موظفون عثمانيون وبلديات ومقاه جديدة عن الحداثة الحضرية في المدن العربية/ محمد تركي الربيعو
عرفت السنوات الأخيرة في عوالم الكتب العربية اهتماماً متزايداً بنشر الكتب التي تعنى بتاريخ وواقع المدن العربية في الفترة العثمانية. ولعل أهم ما ميّز الموجة الجديدة من الترجمات أو المؤلفة في هذا الحقل، أنها استطاعت إما العودة إلى القرن الثامن عشر والنظر له بوصفه قرناً شهد تحولات اجتماعية وحداثوية مبكرة، تمثّلت في بروز أوسع لأدوار العامة، التي أخذت تعتمد أشكالاً جديدة من التعبير عن واقعها اليومي، كما أن ما ميز هذه القراءات أنها أخذت تُشكِّك ببعض الرؤى المهيمنة على هذا الحقل، وبالأخص رؤيتين، الأولى تتعلق ببعض المقولات القائلة بأن القرن الثامن عشر كان قرن التدهور واللامركزية، وهو ما تمثّل في ظهور بيوتات الأعيان التي باتت، وفقاً لهذه الرؤية، هي الحاكم الفعلي للمدن، في حين استطاعت المؤرخة دينا رزق في كتابها الفريد عن ولاية الموصل، أن تبيّن عدم دقة هذه الرؤية التي لم يقتصر طرحها على ألبرت حوراني، وإنما شملت أيضاً مؤرخين عربا آخرين من أمثال، وجيه كوثراني والمؤرخ العراقي سيار الجميل، إذ ما يُلاحظ من خلال تحليل الباحثة لخطابي كوثراني والجميل حول القرن الثامن عشر، أن كلا القراءتين بقيتا تحومان حول فكرة أن ظهور الأعيان قد جاء على خلفية انحدار الدولة العثمانية، وهو تحليل يقدّم، وفق وصف فيليب خوري، شكلاً غير تاريخي للهيمنة السياسية (عبر إسقاط قراءة ابن خلدون ولاحقاً غلنر وحوراني) التي كانت مبنية على تفسيرات مفكري العصر الوسيط حول طبيعة السلطة.
أما الرؤية الثانية التي شهدت مراجعات عميقة، هي تلك التي تتعلق بطبيعة المؤسسات السياسية والحضرية، التي تشكّلت في القرن التاسع عشر، الذي عرف جملة من الإصلاحات والتنظيمات السياسية، إذ رغم الاعتراف ببروز أشكال جديدة من العلاقة بين السلطة والمجتمع، إلا أنها ليست بالضرورة أكثر ليبرالية، إذ يشير مثلاً زهير غزال في دراسته لدمشق القرن التاسع عشر، إلى أن السلطات العثمانية استغلت أحداث 1860 التي عُرِفت بمذابح المسيحيين، لتزيد من سيطرتها على المدينة. بيد أن الإشكالية بقيت في غياب دراسات كافية لفهم طبيعة المؤسسات السياسة والحضرية الجديدة، التي عرفتها هذه الفترة، فغالباً ما سيطرت إنجازات بعض الولاة العثمانيين والإصلاحيين على هذه الفترة، من أمثال مدحت باشا، بينما أُغفِل دور المؤسسات أو القنوات الحضرية الجديدة، التي أعادت من خلالها نخب المدن إدارة المدينة. ولعل من الدراسات الجديدة والفريدة المترجمة للعربية على صعيد المقاربة، هو الكتاب المنشور بعنوان «المجالس البلدية في حوض البحر الأبيض المتوسط» إصدار المركز القومي للترجمة، ترجمة، عثمان مصطفى عثمان. إذ تركِّز الدراسات المنشورة فيه، التي أعدّها عدد من الباحثين المتخصصين بدراسة المدن العثمانية مثل بيروت والقدس ودمشق وتونس، على دور هذه المؤسسة الحضرية (البلدية) داخل المدن العثمانية، وكيف استطاعت الحلول محل المؤسسات التقليدية.
وخلافاً للرؤى التي بقيت تعتقد أن دور هذه المؤسسات لم يبرز إلا مع قدوم الكولونياليين، جراء هيمنة المؤسسات التقليدية، تبيّن نورا لافي محرّرة الكتاب، أن أي مقارنة مع واقع بدايات نشوء هذه المؤسسات في أوروبا، تبيّن أن الإصلاحات في تلك القارة لقيت عنتاً في فرض نفسها على بنى النظام القديم، وأن حداثة الإدارة الحضرية (البلديات) كانت في حالات كثيرة ثمرة توفيق بين الأنظمة القديمة والجديدة.
في سياق آخر، يحاول ستيفان ويبر الباحث الألماني (مؤلف كتب عديدة عن دمشق) دراسة ظهور هذه المؤسسة، وتتبّع آثارها على المشهد الحضري في دمشق. يرى ويبر أن المجلس البلدي جاء خلفاً لمجلس الإدارة والديوان. وكان الديوان بمثابة هيئة تشاور وإدارة تجمع الزوالي وكبار موظفي الإدارة والأعيان. بيد أنه مع إصلاحات القرن التاسع عشر مُيِّز شيئاً فشياً، بين مختلف مهام الإدارة، وأُنشِئت هيئات حكم مختلفة، تضطلع كل منها بوظيفة محدّدة. كانت أولى الخطوات في هذا الاتجاه، هي تلك التي قام بها إبراهيم باشا أثناء فترة الحكم المصري، والتي تمثّلت في إنشاء مجلس الشورى، ليضطلع بإدارة المسائل المالية والقضائية، وكذلك لحماية الأقليات الدينية، وقد تابع العثمانيون تلك السياسة بعد استعادة الشام، إذ تبيّن أقدم الوثائق التي وصلتنا عن هذا المجلس في أربعينيات القرن التاسع عشر أسماء الأعضاء الذين جرى اختيارهم بالتساوي، وحسب الأحياء التي ينتمون إليها، فمثلاً نعثر على اسم محمد علي الجعفري عن حي القنوات، وعن القيمرية أنيس الحلبي، وعن الصالحية خليل آغا عابد ومحمد آغا باربور، وعن العمارة حمزة الطواشي أو أرسلان آغا وأسماء أخرى عديدة، ومن بين الأعضاء الذين ضمّهم مجلس الإدارة أيضاً، القاضي والدفتردار والمفتي، كما ضمّ للمرة الأولى ممثلين عن الأقليات الدينية. وقد اكتسب هذا المجلس نوعاً من الاستقلال عن الوالي، بل كان أحياناً يمارس دور المراقب لقرارات الوالي وسياساته، وبذلك أصبح أحد أدوات السياسة المحلية في دمشق.
ولكن زيادة سيطرة العثمانيين على المدينة، كما أشار زهير غزال، أفضى إلى تبنّي فكرة إنشاء المجلس البلدي كبديل عن المجلس السابق، وتألف المجلس الجديد من 13 إلى 14 عضواً في المتوسط، وكان اختيار رئيس البلدية يجري بالانتخابات، وحمل هذا الملمح دلالة جديدة، فاختيار رئيس المجلس بالانتخابات، كان يعني مأسسة أوسع للمشاركة المحلية، وفسح المجال للاعبين محليين جدد بالدخول وإبداء الرأي بسياسات تخطيط المدينة، إذ اشتُرِط في المتقدمين للمشاركة في الانتخابات، أن يكونوا من الرعايا العثمانيين الذكور، ويزيد سن الواحد منهم عن 25 سنة ويدفع ضريبة سنوية عن ثروته لا تقل عن 50 قرشاً، كما كان يُشترط للترشح، أن يكون المرشح ذكراً من رعايا الدولة، ولا يقل عمره عن 30 سنة ويدفع ضريبة سنوية عن ثروته لا تقل عن 100 قرش، وبذلك أضحى أعضاء المجلس ممثلين للإدارة العثمانية ولناخبيهم في آن، ولذلك فقد كانوا عرضة للانتقادات المحلية، التي قد تساهم في عدم إعادة انتخابهم.
ماذا عن دور الوالي؟
في غالب الأحيان، كان يجري التركيز على الوالي، بوصفه من يقف وراء حملات الأشغال العامة، في حين يعتقد ويبر أنها صورة قد تبدو رومانسية بعض الشيء ومنقوصة، فالوالي ورغم سيطرته على القرار الإداري، إلا أن تأسيس البلديات أدى إلى أن تغدو هذه المؤسسات الجديدة عبر موظفيها اللاعب الأساسي في إعادة تخطيط واقع المدينة. ولعل ما يؤكد ذلك، مكان اختيار مقر البلدية. فبدلاً من أن يكون مقرها في المدينة القديمة، جرى اختيار ساحة المرجة مقرا لها، وكانت تعتبر آنذاك مكاناً شبه فارغ، ما عكس رمزياً رغبة عثمانية ومحلية بإعادة تخطيط المدينة وتوسعتها عبر هذه المؤسسة الحضرية الجديدة. وهذا ما تؤكده المهام التي أُوكِلت إليها، إذ أخذت تقوم في تلك الفترة بتمويل المستشفيات والسراي، كما أنها خطّطت لتوسيع سوق الحميدية.
ويتّضح دور البلدية في الإدارة الحضرية بجلاء أكبر، في بناء الأحياء الجديدة أو الأعمال الخاصة بالطرقات، ومن بينها إعادة بناء الجامع الأموي بعد الحريق الذي شبّ في المدينة 1893، وتخطيط حي المهاجرين، وبناء مستشفى الغرباء، والحديقة البلدية والعديد من عناصر البنية التحتية. كما ساهمت مشاريع البلدية في خلق أنماط جديدة من النشاط الاجتماعي والثقافي، فقد أدّى فتح وتوسعة الشوارع والساحات، إلى خلق فضاء عام جديد غدا يوماً بعد يوم موضعاً لوقت الفراغ، وأيضاً لعقد الاجتماعات السياسة. ولعل من المعلومات الطريفة التي تؤكّد هذا الدور في خلق مزاج ورأي عام في المدينة، هو قيامها عام 1878 بإنشاء أول حديقة عامة على شاطئ نهر بردى غرب ساحة المرجة، كما أنشأت مقهى للبلدية، كان بناؤه في السابق مرتبطاً عادة بالولاة أو الأوقاف والجماعات الصوفية، وهذا ما يعكس رغبة منها في الاستفادة من هذا المكان الذي عرفته المدينة لصنع رأي عام ونخب جديدة. كما ساهمت في إنشاء صيدليات عامة.
ولعل ما تبينه المعلومات السابقة، أن دمشق لم تدخل عصر الحداثة الحضرية مع الانتداب الفرنسي، بل عرفت تغيرات عميقة قادتها البلدية. ولم تكن دمشق حالة قائمة بذاتها، حيث يكشف جنس هانسن في دراسته عن بيروت العثمانية، أن المجلس البلدي في بيروت لعب دوراً جوهرياً في تحديث المدينة ومشهدها الحضري. فعلى الرغم من أن بيروت كانت فيها جاليات أجنبية كبيرة، مع ذلك، فقد بقي دور تلك الجاليات في الدفع نحو التحديث والتخطيط محدوداً على ما يبدو. وبالتالي فإن تطوّر المدن الرئيسة في الدولة العثمانية منذ أوساط القرن التاسع عشر لم يأتِ جراء سياسات الولاة، بل نجم عن ظهور مؤسسات إدارية جديدة ودفعها لرؤية جديدة حول المدينة والعمارة، ما ساهم لاحقاً في خلق مشهد حضري مشترك بين المدن العثمانية، إذ يلاحظ مثلاً، في العديد من المدن العثمانية، وجود أشباه لساحة المرجة في دمشق، تُقام لتصبح قلب الحي الإداري الجديد. ومن ذلك ما نجد في ساحة البرج في بيروت بميلادها، وبفكرة التطور التي تنطق بها، والتي تتشابه كثيراً مع ساحة المرجة في دمشق.. وباختصار، فإن ما يسعى المؤرخون إلى قوله من خلال دراسة وإحياء معطى البلديات، أن المدينة في حد ذاتها كانت جزءاً أخاذاً من عالم في طور التحديث، وأن أي دراسة للحداثة الحضرية في هـــــذه المدن لا بد أن تأخذ في حسبانها دور البلديات وموظفيها كعامل أساسي ومهم لفهم ما جرى بدلا من الاقتصار على أخبار الولاة وقراراتهم.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي