كتاب لا أريد له أن ينتهي/ بشير البكر
مذكرات مالته لوريدز بريغه/ راينر ماريا ريلكه
يعتبر غابرييل غارسيا ماركيز أن الرواية الناجحة هي التي تشدّك لقراءتها مرة ثانية، حالما تفرغ من القراءة الأولى. وهو حقق، إلى حد كبير، هذه المعادلة في أكثر من عمل له، مثل الحب في زمن الكوليرا، وخريف البطريرك. ولم ينجح في بلوغ هذه المنزلة كتّاب لا يقلون مكانة عن ماركيز، والسبب في ذلك كيمياء الكتابة وسحرها وقدرة الكاتب على أسر القارئ، وأخذه معه حتى نهاية العمل. ومثلما أن هناك أعمالا إبداعية تدفع القارئ إلى إعادة القراءة مرة وثانية، فهناك أعمال يقلع عنها القارئ قبل أن يكمل خمسين صفحة منها، وهناك كتبٌ تفرض علينا أن نقرأها بسرعة شديدة، ونركض بين صفحاتها ركضا حتى نبلغ النهاية، وثمّة كتب أخرى تجبرنا على قراءة متأنية، وربما متقطعة، وعلى فترات، وهذا النوع من الكتب الذي يشعر القارئ أنه لا يستطيع أن يأخذه جرعة واحدة، ويستحسن تقسيمه إلى أوقات متباعدة.
الكتاب الذي أود الحديث عنه هنا يقع في مرتبة الصنف الأخير، وهو كتاب الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه الذي عاش قرابة خمسين عاما فقط، ولكنه ترك خلفه منجزا شعريا وضعه بين كبار شعراء القرن العشرين، والذي لم يعتبره روبرت موزيل “شاعراً كبيراً فحسب”، بل “دليلاً عظيماً” حمل “صورة جديدة للعالم”. والكتاب هو “مذكرات مالته لوريدز بريغة”، الذي نقله إلى العربية المترجم الفلسطيني، إبراهيم أبو هشهش، وهو 71 مقطعا يمكن قراءتها منفصلة على أنها قصائد نثر قائمة بذاتها على تقنية اليوميات أو المذكرات. وما يميزه أنه كتاب سفر طويل في التواريخ والجغرافيات، ورثاء للفرسان والشعراء والمحاربين والمتصوفة والفلاسفة ورجال الدين واحتفاء بفنون الرسم والموسيقى. هو رحلات ينتقل بها الكاتب بمهارة شديدة، حتى يجد القارئ نفسه وقد أصبح في عصر آخر برفقة أشخاص آخرين، يشعر أنه قريب منهم، ولا يريد أن يفارقهم، ويبحث عن مزيد من أخبارهم. وتبدأ مذكرات “مالته” من باريس في نهاية القرن التاسع عشر التي وصل إليها، وبدأ يعاني فيها، وبالتالي هي مكتوبة تحت تأثير الانطباعات الأولى عن هذه المدينة الكبيرة التي كانت تعيش تحولا أصاب نمط الحياة الزراعية.
حين فرغت من قراءة هذا الكتاب، وجدت نفسي أردد مع ريلكه “لا شيء قويّ قوة الصمت. ولو لم نولد في قلب الكلمة لما كان من انقطاع عن الصمت”. وشعرت بأن زادا خاصا نفد، ولا يمكنني تعويضه. إلا أني، في الوقت ذاته، كنت أحس بقدر كبير من الاكتفاء، وليس علي أن أبحث الآن عن كتابٍ بهذه الطاقة العالية التي كتب فيها ريلكة هذا الكتاب الفريد، الذي أنفق ست سنوات في زخرفته، حتى جاء على هذا القدر من الجمال المعماري واللغوي والمعرفي. وحسب ما تفيد مقدمة المترجم، لم يطلق الشاعر على هذا العمل اسم رواية في أي مرة ذكره فيها في حواراته ورسائله، بل كان يسميه دائما “كتاب النثر” أو “كتابي النثري”. ومن يتعمّق في الكتاب يجد أن النثر المتقن الذي يحفل به يتقاطع، إلى حد كبير، مع شعر هذا الشاعر الذي يمتاز بالتكثيف، وهذا ما جعل من شعره عصيا على الترجمة، كما أشار الشاعر فؤاد رفقة الذي نقل بعض أشعاره من الألمانية إلى العربية.
وفي الختام، تستحق الترجمة التي قام بها أبو هشهش تحية خاصة، لأنه نقل كتابا على قدر كبير من الصعوبة إلى اللغة العربية، وقدمه بأمانة شديدة حافظت على ذخيرة العمل ولم تسقط منها شيئا، وأبو هشهش فعلا يستحق جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي التي نالها، عن ترجمته كتابا العربي الجديد