جديد هنادي زرقة: كتابة الشعر بدلاً من الرواية/ عارف حمزة
يبدو أنّ الحربَ تُعطي وقتاً جيّداً للكتابة بالنسبة للشاعرة السوريّة هنادي زرقة؛ فخلال أعوام الحرب، التي بدأت في عام 2011، أصدرت الشاعرة ثلاث مجموعات شعرية. ولكن من جهة أخرى، وبقراءة هذا الكتاب، والكتاب الذي سبقه بعنوان “الحياة هادئة في الفيترين” – دار النهضة العربية 2016، سنجد أنّ الحرب لم تعط زرقة وقتاً جيّداً لكتابة رواية بدلاً من كتابة الشعر، إذ تواصل، تقريباً منذ مجموعتها “الزهايمر”- دار نلسن 2014، سيرتها في الحرب، وسيرة والدتها الطاعنة في السن مع حرب النسيان، الزهايمر.
في مجموعتها الجديدة “رأيتُ غيمة شاحبة، سمعتُ مطراً أسود”، الصادرة حديثاً عن دار النهضة العربية في بيروت، هناك شخصيّتان تعيشان مع بعضهما البعض، ولا بدّ لإحداهما، الشاعرة، أن تهتمّ بأدق التفاصيل التي تحتاجها الأخرى. إحداهما يجب أن لا تنسى والأخرى طاعنة في النسيان. هذا الصراع اللحظيّ المستمرّ سلبيّ وإيجابيّ في وجهيه. “كنتِ تخجلينَ بي/ كما لو أنّني ندبة في خدّكِ الأيمن./ وحين تموتين،/ سيسقطُ اسمي من ورقة نعيك”. بهذه البساطة الفادحة تفتتح هنادي مجموعتها الشعريّة الجديدة بالكتابة عن احتمال موت الشخصيّة التي ترافق حياتها. ومن هنا تبدأ رواية الحياة التي تجري تحت عناية حروب متعدّدة. حرب الحزن وحرب الأنثى التي لن تنجب أبداً وحرب الوحدة وحرب نسيان الأم وحرب الموت الذي
“هنالك شخصيّتان في المجموعة تعيشان مع بعضهما البعض، ولا بدّ لإحداهما، الشاعرة، أن تهتمّ بأدق التفاصيل التي تحتاجها الأخرى. إحداهما يجب أن لا تنسى والأخرى طاعنة في النسيان”
يسكن البيت وحرب سوء التفاهم مع العالم… والذي حرّك تلك الحروب الشخصيّة معاً بشكل عنيف ومفاجئ، وربّما غير المرغوب به، هو الحرب التي تمحي قطعاً كبيرة من بلدهما وسكانه. هذا يشبه العمل الروائيّ؛ السيرة تجري للخلف من افتتاح احتمال موت الأمّ، وشيئاً فشيئاً تدخلُ شخصيّات روائيّة جديدة. “كانت أمكِ تطبخُ أفضلَ منكِ،/ وكان غسيلُها أنصعُ من غسيلكِ./ لم تستخدم فرشاة أسنان، ولكن أسنانها كانت أشدّ بياضاً من أسنانكِ”. إذ تقوم شخصيّت أخرى بمقارنتها مع والدتها، ومع الاستخدام المتواصل لـ “كان. كانت” يبدو وكأنّهم يُقارنون بينها وبين شخص غائب تماماً لدرجة الموت! هذه المقارنة لا بدّ أن تصل بالشاعرة إلى كتابة “كيف لامرأة لا تُجيد القراءة والكتابة أن تعرفَ مقادير ما تضيفه/ من الملح والبهارات والحُب./ تأكلني الغيرةُ من امرأة لا يعنيها التنافس ولا تعرف الغيرة/ ماريا التي كان اسمها أمّي”.
الأب الميّت لا يغيب عن البال في الكثير من المواضع؛ تذكرُ قبره هنا أو هناك. الأزهار التي لا تذبل عليه، “حينَ كانوا ينادونني بنت الأرملة”. صورته المعلّقة على جدار البيت… كذلك هناك الجيران والأصدقاء والأخ والحبيب والكثير الكثير من الجنود الذي يُطلقون عليها النار وهي نائمة، ولكنّها تستيقظ فينتهي الكابوس وينتهي احتمال ذلك الجمال الغامض مع شرح الأشياء في بعض الأماكن.
في كثير من المقاطع يبدو الأمر على شكل حوار بينها وبين الآخر، الأم أو الأخ أو الجارة أو الأب أو الصديقة أو الجنديّ أو الشجرة… وهذا الحوار يشي بقصّة ما، حكاية جانبيّة قصيرة ضمن الحكاية الأساسيّة التي تحدثنا عنها في المقدمة. في مرات تكون هذه الدراما، المأخوذة من جريان الحكايات وبنيتها، قويّة وبخاتمة شعريّة تؤثّر في قارئ النص، وفي مرات قليلة تُعطي هذه الدراما الجانب السلبي للإسترسال أو الشرح أو العاطفة التي حاولت هنادي تفاديها بقسوة الباحث عن الشعر.
ليست قصيدة واحدة
المجموعة التي بين أيدينا لا عناوين داخليّة فيها. لا عناوين للقصائد، كما حدث مع المجموعة التي قبلها. إنها مقاطع تحمل أرقاماً وكأننا أمام قصيدة واحدة تحمل فقط عنوان الكتاب. ولكن من الواضح أنّ هذه المجموعة ليست قصيدة واحدة في ستة وثمانين مقطعاً تختلف في الطول
“في كثير من المقاطع يبدو الأمر على شكل حوار بينها وبين الآخر، الأم أو الأخ أو الجارة أو الأب أو الصديقة أو الجنديّ أو الشجرة… وهذا الحوار يشي بقصّة ما، حكاية جانبيّة قصيرة ضمن الحكاية الأساسيّة التي تحدثنا عنها في المقدمة”
وفي الأصوات وفي الصور التي تولّدها. ربّما أرادت الشاعرة عدم تقييّد مقاطع هذا الكتاب بعناوين. أو مثل شواهد القبور التي تحمل فقط أرقاماً خلال الحروب القاسية والتي بلا رحمة. وربّما كي يلتقي كتاباها الأخيران يوماً ما ولو في ميزة ليست من ابتكارها. حتى أنّ الشاعرة اختارت عنواناً لا يحملُ التقييّد أو الثبات؛ إذ لطالما كانت “الغيمة” تتبّدد، ولطالما كان “الصوت” عابراً كالغرباء، أو جارحاً أو بلا طائل، أو كالأشياء المهملة التي اهتمّت هنادي بعدم التخلّي عنها في هذه المجموعة. “يُهديني أخي العائد من روسيا لعبة ماتريوشكا كبيرة/ أفتح الدمى دمية دمية/ أصل إلى الصغرى/ أقول له: هذه أنا”. “أنا الصورة التي تُطيلُ التأمّلَ في الآخرين”. “بندول الساعة الذي يتحرّكُ بين الجدارين الخشبييّن/ يحسب أنّه يُحرّك الزمن”. “برفقٍ أيّتها السيدة التي تضربين سجّادة الصوف بعصاك الغليظة،/ ألا تسمعينَ ثغاء الخراف التي اجنزّوا صوفَها”. هذه الدقة في مراقبة الأشياء وإيرادها، والتعامل معها والإحساس بها، يدلُّ على الإفراط في الحزن ومراقبة شخص تبدّد حياتك من أجله، وقد لا يتذكرك لأشهر طويلة؛ فرط الحزن الذي ترسّب وترسّب حتى صار قاعاً لا يمكن الوصول إلى قاعه ولو كشطناه بالسكاكين.
الموت
الموت صار ثيمة صارخة للشعر السوريّ الجديد، والذي يُكتب حالياً في الداخل السوري، وحتى في خارجه. منهم مَن تعامل مع الموت هكذا كقدر، أو كسبب، ولكن كأنّه يأتي دفعة واحدة. ومنهم من قدّم الموت بتفاصيله القويّة والصارخة. “كنتُ سأحدّثكَ عن الحبّ/ لكنّني
“الموت صار ثيمة صارخة للشعر السوريّ الجديد، والذي يُكتب حالياً في الداخل السوري، وحتى في خارجه. منهم مَن تعامل مع الموت هكذا كقدر، أو كسبب، ولكن كأنّه يأتي دفعة واحدة”
مشغولة بالموت”. “أقرأُ الشعر للقطط الشاردة،/ للجثث المنتفخة على قارعة الطريق”. الموتُ في هذه المجموعة صارخ وتفصيّلي وربّما يصبح شديد الوطأة على القارئ أيضاً. وتتكرّر مفردة الموت لدرجة يطفو الكتاب على بحر ترديده. موت في البيوت وفي الشوارع وفي المدن وفي البحر وفي النباتات وفي الحيوانات… موت “دافق وغزير”.
الشاعرة هنادي زرقة (1974) تُعيد استعمال مفردات مجموعتها السابقة، وكأنّها لم تكن قاسية إلى ذلك الحدّ حتى ترشّ عليها القسوة هنا. الموت مقيم والحياة راحلة. “ماذا لو متُّ الآن؟/ مَن سينتبه إليّ، أنا الفتاة غير المرئيّة/ التي تخرجُ من الصباح حنى المغيب./ لن يسألَ أحد،/ لعلّ أخاً يكتشفُ بعد أيام أنّ المفتاح ليس في أصيص الزهر،/ وأنّ الأبوابَ موصدة،/ وأنّ رائحة تشبه الخذلان تنبعثُ من الشقوق والمدخنة”.
ليست رواية هذه المجموعة الشعريّة، وليست رواية شعريّة أيضاً. ربّما لكي تبقى هنادي زرقة أحد المُخلصين لكتابة الشعر. قصائد مؤلمة وموجعة وتجعل أحدنا يسمع لأصواتٍ خافتة وجانبيّة تحدث في الحرب. هي من أهمّ الأشياء فيها، والأكثر تعرّضاً للشقاء: البشر الذين صار حزنهم كالصوت الذي تبدّد وكذلك الغيمة الشاحبة التي تبدّدت.
*شاعر سوري مقيم في ألمانيا.
عنوان الكتاب: رأيتُ غيمة شاحبة، سمعتُ مطراً أسود المؤلف: هنادي رزقه
ضفة ثالثة