صور الدواعش: الأكراد السائرون على حافة السكين/ وليد بركسية
تدين الصور الأخيرة التي تظهر المعتقلين المنتمين لتنظيم “داعش” في أوضاع مزرية، من ناحية إنسانية، قوات سوريا الديموقراطية، من منطلق عدم قدرتها على القيام بهذه المهمة الصعبة بمفردها. لكن الإدانة أكبر للدول الغربية التي ترفض حتى الآن إعادة مواطنيها المنتمين للتنظيم، لمحاكمتهم والنظر في أمرهم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، التي يكرر رئيسها دونالد ترامب ذلك الطلب، العادل، من دون تطبيقه ذاتياً.
وبغض النظر إن كانت قوات سوريا الديموقراطية قد تعمدت ضخ الصور للعالم للغربي في هذا التوقيت، كلعبة إعلامية خطرة، للحصول على نفوذ سياسي، أو دعم في مواجهة هذا الواقع غير الإنساني الذي لا يجيزه القانون الدولي، أظهرت الصور المأخوذة من أول تقرير تلفزيوني مصور قامت به شبكة “سي بس إس” الأميركية من داخل أحد سجون قوات سوريا الديموقراطية، نوعاً من البؤس الذي سيغذي من دون شك الدعاية الجهادية عموماً، وليس فقط الدعاية الخاصة بتنظيم “داعش” حصراً. والتي من شأنها إعادة تدوير الضخ الجهادي لخلق عنف قد يتفوق على عنف “داعش” نفسه خلال ذروة نشاطه في سوريا والعراق، والتي ستؤذي الأكراد أنفسهم قبل أن تؤذي الحلفاء الغربيين.
وهنا، ظهر عدد من مقاتلي التنظيم، وقياديون بارزون فيه مثل حسام الشلوف الذي شغل منصب أمير العلاقات العامة في التنظيم، في وضع مزر. فبعضهم بدا نحيلاً جداً، كهياكل عظمية متحركة، بينما تحدث البعض عن إصابات مختلفة تعرضوا لها في المعارك التي قادتها قوات سوريا الديموقراطية بالشراكة مع التحالف الدولي ضد التنظيم، فيما ظهر بعضهم شبه عراة، وتكدس آخرون في زنزانات ضيقة، متلاصقين.
ولا يعني الحديث عن الظروف المزرية لمعتقلي التنظيم تعاطفاً إنسانياً مع أولئك الجهاديين الذين قدموا للعالم نسخة مروعة من الحكم الديني المتشدد يشابه التصورات عن القرون الوسطى، بقدر ما يمثل ضرورة براغماتية تنطلق من حقيقة أن الدعاية الجهادية، ستستفيد حتماً من هذه المشاهد، لتنقل الحديث عن المظالم بحق “الإسلام والمسلمين” من حيز التناقل الشفهي إلى حيز الإثبات البصري، والذي يأتي من “الإعلام الأجنبي”، وليس من قبل دعاية التنظيم نفسها. ويساهم ذلك في خلق سردية تقول أن “الأكراد الملاحدة” و”الغربيين الصليبيين” يذلون “رجال الإسلام”، أو ما شابه من تلك العبارات التي كانت روتينية في دعاية “داعش” منذ العام 2014، أو حتى في دعاية “القاعدة”، طوال نحو عقدين من الزمن.
الصور المذلة بشكل واضح، تذكر بالإذلال المشابه لمعتقلي تنظيم “القاعدة” في معتقل غوانتنامو الشهير، الذي مازال حتى اليوم يغذي الدعاية الجهادية حول العالم، والتي استخدمها تنظيم “داعش” بنفسه، رغم خلافه العقائدي مع “القاعدة”، من أجل استقطاب المتطرفين حول العالم. وتقديم نفسه ليس فقط كمنافس لـ”القاعدة” بل كبديل أفضل. وهو ما سيكرره التنظيم، من بوابة الدعوة للانتقام، أو أي تنظيم جديد يخرج من عباءته في المنطقة المضطربة.
والحال أنه بعد سقوط الرقة، وخروج مقاتلي التنظيم الإرهابي منها، قال الرئيس ترامب أن دولة الخلافة دمرت بنسبة 100%. لكن عشرات الآلاف من المقاتلين وعائلاتهم نقلوا إلى مخيمات مسيجة مخصصة للنازحين داخلياً من دون حماية وأمن أو دعم مراقبة. وبعيداً من المخيمات المخصصة للنازحين، التي وُضع فيها أطفال وعائلات تنظيم “داعش”، فإن هنالك أكثر من ألفي مقاتل للتنظيم تم توزيعهم على شبكة من السجون المؤقتة، تديرها قوات الأكراد التي تسيطر على قوات سوريا الديموقراطية، التي لا تملك مصادر كافية أو موارد بشرية، وهم حلفاء الولايات المتحدة التي تخطط للخروج من سوريا.
ورغم أن “داعش” لم يعد يسيطر على الأراضي، إلا أن هناك مخاوف قوية ومتنامية من أن التنظيم يستخدم المخيمات لإعادة تجميع صفوفه وتجديده. وفيما استعادت الولايات المتحدة استعادت 21 شخصاً من مخيم الهول، وتحاكم البالغين كلهم من الذين سافروا إلى العراق وسوريا، رفضت الدول الأوروبية عودتهم. بل إن بعض هذه الدول قامت بتجريدهم من جنسياتهم مثلما حصل مع شاميما بيغوم (19 عاماً) التي حملت في أحد الأيام الجنسية البريطانية. مع الإشارة إلى أن عبارة مثل “خلافة صغيرة” باتت متكررة لوصف مخيم الهول، بسبب النفوذ الذي تتمتع به الجهاديات الداعشيات هناك.
ومنذ انهيار “دولة الخلافة” المزعومة التي أقامها تنظيم “داعش” في العام 2014 كاسراً بها الحدود التقليدية التي بقيت صامدة في الشرق الأوسط لنحو 100 عام، باتت قضية المقاتلين الأجانب في التنظيم، مشكلة أسست لانقسام حول كيفية التعاطي مع أولئك الذين اختاروا في يوم ما التخلي عن أوطانهم بحثاً عن وطن جديد يكون لهم فيه نفوذ ومكانة تحت راية “الدين الإسلامي” و”الجهاد” وأوهام الجنان الأسطورية. والأسوأ من ذلك أن القضية باتت مجرد قضية أخرى للتجاذبات الانتخابية المحلية في الدول الغربية، وهو ما يمكن تلمسه في بريطانيا مع قضية بيغوم، قبل أشهر، أو في الولايات المتحدة مع تقرير “سي بي إس” الذي ركز على نفاق ترامب، لمطالبته الحلفاء الأوروبيين باستعادة دواعشهم رغم وجود أميركيين في السجن الذي زارته القناة، مع تجاهل أن الولايات المتحدة استعادت 21 شخصاً من مخيم الهول ، وتحاكم بينهم البالغين الذين سافروا إلى العراق وسوريا.
وهنالك مخاوف عالمية من أن عدم إخراج أعضاء تنظيم “داعش” والإرهابيين الأجانب الآخرين من منطقة الشرق الأوسط قد يساهم في صعود جديد للنهج التكفيري. ويقول مسؤولون أميركيون في تصريحات متشابهة تتناقلتها وسائل إعلام عالمية منذ شهور، أن المسجونين الأجانب في سوريا هم الحمل غير المرغوب في الحرب ضد “داعش”، ولكن في حال تم التساهل في معاملة هؤلاء السجناء، فقد يساهم ذلك في الصعود الجديد للتنظيم الإرهابي. وبالتالي يجب إيجاد حل للمشكلة بدلاً من مجرد تجنبها، وهو ما تجلى في اقرير للمفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية “بنتاغون” بهذا الخصوص الشهر الماضي.
والمشكلة أنه لا حل مثالياً لأوضاع أعضاء تنظيم “داعش” الأجانب وعائلاتهم. فإذا تم إعادتهم كي يخضعوا للقوانين الأوروبية المحلية، فسيكون العائق الأبرز متمثلاً بكيفية جمع الأدلة المطلوبة لإخضاعهم إلى المحاكمة وإدانتهم لاحقاً. علماً أن العديد من المطلوبين قد يتمسك بالفرضية التي تمسك بها النازيون القدامى بعد الحرب العالمية الثانية، بأنهم لم يقاتلوا بل كانوا مجرد سائقي سيارات إسعاف وطهاة. ومن المقدر أن الكثير من النساء سيدعين أنهن كن مسجونات في المنازل للقيام بالواجبات المنزلية والتوليد، بعكس ما تشير إليه التقارير الأمنية أن النساء، والأجنبيات على وجه الخصوص، كن بمثابة أداة فعالة للدعاية والتجنيد وعدد قليل منهن كن عناصر في الشرطة الدينية.
وتتجادل الحكومات الأوروبية بين بعضها البعض بأن على الإرهابيين أن يحاكموا في البلد الذي ارتكبوا فيه جرائمهم أو على الأقل في بلد قريب منه بما فيه الكفاية في منطقة تسهل جمع الأدلة حول أفعالهم الإجرامية. لكن من جهتهم، يطالب دعاة حقوق الإنسان إلى إنشاء محكمة دولية. وهنالك مشاكل في التعامل مع نظام الأسد لعقد محكمة في سوريا، وهناك مخاوف من أحكام الإعدام في حال اللجوء لعقد محاكمات في العراق المجاور الذي يستطيع محاكمة الإرهابيين الذين نشطوا على أراضيه فقط، وتقترح وسائل إعلام وسياسيون النفي نحو “جزر الموت” المنعزلة أو الاعتقال في جزر على غرار معتقل “غوانتنامو” الذي أظهر عدم إنسانيته بتاتاً. وربما يكون الخيار الأخير المتبقي، هو استعادة المعتقلين الأجانب إلى بلادهم الأم، حيث السجن الانتقائي، وضع إشارات عليهم وتشتيتهم، وإجبارهم على نشاطات خدمة المجتمع وإعادة التأهيل الدقيق. بالطبع لن يكون هذا القرار شعبياً بجانب خطره الأمني، وسيغذي بالتالي التجاذبات الحزبية في زمن السياسات الشعبوية، ما يشكل حلقة مغلقة.
ولا يشير ذلك كله لمشاكل أكبر تتعلق بالنظام القانوني العالمي، بل أيضاً بجذور العنف في الإسلام نفسه، والتي تنجح الدعاية الجهادية في تحويله إلى عقيدة وأسلوب حياة. فمهما كان الخيار المتخذ هنا، فإنه سيشكل مادة لدعاية جهادية جديدة في المستقبل خصوصاً أن قدرة “داعش” على تشكل دولة الخلافة ولو لفترة قصيرة، غيرت المعادلة إلى الأبد، وحولت أولئك المهاجرين إليها من انتماءاتهم الأصلية، كمواطنين فرنسيين أو بريطانيين أو أميركيين، إلى جيل جديد من المواطنين الإسلاميين، الذين تباهوا قبل سنوات بحرق جوازات سفرهم أمام عدسات “داعش”.
هذا المشهد المربك، يتزايد عند النظر للجدل الإعلامي البيزنطي حول القضية، بما في ذلك تقرير “سي بي إس” نفسه، والذي يعزز الصورة التي تحكم العالم اليوم وهي أن العالمين الإسلامي وغير الإسلامي باتا لا يتسامحان مع بعضهما البعض، لأن السياسين في العالَمين يميلون لمخاطبة أصحاب الآراء القائمة على الخوف من الآخر، ما يرجع بالضرورة إلى فلسفة صراع الحضارات في عالم متغير تنهار فيه القوة الغربية وتنشأ فيه قوى جديدة، وتبحث فيه الدول والأفراد عن معنى للانتماء والمواطنة.
المدن