكثر حدّية، لا أن يكون الفضاء أكثر أماناً.

يُقال بالعامية عن المرأة القوية إنها «قد وقتا»، فكم من القوة نحتاج إذا كانت أوقاتنا هي الزمن السوري الحالي المليء بالعنف؟

ليس احتياجنا للغضب كأداة حماية إلا تمييزاً جديداً يضاف إلى قائمة الظلم الذي نتعرض له كنساء سوريات. وبعد أن ساعدنا غضبنا على النجاة، وخصوصاً إثر اشتعال الحرب، صار الغضب هوية علقنا فيها، ومن الصعب جدأ أن نتخلى عن التقنيات التي ساهمت في نجاتنا، حتى بعد أن نصبح بأمانٍ نسبيّ.

أصبحت حدّيتنا دِرعاً، ولم نعد ندرك أن كان بإمكاننا إنزال سلاحنا والتعافي من القتال المتواصل على مدى السنوات الثمانية الماضية، إن لم يكن على مدى حياتنا بأكملها. مُتعِبة هذه الحاجة المتواصلة للقتال، هذا القتال الذي أصبح مُعرِّفاً لنا في حياتنا الخاصة كما نشاطنا العام.

في عام 2016، بدأت بتسجيل نوبات غضبي بشكل يومي: ما الذي حرّضني على الغضب؟ هل كان غضباً حقّاً أم ادعاءاً بالغضب لحماية نفسي من سلوك تمييزي؟ هل كان تجاه حلفاء أم خصوم؟ ربما يبدو ذلك نزعةً مفرطة في الرغبة بالتحكّم بالذات، ولكنه جاء بعد إدراكي لخطر الانحباس داخل هوية الغضب -محقة كانت أم غير محقّة-؛ أردتُ الجلوس مع غضبي لأفهمه وأتعلم إدارته.

في اجتماع حضرته في ذلك العام، 2016، حضرت صبية في الثامنة عشر من عمرها تقريباً، وأخبرتني، بلطف مبالغ فيه، أنها تنظر إليَّ «كمثل أعلى». وبغضّ النظر عن عدم اتفاقي مع هذا الإطراء ووضعي كلوحة على حائط بشكل مستحق أو غير مستحق، ساهمت هذه الفتاة، دون أن تعي، بشروعي في مراجعة  الغضب كأداة نجاة. لأنني نجحت، خلال الساعة الأولى للاجتماع، بإشعارها بالخوف. كانت تنظر إليَّ بتردد بحثاً عن موافقتي كلما أرادت أن تعبر عن رأيها، فيما كنتُ أنا أناقش ليس فقط كرجل لا يترك مساحة للنساء للمشاركة، بل كرجل غاضب.

نجد أنفسنا تحت المَكبس طوال الوقت، مما يجعلنا أكثر عرضة للانفجار. هذه حقيقة فيزيائية. لكن، رغم هذا الواقع، يتوجّب علينا أن ندرك أن سلاحنا، الملقّم دوماً استعداداً للدفاع عن النفس، قد يتحول ناراً عشوائية تجاه حلفاء أو تجاه نساء أخريات، هُنَّ بدورهنَّ تحت المكبس، وهنَّ بدورهنَّ يحاولنَ النجاة من التمييز، وربما هنَّ بدورهنَّ اخترنَ ألا يُحبسنَ ضمن هوية الغضب.

غضبي الذي كان حماية لي في كثير من الأحيان، تحول إلى سلوك طارد لنساء أخريات يحتجنَ هُنَّ إلى حماية منه. من المؤكد لي أنني لم أستطع، وأنا حبيسة ذلك الغضب، أن أكون عامل دعم لكثيرات. كنت تنافسية لأثبت أننا نستحق الوجود على الطاولة، وقليلة الصبر على الأشخاص، سريعة الأحكام بجذرية حتى على مواقف وقناعات كنت قد عشتها في فترات سابقة من حياتي، وسمحت لي التجربة أن أعيد النظر فيها. أدى شعوري المحق بـ «التهديد العام» أحياناً إلى افتراض وجود تهديد لم يكن في الواقع موجوداً، وإلى إغلاق الباب أمام تحالفات ممكنة. ولكي أجد مكاناً في (عالم الرجال العام)، حوّلني غضبي إلى ممارِسة لمجموعة من القيم السلطوية، التي هي أساساً جذر أسباب إقصائنا عن الطاولة. نحن غاضبات بشكل مُحقّ لأن الفضاء غير آمن لوجودنا فيه، لكن غضبنا أصبح جزءاً من تغذية هذا الفضاء غير الآمن.

أنتقدُ «المقاتلة» اليوم، خصوصاً في وجه المتعبات مثلي اللواتي جعلتهنَّ المقاتلة التي فيَّ أكثر تعباً. أنتقدُ المقاتلة اليوم لانخراطها في نزاعات جانبية لا تسهم في تغيير، وفي تصعيدات لا لزوم لها مع الحلفاء الذين نحمل معهم الكثير من المشتركات، واليد الممدودة منهم كانت للسلم، ولكنني صددتُها بحكم عادة الدفاع عن النفس. أنتقد المقاتلة اليوم كلما كان غضبها فلتراً ساماً لمرور الثقة، عندما تسمع وتقرأ بحثاً عن الجدل والشك، لا إصغاءً بهدف البحث عن تفهّم وصلة وصل. أنتقد المقاتلة اليوم حين تفشل في إدراك أن غضبها أحالها أحياناً، وخصوصاً عندما كانت هي في موقع القوة، من مقاتلة إلى متنمرّة.

نحتاج غضبنا لإحقاق التغيير، ولكن نحتاج للتخلي عنه للسماح للتغيير بأن يمر وينمو. مظلومون ومظلومات نحن، وغضبنا جزء من وعينا لذلك الظلم. لكننا سنتحول، بدورنا، لجلادين وجلادات إن تركنا ذلك الغضب يأكل الغنى في أرواحنا. أحاول كل يوم إيجاد ذلك التوازن بين ما أحتاجه من الغضب كحماية وأداة للتغيير، وبين ما احتاج من سلام يسمح بمدّ الجسور واحترام مسيرة الأشخاص. ذلك التوازن صعب جداً، ولا زلت أحبو وأفشل. نعم، لنا الحق في أن نغضب، ولنا الحق في أن نخلع ذلك الغضب الثقيل عنّا.

واقعاتٌ تحت المكبس ويحق لنا أن نغضب ونقاوم، ولكن يحق لنا كذلك أن نحلم بفضاء لا نحتاج للقدوم إليه مدججات بالغضب، ونكون فيه أمناً وأماناً لأُخريات.

 موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى