الأمة المسلّحة: أن تكون جنديا عثمانيا في القرن التاسع عشر؟/ محمد تركي الربيعو
في نهاية القرن الثامن عشر، كانت الدولة العثمانية تخوض حربين قاسيتين؛ الأولى ضد روسيا بين عامي 1768 و1774 وأخرى ضد روسيا والنمسا بين عامي 1787 و1792. وقد أدت هاتان الحربان إلى خسارة العثمانيين لشبه جزيرة القرم، ما عنى تسليم مناطق آهلة بأغلبية من المسلمين إلى دولة أوروبية، وهذا ما أثار أزمة داخلية خطرة، وفتح نقاشاً واسعاً حول مستقبل السلطنة وأسباب الهزيمة.
ورغم الخلاف حول النتيجة وتحميل كل طرف الآخر سببها، كان هناك اتفاق وإجماع شبه ضمني بين اللاعبين العثمانيين على ضرورة إصلاح وتحديث المؤسسة العسكرية. في هذا السياق اعتُبِر السلطان سليم الثالث، رائد الرؤية الإصلاحية لدور العسكر في القرن التاسع عشر، مع إنشائه تشكيلاً جديداً للمشاة سمّاه «النظام الجديد» في عام 1794، مدرّب على يد خبراء أجانب، ضباط فرنسيين وألمان. وقد حصل تجنيد هذا الفيلق أساساً في الأناضول، وكان في عام 1797 يضم 9200 مجنداً و27 ضابطاً وزاد العدد في عام 1806 ليصل قرابة 23 ألفاً يقودهم 1590 ضابطاً. إلا أنه في مايو/أيار 1807، واجه سليم الثالث ثورة الإنكشاريين، الذين طالبوا بإلغاء الإصلاحات وإقالة السلطان، فكانت تلك نهاية النظام الجديد. وفي عام 1826، عاد السلطان محمود الثاني ليضع خطة جديدة لإصلاح المؤسسات العسكرية عبر «إضفاء الاحتراف على الجيش» من خلال حل، وبناء جيش جديد قائم على قانون نظام التجنيد الذي كان شائعاً عند الجيوش الأوروبية.
فمنذ القرن التاسع عشر، أخذت الدول الأوروبية تعتبر جيوش التجنيد الإجباري، الأدوات الأولى لبناء الأمم، ولذلك، وبالنسبة للدولة العثمانية، كان الإصلاح في الجيش يتلخّص بالخدمة العسكرية الإجبارية، ورغم أن هذه السياسات الإصلاحية لم تحظ بالقبول على الصعيد المحلي، وإنما استنهضت تمردات ومقاومات عديدة من قبل الأهالي، مع ذلك كانت لها آثار بعيدة عبر خلق تعريف آخر للهوية العثمانية، فقد أدت سياسات التجنيد إلى قلب مفاهيم عديدة في الحياة اليومية العثمانية وفي عقليات الجنود والناس العاديين.
وكان هذا الانقلاب في المفاهيم والهوية العثمانية، الذي أفرزته ثقافة التجنيد على المجتمع العثماني، محور اهتمام المؤرخة الفرنسية أوديل مورو في كتابها «الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات» ترجمة كارمن جابر، الصادر مؤخراً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات؛ إذ تناولت فيه الحديث عن الإصلاحات العسكرية وآثارها على المجتمع العثماني، خلال الفترة الممتدة بين 1826 (والذي عُرف بحل جيوش الإنكشارية) وعام 1914 الذي شهد دخول العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. تقوم الفكرة الأساسية للكتاب على أن المدارس العسكرية الجديدة في الدولة العثمانية قامت بدور ريادي من خلال توفير ما يُسمى المعارف العلمية الحديثة، إذ ستحتفظ بحريتها عقوداً عدة، وتساهم في تغيير تصوّرات الأجيال الجديدة من الضباط المتعلمين، فقد تطلّب النقاش حول تحويل الجيش العثماني إلى جيش منظّم حسب النموذج الأوروبي، تفكيراً عميقاً وجهداً لإعادة تعريف هوية العثمانيين. فإنشاء جهاز جديد كلياً كانت له تكلفته الاجتماعية والثقافية. كما أن إصلاح الجيش أخذ يعني لاحقاً مراجعة كلية للأسس الأيديولوجية للحكم وللعلاقة بين الحكام والمحكومين.
جيش من المجندين:
كان أغلب المجندين يُختارون من الأسر المتواضعة في الأناضول. فكانوا يتابعون تعليمهم العسكري بين سن الاثنتي عشرة والخامسة والعشرين. كانت هذه الفترة تُعتمد كوسيلة لبناء صلة غير قابلة للكسر بينهم وبين الدولة. ومثل الإنكشاريين في العهود الكلاسيكية للسلطنة، لم يعد لدى هؤلاء روابط عائلية حقيقية. بهذه الطريقة، كان يمكنهم تحصيل هذه العلوم والتقنيات الحديثة في أفضل شروط، فضلاً عن روح الجماعة والأمل بتحقيق تقدم اجتماعي واقتصادي. وقد أتاح هذا الحضور المشترك في المدارس، تضامناً جديداً بين الطلاب. وهكذا كانت تُنسج علاقات اجتماعية جديدة من خلال فئات عمرية وجيلية جديدة. كانت شهادة الكلية الحربية بالطبع شهادة تحظى بالتقدير، ففي صيف عام 1834، شكّلت كلية العلوم العسكرية كتيبة تابعة للواء حرس نامق باشا، وكانت بإشراف مقر «الحرس السلطاني» لمنع تدخّل وزير الحربية الذي لم يكن مؤيداً لها. في البداية، كان هناك كثير من الصعوبات التي يجب التغلب عليها منها، الافتقار الكامل إلى الكتب والمدرسين المؤهلين والمعدات التعليمية. في أثناء إنشاء الكلية الحربية كان الجنود المتقدمون إليها أميين عملياً. وفي الواقع لم يكن هناك أي مدرسة ابتدائية أو ثانوية تعدّهم للدخول إليها، وهذا يدلُّ على حجم المهمة التي كان على الإصلاحيين القيام بها.
مرّ التحديث المتمثل في تعلّم المعارف العلمية الجديدة بمعرفة القراءة والكتابة أولاً. ومن ثم اكتساب اللغات الأجنبية، إذ كان على التلامذة الضباط إتقان اللغتين العربية والفارسية. ووفقاً لما تنقله أوديل مورو عن مراقبين أجانب عاشوا تلك الفترة، فقد اعتُمد تدريس مواد أكثر أساسية مثل القراءة والكتابة والحساب واللغة العربية والتكتيكات العسكرية. في وقت لاحق، في عام 1864، ركز غالب باشا، مدير الكلية الحربية 1864/1887 بشكل خاص على تدريس اللغة الفرنسية، وجرى استقدام معلمين من فرنسا لتحسين مستوى الفرنسية عند الطامحين، وتدريسها ابتداءً من صفوف المدارس الإعدادية. بيد أن الإصلاح التعليمي الحقيقي حصل بعد ذلك بكثير، خلال حقبة الضابط الألماني فون در غولتز في ثمانينيات القرن التاسع عشر. خلال هذه الفترة (1874)، لعب سليمان باشا مدير الكلية الحربية دوراً كبيراً في تطوير برامج المدارس. كان شاعراً وكاتباً، ولذلك أعطى مكانة مهمة للأدب الفرنسي، ولأفكار الثورة الفرنسية، التي أطربت أذهان طلاب المدرسة العسكرية، إذ ساهمت كتب الأدب الأوروبي هذه، في نشر الأفكار الليبرالية والغربية.
التصوير علم حديث في الجيوش:
من بين الأمور التي تدرسها مورو في حياة الإصلاحات العسكرية هي الأهمية التي احتلها التصوير في الجيش العثماني؛ أكان ذلك من خلال تدريسه المبكر في الجيش، أم من خلال الموقع الذي احتلّه المصورون. بدأ تدريس التصوير أولاً ضمن الأسلحة العلمية في الجيش، في كلية الهندسة العسكرية. ومنذ عام 1805 جرى استيراد حجرة تصوير مظلمة من بريطانيا، وأضيفت دروس التصوير إلى دروس الرسم. ثم صار تدريس التصوير لاحقاً في القوات البرية والبحرية. وقد تخرّج المصورون العسكريون الأوائل من الكلية السلطانية للهندسة والمدرسة العسكرية في ستينيات القرن التاسع عشر: النقيب حسنو بيك 1844/1896، سرويلي أحمد أمين 1845 1892 واشقودرلي علي رضا باشا. وترجم هؤلاء عدداً كبيراً من الكتب التي لها علاقة بالتصوير. وقد أنجز أول ترجمة، حتى ذلك الوقت في عام 1873، النقيب حسنو بيك (أصول التصوير الفوتوغرافي).
كانت مهنة المصور العسكري مثلها مثل مهنة الرسام العسكري، تحظى بشعبية كبيرة وصيت منتشر. وكونهم أصحاب معارف جديدة، اعتُبر المصورون ضباطاً رائدين، قريبين من السلطة ويضعون مواهبهم في خدمة السلطان. ففي عام 1898، اختير الضابط علي سامي أكوزر، مصوراً عسكرياً ليرافق الامبراطور الألماني «فيلهم الثاني» خلال زيارته الدولة العثمانية من إسطنبول إلى القدس، وعند تعيينه ياور (مرافقاً) للسلطان في عام 1899، حصل على مهمة تأريخ الزيارات الرسمية في السلطنة جميعها.
ترى أوديل مورو أنه مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت المدارس العسكرية قد أخذت تلعب دوراً في خلق فرد عثماني جديد، فالتعليم الغربي أخذ يزيح ولاء العساكر تدريجياً من السلطان إلى الدولة. لم توفر حركة المعارضة الأوساط العسكرية، إذ وقف ضباط ذوو أفكار غربية ضد النظام القائم. وفي عام 1876، دبّر تحالف بين النخب المدنية والعسكرية انقلاباً لتعزيز نظام دستوري، وأنشأوا في هذا السبيل منظمات سرية في الحقبة الحميدية لاستعادة الدستور، إلا أن الضغط من السلطة السياسية المتمثلة في السلطان كان قوياً إلى حد أنه لم يسمح بأي شكل من أشكال المعارضة على أراضي السلطنة. ولم يتمكن هذا التحالف من التعبير عن نفسه إلا في المنظمات السرية وفي المنفى. في فرنسا أحمد رضا أو في مصر مراد ميزانجي. في الجيش، اكتسى تمرّد الضباط والجنود أهمية خاصة في أوائل القرن، وكانت ذروة الاحتجاج في ثورة 1908 التي جعلت النظام أشلاءً وفتحت الطريق أمام موازين جديدة للقوة.
كان أحمد رضا بك يُعدُّ في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أحد مفكري حزب تركيا الفتاة. وكان مقتنعاً بالدور الأساسي الذي سيقوم به الجيش، وكتب الكثير من المرافعات في هذا الصدد. ففي بعض مقالاته، مثل «اعتبار شرف جنودنا» أوضح أحمد رضا أن الجندي كان مجد الوطن وشرف الأمة، داعياً الأمة إلى الانتفاض. كما أسند دور المخلّص إلى الجيش، ممجداً فضائل الوطنية الوليدة، لتنتشر بين طبقات السكان جميعها، كما دعا إلى قيام أمة مسلحة وإلى اتّخاذ شكل الدولة العسكرية. في أواخر 1907 وأوائل 1908 ازدادت حدّة الضغوط الأوروبية على مقدونيا، في هذه الأثناء سينتقل قادة تركيا الفتاة إلى الهجوم على السلطان عبد الحميد الثاني. فبلغ الذعر ذروته في إسطنبول، وحاول عبد الحميد تقديم ما يستطيع في انتظار وصول قواته من الأناضول لقمع المتمردين. في هذه الأثناء أبلغت جمعية الاتحاد والترقي أنها ستقوم بالتقدم نحو العاصمة بقيادة الفيلقين الثاني والثالث. ولذلك لم يكن أمام عبد الحميد سوى إعلان الدستور الجديد.
عسكرة المجتمع
احتذت تركيا الفتاة بكتاب الأمة المسلحة الذي ألفه فون در غولتز. إذ ترجم الأخير كتابه إلى اللغة التركية، فكان له صدى كبير في أنحاء أوروبا جميعها. وفي هذا الصدد كان أحمد رضا، كما ذكرنا سالفاً، مقتنعاً بالدور الأساس الذي سيقوم به الجيش، وأن على الدولة العثمانية أن تكون دولة عسكرية. لذلك كتب الكثير من الأعمال في هذا الخصوص. في الواقع جرى حشد الشباب في المدارس بعد عام 1908 خصوصاً في المدارس الكبرى جميعها، خارج الكلية الحربية وكلية العلوم السياسية والجامعة. وأُنشِئت المنظمات العسكرية السياسية بمبادرة من جمعية الاتحاد والترقي للدفاع عن البلاد، مثل جمعية الدفاع الوطني، كما استلهمت جمعية القوة التركية التي أنشِئت في عام 1913 بدورها من المنظمات الكشفية الألمانية مبادئها ومنهجها، إذ كانت الجمعيتان تقدمان في وقت واحد النشاط الرياضي والتعليم والتدريب العسكري، ورغم التغييرات التي جرت لاحقاً مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وإعلان الجمهورية التركية في عام 1923، غالباً ما كان يتم استدعاء الجيش للدفاع عن قيم الجمهورية. هنا تخلص مورو إلى فكرة جوهرية، وهي أن العسكرة التي عرفها المجتمع التركي لفترة طويلة في القرن العشرين لا تعود جذورها إلى لحظة قدوم أتاتورك وحسب، وإنما كانت أيضاً استمراراً وجزءاً من موروث القرن التاسع عشر العثماني وإصلاحاته العسكرية.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي