الخشبة والعتمة: المسرح السوريّ بوصفه مساحة وجوديّة كبيرة/ عماد الدين موسى
في تجربته عن العمل المسرحي في مدينة السويداء، التي أصبحت أيامها طيّ النسيان، وصارت جزءاً من ماضٍ أليم، كما كان أليماً لحظة انطلاقه مع مجموعة من رفاقه، يقدّم الكاتب السوري غسان الجباعي كتابه “المسرح في حضرة العتمة” (دار ميسلون 2019)، عربون محبة ووفاء لهم، ولتضحياتهم الكبيرة في مجال المسرح؛ إذ باكراً انطفأت شموع تلك الأيام، ولم يكتب عنها أحد، أو كما يقول: لم “يجرؤ على الكتابة حولها، ويتناولها بالدرس والتحليل، خوفاً من العقاب الأمني، الذي يطاول كل من يجرؤ على البوح برأيه، أو التغني بذكرياته، في بلد بات شعبه يخشى من ذاكرته”. لذلك يحاول كاتبنا نقل صورة واضحة عن تلك الفترة، مُركّزاً في كتابه هذا على محورين: الأوّل نظري؛ يتطرق فيه إلى أهم عناصر، وقضايا الفن المسرحي، الفكرية، والجمالية، ومحور تاريخي؛ يبدأ مع ستينيات القرن العشرين، ليتوقف طويلاً عند العصر الذهبي للمسرح في مدينة السويداء (1965 – 1975)، ليسرد بعد ذلك تجربة الفن المسرحي في سورية؛ من أبو خليل القباني إلى سعد الله ونوس؛ فالقباني أول من أسّس فرقة مسرحية في القرن التاسع عشر في دمشق، وأول من وضع الأسس الأولى للمسرح العربي والدرامي الغنائي، ليموت القباني بمرض الطاعون عام 1903؛ “لكن المسرح لم يمت بعده؛ على الرغم من ازدهار كثير من الأمراض السارية، التي رافقت مسيرته عبر العصور، كالتخلف، والتعصب، والقمع، والتدجين والعبودية!”. وفيما بعد بدأت الفرق المسرحية بالتشكّل في كافة المدن والقرى، وكذلك في مدينة السويداء، والتي خصّها الكاتب بكتابه، تقريباً منذ عام 1942، إذ يأتي على ذكر أبطالها، ومؤسسيها، من مثل سلامة عبيد وسلمان البدعيش.
الفن رهين العتمة
“نعم. المسرح في حضرة العتمة وليس الضوء، فالفن رهين العتمة، هل يستطيع الفن أن يكون
موجوداً بمعزل عن العتمة والضوء، الخشبة صفحة سوداء، مكتوبة عليها حكاياتنا البيضاء، بأجسادنا، وأغراضنا، وأرواحنا، وأشواقنا”. إذنْ؛ هي لحظة قدرية أن يلتقي الضوء والعتمة في مكان واحد، بعدما كانا بعيدين عن بعضهما في العرض المسرحي، وفي الفضاء الخارجي، الطبيعي، حيث نشأ هذا الفن أول مرة، ليكون رهين الحياة، رهين الضوء والنور، وابن اللحظة الطبيعية، التي جسدت فيها كل ما يخص الإنسان في حياته، وخصوصياته، وينقل له صورة عنها؛ بالتزامن مع مرآة يشاهد من خلالها نفسه وروحه؛ وجهاً لوجه؛ في كل مشهد، وكل حال، أو موقف، يقوم به الممثلون، ويجسدونه على الخشبة، لتصبح تلك الخشبة ساحة وجودية كبيرة، يتبدى فيها كل شيء معاً، في لحظة واحدة، وأمام كل من يحضر العرض، وتشتعل الثنائيات الإنسانية، الطبيعية والأخلاقية؛ (الخير والشر، الجمال والقبح، الصدق والكذب، البراءة والجريمة)، وكل ذلك يحضر بقوة، ويفرض ذاته على الذات الحاضرة لهذه المواقف، التي يقوم بأدائها الممثلون، ليتركوا في داخلهم وأرواحهم مواقف لا تنسى، وانطباعات تجاه تلك الأفعال الممارسة أمام أعينهم، بتفاعلهم معها، وطرح رؤى ومفاهيم ومسميات عليها.
الولادة الثانية
كانت الولادة الثانية للمسرح في سورية – كما يشير المؤلف – مع ظهور الكاتب سعد الله ونوس، الذي قدم مجموعة نصوص مسرحية، غاية في الأهميّة، منها: “حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران”، “الفيل يا ملك الزمان”، “مغامرة رأس المملوك جابر”، “الملك هو الملك”، “بلاد الضيق من الحب”، “الأيام المخمورة”، وتخلّى في تلك الأعمال عن المباشرة والتسييس واتجه إلى التأمل في الروح الإنسانية، ليترك بصمة كبيرة ومؤثرة في المشهد الثقافي والفكري المحلي والعربي، بالإضافة إلى المخرج فواز الساجر؛ الذي لم تطل إقامته على الخشبة بسبب موته المبكر.
القواعد الأولية للمسرح
يبدأ الكاتب بذكر أهم شروط قواعد الفن المسرحي، والتي لا غنى عنها، بغاية التوثيق لها، وتعريف الجمهور بها، وتكوين ثقافة مسرحية، ومفاهيم أولية لديه عن هذا الفن، وهي المخرج المسرحي وعلاقته بالنص وكيفية تعامله معه، وطبيعة الإخراج، ووظائفه، وخصائصه، ومدى حريته على ممارسة دوره في عمله، والقيود التي تقف في وجهه، مانعة إياه من تمثّل دوره على أكمل وجه، ونقل رؤيته الواضحة المعالم عن النص والمجتمع، كحالة إبداعية تتطلب منه ذلك، انطلاقاً من الرسالة والغاية التي يحملها في روحه عن العمل والطريقة التي يقوم باتباعها، كي يقوم بنقل تلك الرسالة وفق المطلوب منه، ليأتي الكاتب – فيما بعد – على ذكر الممثل الذي يشير إليه بأنه “جوهر العمل المسرحي”؛ فهو “المبدع الوحيد الذي يكون جسده هو الأداة، وهو المادة، وهو الموضع معاً”، فلا بد من أن يتحلى بالعفوية والانسيابية في ممارسة عمله، ودوره على الخشبة، لتكون تلك الأفعال متطابقة إلى حدّ ما مع الحالة الطبيعية للإنسان، في كافة حالاته ومستوياته، ليكون الإيقاع، والنقد، والجمهور، والسينوغرافيا.
من أرشيف الذاكرة
هل ماتت تلك الأعمال المسرحية التي تم تقديمها في الماضي القريب، لدرجة أنه تم نسيانها،
ودخولها في طيات الزمن، ليأتي الكاتب ويفتح باب الذاكرة؟ لعل الأمر الأكيد أن الجباعي يسرد مواجعه مع أيام خلت، حينما كانوا – هو ورفاقه- لا يألون أي جهد في سبيل إخراج نص مسرحي إلى الحياة، ونقله من على صفحات بيضاء على الورق إلى طور أكثر جدّة، وأكثر انسيابية، ليتواءم مع ذائقة توجه إليها هذه الأعمال، لتترك أثراً ربما ينسى مع الأيام، أو ليبقى ذلك الأثر بقاء الذاكرة نفسها التي ما زالت تحتفظ بها، سواء أكانت جماهيرية أم الذات المبدعة نفسها، التي أنجزت ذلك العمل في تلك الفترة العصيبة من التاريخ، لتصبح شاهداً على أن الماضي كان أقوى من الحاضر، على الرغم من كل شيء. ومن تلك المسرحيات التي قدمت نذكر – على سبيل المثال لا الحصر – “جثة على الرصيف”، “أسلحة مدام كارار”، “ثمن الحرية”، “المعلم توباز”، “الفيل يا ملك الزمان”، “الرسم بالبنادق” و”النسّاجون”.
العربي الجديد