السوري المغيّب عن نفسه وواقعه/ سوسن جميل حسن
يُقال إن المجتمع القابل للتعزيز هو المجتمع الذي يُشبع حاجاته من دون إقلال إمكانيات الأجيال القادمة. لكن مجتمعاتنا لم تكن تمتلك مقومات التعزيز فيما لو توفرت لديها النية، وأخمن أنها كانت موجودة لكنها كغيرها من النوايا والطموحات أخذت تتلاشى مع الزمن وتراكم الخيبات والشعور العارم بالهزيمة التي صارت تستبطن النفوس كحالة لم تعد بحاجة إلى إيجاد مبرراتها، وصل الشعور باليأس والإحباط لدى الشعب السوري حدّ أن أصبح يبدو بلا اكتراث أو مبالاة بواقعه، وكأن حياة الاستنقاع التي عاشها على مدى العقود الماضية كانت كفيلة بأن تقتل لديه الحافز، وتقضي على وعيه بذاته ومسؤوليته الأخلاقية على الأقل تجاه أبنائه أو جيل المستقبل.
جاءت الحرب المدمرة وقضت على إمكانية النهوض، صار الشعب السوري يعيش بلا مستقبل، لقد وصلت به حالة الضيق والفقر والفاقة والتشرد والشعور بفقدان الوطن إلى حالة فقر الدم وفقر المخيلة والشعور باليأس القاتل، فالسوري يعيش على الرمق في كل شيء وعلى حدود الموت الذي يحاصره، رغيفه لم يعد كرغيف البشر، رغيف أشبه ما يكون بنشارة الخشب المعجونة بالماء والمتروكة للشمس تجففها، حتى ما يسد الرمق صار بالنسبة لغالبية السوريين يتطلب رحلة معاناة قاسية وجهدًا ومشقة، فهو يعيش في الهامش من كل شيء له علاقة بالحياة، ويعيش في قلب الموت بشكله الفج الصارخ وبشكله الموارب المتخفي بأشكال لا تحصى.
يعيش السوري في الأزمات التي تتوالد من بعضها وعليه احتمال المرّ هروباً من الأمرّ، لكن حياته صارت مرارة تعجن بعضها بعضاً وتنهشه في أعماقه، ليس بيده حيلة، فموارد البلاد، بلاده، لغيره، لأولئك الذين بلا أسماء، أولئك الذين لا يُسمون، أولئك المعروفين الحاضرين بغيابهم، الذين بأيديهم المصير، كل المصير.
لم يتركوا للشعب ما يشبع حاجاته حتى يفكر بحصص الأجيال القادمة، مع أن السوري كانت تعيش في دمه ومورثاته مسؤولية توريث أبنائه على المستوى الشخصي. لقد كان همه أن يفني حياته كي يوفر لأبنائه ما يجنبهم الحاجة والسؤال، وما يدعمهم في بناء حياتهم المستقلة. لكن الفساد لم يترك حصة في بلاده ومواردها. السوري كان يعيش في مستنقع الفساد الذي يفرّخ ما لا قدرة على مواجهته من سوس النخر وفيروسات الخراب، الفساد الذي يلزمه مفسدون امتلكوا السلطة والسطوة ورقاب الناس، مفسدون يزدادون ثراء على حساب أبناء الشعب حدّ التخمة، بينما الشعب يزداد فقرًا وحرمانًا وفقدان أمن وأمان وأمل، يتغذى بالوطنية والشعارات الطنانة ويتنازل عن الوطن لهم بصك الإذعان الرهيب.
ليس الفساد حالة طارئة على السوريين، لقد عاشوا تحت سطوته عقودًا جرّت البلاد إلى الهلاك، واليوم صار مثل ورم خبيث مستفحل يقضم الحياة بجبروت لا يقاوم. لكن المذهل في الأمر أن هناك من بقي يعقد الأمل على الأوهام، وكأن تلك المرأة التي كانت تغلي الحصى في القدر لتجعل أطفالها الجائعين ينتظرون الأكل واهمين بينما أحشاؤهم يأكل بعضها بعضاً، كأنها صارت عنوان الحياة الحالي، تُطبخ آلام السوريين على نار من الكذب والتضليل بينما ينظرون إلى الأبخرة الملونة العابقة في فضائهم على أنها البشارة التي لا تأتي، البشارة بالخلاص وأن هناك حقيقة تطهى وليست حصى مراراتهم، فتراهم يتلقفون كل حين مفرقعة أو قنبلة صوتية ينتشر صداها ونسيسها في أجوائهم اليائسة ويتجرعون ما يزيد في خدرهم وغرقهم ذاهلين عن أوضاعهم المأساوية التي فاقت الخيال البشري، ينشغلون عن صراخ بطونهم الخاوية وأرواحهم النازفة وكرامتهم المطعونة بملاحقة سعر الدولار كأنهم يتابعون فيلمًا من أفلام الرعب، الدولار الذي صار كابوسهم، يقض مضاجعهم، يهدد أبسط حاجاتهم، يعصر لقيماتهم فيزدردونها كبرادة الحديد الحامية، يشغلهم الدولار وينسيهم أنفسهم وكأنه صار عدوهم الوحيد، قاتلهم الوحيد، سارقهم الوحيد، يلاحقون الصفحات التي تتناسل على شبكة الإنترنت متلهفين لمعرفة ما يحدث حتى صار مسلسل الدولار يفوق المسلسلات التركية المدبلجة التي تبدأ ولا تنتهي، وصار هاجساً يشغل النوم واليقظة.
ليس فقط مسلسل الدولار، بل صارت حياتهم حلقات لا تنتهي من اللهاث خلف الخبر الذي يرميهم في متاهته، كل يوم خبر جديد عن فساد ومحاسبة وأرقام فلكية فينهال السوريون على صفحات التواصل الاجتماعي، لكل واحد الحق في أن يقول كلمته، كلام يتلوه كلام يتلوه كلام، لكن اليأس ينز مثل صديد من جروحهم المتقرحة، كلام يمضغون به مواجعهم ومآسيهم، يهربون منها من دون أن يدروا، أو ربما يدرون دراية العاجز عن المصير، فيبتعدون عن لب المشكلة ويشيحون بوجوههم عنها.
قال أحدهم من ضمن شلال التعليقات على قضية فساد واختلاس وزير التربية السابق هزوان الوز الذي اتهم باختلاس ورشى مع مجموعة قيل إن قيمتها مئات المليارات السورية: “أنا بسامحو بس يرجعلي رسم النشاط والتعاون الذي كنت أدفعه طول سنين دراستي”. قول عفوي يلخص حالة أكبر من الوصف وأعقد من أن تحصر في كتاب، إنسان مهزوم يهزأ من قدره ويلعب بكوميديا سوداء دور الحسيب والحكم الذي في الأساس يجب أن يكون لاعبه الحقيقي، فهو من الشعب ويجب أن تكون السلطة للشعب، له، لكنه شعب منهوب مسروق منتهك الحقوق، فأي قهر وأية ملهاة تفوق الخيال؟
يعيش السوري فيما بقي من وطنه غريبًا عن نفسه، بل هو على قطيعة معها، لا يمتلك حيلة أمام أمره فقد سلب على مرّ السنوات ثقته بنفسه وسلب قراره وإرادته حتى وقعت الواقعة وانتزعت منه بقايا مقاومته من أجل حياته، أمنه، حريته، كرامته، بل وجوده كله. هكذا يتم إشغال السوري عن واقعه ويُعدم القدرة على التفكير بحلول تنشله من مستنقع الحياة الذليلة المهانة. يتوهم السوري، والشائعات تلقى في فضائه ويهزه رجعها المدوي، أن طرف الخيط قد صار بين الأيدي ممسوكًا بإحكام، خيط النجاة وصناعة الحياة القويمة، بينما في الواقع هو يتفرج على حياته البائسة ويجتر المرارة من دون أن يدري، بعد أن فقد الحافز والأمل والثقة بنفسه، بعد أن غيبه التضليل عن وعيه وزاد في غربته عن نفسه. السوري غارق في لجة الإشاعات التي تصوغ له واقعًا موازيًا يلقيه بعيدًا عن واقعه المظلم الظالم، واقعًا بوعود غشاشة ومراوغة بارعة في استبدال الحقيقة بالأكاذيب، فتنسل من بيد يديه إمكانية التفكير في اختراع حلول لمأساته، فأين التعزيز المرجو من مجتمع أفراده غارقون في مستنقع الأوهام ذاهلون عن واقعهم غافلون عن مصيرهم؟
تلفزيون سوريا